الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكرياتٌ و خواطر لا يسعها عنوانٌ واحد

سعدون الركابي

2017 / 1 / 16
سيرة ذاتية


براءة ذِمّة

الحلقة الأُولى

في الأيامِ القليلةِ الماضية, كان يطرِقُ في خاطري, بأنني قد أكسِرُ الجليدَ و أعودُ للكتابةِ ثانيةً و لو لمرةٍ واحدة. بعد أن إنقطعتُ عنها, منذُ أشهرٍ ليست بالقليلة. ذلك إنّ شخصأ ما أعرفهُ, قد يُلاقي وجهَ ربِّه الكريم. فيُثيرُ شجونأ في نفسي, تستدعي مني الكتابة و الرثاء. و لقد بلغني, خبر رحيل الأستاذ الفاضل سمير خضر فشاخ. فالرحمة و المغفرة للفقيد, و الصبر لذوي الفقيد. إنّا لله و إنّا إليهِ راجعون.
نظرآ لأنَّ الحديث سيدور عن ذكرياتٍ مُمتدَّةٍ مُنذُ أكثر من سبعةٍ و أربعين عامآ و حتى وقتٍ قريب, فإنني سأسترشدُ بالذاكرة و بدفترِ مُذكراتي الذي أحتفظ بهِ معي الى اليوم. و سوف أُكثرُ من إستعارةِ الفعل الناقص " كان و أخواتها ", إضافةً طبعآ, لأفعالِ الماضي التي سأحتاجُ إليها في الحديث. و هذا أمرٌ مُعتادٌ في الحديثِ عن الماضي و أحداثهِ. لقد كان الإستاذان الفاضلان, الإستاذ عبدالواحد خضر و الإستاذ سمير خضر, كانا مثالآ للمُعلِّم الذي يمكن الإستشهاد بهِ, بأخلاقهما و تواضعهما و سعةِ ثقافتهما. و كانت مدرسةُ النبراس - إسمآ على مُسمّى- منارةً بصدقِ. و كانت هذه المدرسة, تقودُ منارةَ العلمِ و المعرفةِ, و تفتح الأبصار و البصيرة لعشراتِ الآلاف من أطفالِ قرى " بني ركاب ", إن لم أقُل المِئات, و منذُ أكثر من نصفِ قرن. و لقد حباها الله بصفوةٍ نادرةٍ من الأساتذةِ " المُعلمين " الأفذاذِ بجدارةٍ. أقولها إنصافآ لحقيقةٍ و ليس تملُّقآ أو إنحيازآ غير موضوعي. لقد تفانى هؤلاء الأساتذةُ, بصدقٍ و أمانةٍ و جدارةٍ, في تربيةِ و تنشأةِ أجيالٍ بعد أجيال.. و كانوا يتفاخرون من جيلٍ الى جيل, بما أنجزتهُ مدرسة النبراس, منارة العلم و المعرفة. و كانوا يستشهدون بهذا المثالِ أو ذاك, ممَّن أنشأتهم هذهِ المدرسة, خير منشأ, ممَّن يمكن الإفتخار بهم, و من مختلف الأجيال. و في حقيقة الأمر, فإنّ هؤلاء الأساتذة يمتدحون مؤسسةً رمزيةً, من الحجارةِ و الطابوقِ و الطين ( كانت نصفُ صفوفِ مدرسةِ النبراس قد بُنيت من الطين! ), و ما تحتويهِ هذهِ المدرسة من مقاعدٍ و دفاترٍ و كُتب. و هم بنفس الوقت يبخلون على أنفسهم - تواضعآ – في ذكر دورهم الأساس في كُلِّ هذهِ الإنجازات. هم لم يكتفوا بتعليمنا القراءةِ و الكتابة, بل علَّمونا حِسنَ السلوكِ و محاسن الأخلاق و إحترام الناس. كما علّمونا الصراط المُستقيم. فمن شاء اللهُ لهُ أن يهتدي, فقد إقتدى و إهتدى, و من لم يشأ لهُ ذلك أختلف. و أنا أزعمُ - مُستشهدأ بالله -بأنني قد إقتديتُ و إهتديتُ. كان لإستاذِ التربيةِ الدينية في الصفِّ الرابع الأبتدائي, الإستاذ الفاضل عبدالحسن ياسر عباس, الأثر الكبير في توعيتنا دينيآ. فمثلآ, و بعد أن علَّمنا فريضة الصلاة و بأوقاتها نظريآ, قد فاجئنا ذات يوم, بالطلب مِنّا الخروجِ من الصفِّ, بهدوءٍ و إنتظام. و التوجه الى ضِفَّةِ جدول " الصبّاب " المُجاور للمدرسة. و راح الإستاذ يؤدي مراسيم الوضوء أمامنا, خطوةً بعد خُطوة, و يطلبُ مِنّا أن نتوضأ نحن مثلما رأيناهُ هو. بعد ذلك, طلب مِنّا الإصطفاف على التراب في ساحةِ المدرسة, و أداء الصلاة تمثيلآ بأوقاتها. كان إلتحاقي بمدرسةِ النبراس, في النصف الثاني من سنة 1967. كان معلِّموا النبراس طيفآ مُتنوِّعآ من مُختلفِ المشاربِ و الإتجاهات, يقودهم الإستاذ المرحوم خليل إبراهيم الفشاخ. إلا إنهم جميعآ كنوا يجتمعون بتفانيهم في تعليمنا و تربيتنا خير تربية. كُنتُ في الصف الثالث, و كان مُرشدُ الصف و مُعلِّمنا لمادةِ الرياضيات, الإستاذ عبدالواحد خضر. كان يكتب المسائل الحسابية على السبورة. و نحنُ بدورنا نقومُ بكتابتها في دفاترنا. و بعد ذلك نقومُ بإيجادِ الحلولِ لها. و ما أن ينتهي الإستاذ من كتابة هذهِ المسائل على السبورة, حتى كان يُفاجأ بي واقفآ و دفتري بيدي. مُعلِنآ إنهائي للمسائل, في الوقت الذي لم يُنهِ زملائي في الصف, حتى نقل هذهِ المسائل من على السبورة. و لقد أعترض بعضهم, بأنَّهُ لابُدَّ أن أنتظرهم حتى يُكملون النقل, و بعد ذلك يبدأ الجميع معآ " بالحل ". فرفض الإستاذ عبدالواحد إعتراضهم قائلآ؛ بل عليكم اللحاق بهِ إن إستطعتم, و ليس إيقافه لينتظركم. و ممّا أثار إعجاب الإستاذ, إنني لم أكن الأسرع فقط في إنهاء الواجب, بل كُنتُ أُنهيهِ صحيحآ دائمآ. فراح يُكيلُ لي المديح أمام زملائهِ الُمعلِّمين و أمام الناس الآخرين. إذ قال لي الإستاذ عبدالواحد ذات مرة, مُعرِبآ عن إعجابهِ لسرعة إستيعابي للدروس, بِأنَّهُ لو كانت هُناكَ علامةٌ أكثر من القصوى لأعطيتك إياها. بعد ذلك, و في الصفوف اللاحقة, كُنتُ أُعفى من أداءِ الإمتحانات النهائية في معظمِ المواد. في الصف الرابع, لاحظ إستاذ اللغة العربية, سرعة حفظي للقصائد التي كانت في الدرس أو ممّا يختارهُ الإستاذ, و طريقةِ إلقائي لها. فإقترح أن أُلقي إحدى القصائد و كانت لعنترة بن شدّاد, و التي كُنتُ أَحفُظها عن ظهرِ قلب. أن أُلقيها أمام جموع التلاميذ و هيئة الأساتذة في مراسيم الإصطفاف الصباحي. و كانت تجربةً صعبة, و لكنها كانت بدايةً مُشجّعةً, تبعتها تجاربٌ أُخرى. إذ إستدعاني مديرُ المدرسةِ الجديد الى الإدارةِ ذات مرّةٍ. كُنتُ وقتها في الصف الخامس الإبتدائي. و أعطاني ورقةً مكتوبةً بِخطِّ اليد, قائلآ, إقرأ أمامي ما مكتوبٌ فيها. و كنت أقرأ و هو يقرأ. بعد ذلك, قال ليَ المُدير؛ خذ هذهِ الورقة معكَ الى البيت, للتمرين على إلقائِها إلقاءآ جيدآ. لأنكَ ستُلقيها يوم الخميس المُقبل, أمام أعضاءِ الإدارة من المُعلمين و أمام جموع التلاميذ, في مراسيم تحية العلم الصباحية. و كانت تجربةً جديدةً, فُرضت من الوزارة في جميعِ مدارسِ العراق. و لم أستطع الرفض, و كانت تجربةً تلاقفني فيها, سيلٌ من مشاعر الخوف و القلق و الإرتباك. و بعدها, و لبضعِ سنواتٍ, كُنتُ أُلقي كلمة تحية العلم صباح كلّ خميس في مراسيم الإصطفاف الصباحي. و لقد كان لهذهَ التجربةِ الأثر الكبير, في وضع الأساس لتجربتي المُتواضعة, مع الكتابةِ و اللغة العربية. كانت قرية خضر الفشاخ, التي تُحيطُ بها العشرات من قرى " بني ركاب " و البوحمزة, مثل الشمس التي تُحيطُ بها كواكبها. إذ يتوافدُ عليها العشرات من التلاميذ من القرى المحيطةِ بها من كُلِّ الإتجاهات. منها البعيدة, بمسافةِ تُقارب العشرة أميالٍ, و منها الأقرب. قريتي قرية " البوصخير ", تبعد عن قرية خضر الفشاخ, حوالي أربعة أميالٍ. كانت مدرسة النبراس المدرسة الوحيدة في منطقة بني ركاب و البوحمزة, لذلك فقد كانت تحتضنُ بين دفتيها, ما يُقارب المئتين و خمسين تلميذآ, 90 بالمائة منهم من خارج قرية خضر الفشاخ. كنا نحن تلاميذ القرى البعيدة, بأجسادنا الضعيفة, تُوقظنا أُمهاتنا مُبكِّرآ, حتى نصلُ الى المدرسة قبل بدايةِ مراسيم الإصطفاف الصباحي, إتقاءآ من العقاب. نقطعُ الطريق الطويل الى المدرسةِ سيرآ على الأقدام. نرتجفُ من برد الشتاء القارص و بُركهِ و طينهِ. و كم مرة سقطنا في ماء جدول " الصباب " شُبهِ المُتجمِّدة, و نحنُ نُحاول عبورهُ. و كم عانينا من حرِّ الصيف و " سمومهِ ", و مطاردة الكلاب و قُطّاع الطرق الذين يأخذون متاعنا و أقلامنا. الأمر الذي فرض علينا أن نتسلّح بالعصي و الحجارة. و أنشأنا الدول بأنظمتها المُختلفة, من الخلافة الى الملكية الى الجمهوريات, و قمنا بالإنقلابات, و حاربنا بعضنا البعض. نحن لم نأتِ بجديدٍ, بل كُنا نُمثِّلُ ما تعلَّمناهُ في مدرستنا مدرسة النبراس و ما قرأناهُ و ما سمعناهُ من المذياع. كُنّا في الصفوف الأخيرة, أنا مع تلاميذ قريتي, قرية " البوصخير ", و خالي و صديقي عباس الرسن و تلاميذ قريتهُ الصغيرة, نتخاصمُ معَ تلاميذ قرية " الساير ", بقيادة عبدالواحد شياع, صديقي اللدود. كُنّا أصدقاءآ و خصومآ بنفس الوقت. و كُنت أزورهُ في بيت أهلهِ كثيرآ. و عندما ترك الدراسة, و سافر الى الكويت للحاقِ بوالدهِ شيخ عشيرة " الساير ", الذي سبق لهُ و قبل أكثر من خمس سنواتٍ, أن إلتجأ اليها بعد إنقلابِ سنة 1968. يومها جلستُ مع صاحبي عبدالواحد لساعاتٍ, و سجّلنا شريط مُسجِّل, بالمُسجِِّل الذي جلبهُ لي والدي من الكويت عندما كُنتُ في الصف الرابع الإبتدائي, و بكينا كثيرآ. و تبادلنا لفترةٍ الرسائل و الصور, ثُّمّ نسينا أحدنا الآخر. لقد كان لجهاز المذياع الأثر الكبير في توعيتي في مُختلف المجالات و خاصةً المعلومات العامة في جغرافيا العالم و التأريخ العربي الإسلامي, و تأريخ الكثير من دول العالم و أنظمة الحكم فيها, إضافةً للمُعلين و كُتب المطالعة. لقد وهبني الله, محبة و رعاية جميع أساتذتي في مدرسة النبراس بغض النظر عن إتجاهاتهم السياسية و الإجتماعية. كان شتاءُ ذلك العام شتاءآ قارصآ, كُنتُ و قتها في الصفِّ الثالث الإبتدائي. كان يومآ مُمطِرآ و باردآ جدآ, و قبل إنتهاءِ الدوام بقليل, أرسل خلفي الإستاذ الفاضل عبدالواحد خضر. قال لي: من الصعب عليك أن تذهب الى قريتك البعيدة من هُنا بهذا الجو البارد المُمطر. أنت اليوم تأتي معنا الى البيت, ستأتي مع صاحبك نعمه ( شقيقهُ ). و كان زميلي في الصف و من التلاميذ الأذكياء المُنافسين. و عبثآ حاولتُ الإعتذار, إذ ما لبِثَ أن نادى خلف نعمة و أخبرهُ بالأمر. كانت للإستاذِ رهبةٌ و قُدسيةٌ لا يُمكنُ وصفُها. كُنتُ فريسةَ مشاعرٍ مُتضاربةٍ, من الإرتباك و الرهبة و الخجل و الإحراج و الخوف من سوء التصرّف. إذ كُنتُ أُفكِّرُ من أين لي تلك الشجاعة الكافية, كي أجلسُ - و جهآ لوجهٍ - أمام إستاذيي المُهيبين في عيوننا, عبدالواحد و سمير, و أتناولُ الطعامَ معهما على نفسِ المائدة. و جلست مع عائلةٍ عامرةٍ كبيرةٍ, على رأسها الشيخ الكبير المرحوم خضر الفشاخ, الذي رحّب بي. كما أدرك شِدَّةَ خجلي و إرتباكي, فكان أن قال لي: لقد حدَّثني أولادي عنك و عن ذكائك و شطارتك, فإستمر هكذا و سلِّم لي على أبيك. " أكل و لا تخجل ". فشكرتهُ. فيما بعد ناداني الإستاذ عبدالواحد, ليُريني مكتبتهُ المليئة بالكُتب و المجلات. و لقد شرح لي مدى أهمية مُطالعة الكُتب من خارج كُتب المنهاج. و أخيرآ أهداني بعض المجلات, و منها مجلة " العربي " الكويتية. و لقد أحترمتُ الدرس جيدآ, و أصبحتُ مُدمِنآ على المُطالعة بشكلٍ غير طبيعي. و كُنتُ, و أنا في الإبتدائية و السنتين الأولى و الثانية من المتوسطة, كُنتُ أجدُ الكُتب و المجلات بصعوبةٍ. إذ قرأت جميع كُتب مكتبة النبراس المُتواضعة. كما كُنتُ أستعيرُ من أساتذتي أو من خلال الهدايا التي كُنتُ أطلبها من الإذاعات التي كُنتُ أُراسلها و التي كانت تصلني بالبريد. و كان ذلك أمرآ مُثيرآ لدى الإخرين و غير مُعتاد في ذلك الوقت. و عندما إنتقلتُ لإكمال دراستي المُتوسطة و الإعدادية في الرفاعي, إستطعتُ أن أُقنع الإستاذ المسؤول عن المكتبة, أن أكون أنا المسؤول عنها. و بجانب ثانوية الرفاعي, كانت هناك مكتبة الرفاعي العامَّة العامرة بالكتب. و لقد إستطعت أن أحصل على تعاطف مسؤولة المكتبة, الآنسة (..... ) ذات الأخلاق العالية. فكُنتُ أدخلُ في معرض أو مُستودعِ الكتب و أختارُ ما أشاء منها لأستعيرهُ, إضافةً - طبعآ- لما أستعيرهُ من كُتبِ مكتبةِ ثانوية الرفاعي التي كُنتُ مسؤولآ عنها. إذ كُنت أقطع الطريق الطويل من الرفاعي الى القرية - في الأيام التي لا أبقى فيها في المدينة - مشيآ على الأقدام, بدلآ من إستعمال الباص " اللوري الخشبي ", و ذلك كي أقرأ كِتابآ ما. فإما أن يكون الكتاب لإرنست هيمنوكَواي أو ثُلاثيةِ نجيب محفوظ أو كتاب زهرة العمر لتوفيق الحكيم أو طريق المجد للشباب للكاتب المصري سلامة موسى و الذي أرسلتُ لهُ برسالةٍ, و لكن لم يصلني منهُ أيُّ جوابٍ أبدآ, لأنَّ الرجلَ كان قد مات منذُ سنواتٍ خلت. أو يكون لعباس العقّاد, الذي كتبتُ عنهُ تحليلآ بدائيآ في درس التعبير. و غير ذلك المئات من الكُتب. كُنت في الصف الأول المتوسط الذي تمّ إفتتاحهُ في مدرسة النبراس, و تلاهُ الصف الثاني. و ذلك لتشجيع أبناء القرى على إكمالِ دراستهم. و كان إستاذنا في مادتي التاريخ و الجغرافيا, الإستاذ الفاضل جميل جمال. و كان شيوعيآ مُثقفآ ( و هل رأيتَ شيوعيآ عراقيأ غير مُثقف؟ ), جاء لمدرستنا من مدينة الحِلّة, محافظة بابل ( مُبعدأ رُبما ). كُنتُ أتناقش معهُ في مُختلف الأمور, حتى إننا كُنّا نُكملُ نِقاشنا في الفرصة بين الدروس. و ذات يومٍ فاجأتهُ بسؤالٍ غريب. سألتهُ قائلآ: ما هي الكونفوشيوسية إستاذ؟ فإبتسم ثم أطرق قليلآ و كأنهُ يبحثُ عن طريقةٍ للجواب. ثُمّ قالَ لي: إعطني ورقةً و قلم. و كتب شيئأ و أخفاهُ. ثم قال لي: ماذا تعرف أنت عنها؟ قلتُ؛ الكونفوشيوسية دينٌ في الصين, أسسهُ فيلسوف يُدعى كونفوشيوس. فأبدى إعجابهُ ببعض الحركات على وجههِ, ثم قال: لو سُأل بهذا السؤال جميع تلاميذ المُتوسطةِ في طولِ العراق و عرضهِ, لما أجاب أحدٌ. ثم أراني جوابهُ و كان مُطابقآ تقريبآ لجوابي. بينما كان الشيوعي الثاني, الإستاذ سلمان حسن. و كان مُثقّفآ جدآ. و كان يهمسُ لي بحذر, عن أفكارهِ و سنوات نضالهِ و سجنه. و يقولُ لي, بأنَّهُ يثقُ بي. أنا لم أكن شيوعيآ أبدآ. كان إستاذنا سلمان, يُدرِّسنا الجبر. و كُنا نقضي - رُبّما - ساعة الدرس كُلَّها حتى نحصل على نتيجة الصفر. و هي النتيجة الصحيحة. فكان الإستاذ يخرجُ من الصف غاضبآ, لأنَّ نتيجةَ كُلِّ تعبنا هذا كانت صفر. طبعآ, كان إستاذآ يُحبُ تلطيفَ جوِّ الدرس المُمِّل. و لا أنسى عناية الإستاذ الفاضل ساجت عودة لي, الذي لا أنسى " فضلهُ " عليَ. و حتى بعد مُغادرتي لمدرسة النبراس, لم ينسوني أساتذتي الكرام بمديحهم. و هذا هو أخ فلان و هذهِ هي أخت فلان. وكان الإستاذ ساجت, يجلبُ شقيقتي الصغرى من مدرسة النبراس, خلفهُ على درّاجتهِ النارية, عندما كان يمُرُّ بالقربِ من بيتنا للمُشاركةِ في حملةِ محو الأُمية في قريتي و القرى المُجاورة. و في هذهِ المُناسبةِ, أعتذرُ كثيرآ لمن لم أذكرهُ من أساتذتي, و أُعبِّرَ لهم بِكُلِّ آيات الإحترام. ذات يومٍ زارني أحد المعارف, عندما زرتُ العراق مرّةً, و لم أكن أذكرهُ. و بعد أن عرَّفني بنفسهِ, بأنَّهُ أبن أخ الحاج صعيب حسن. و الذي أعرفهُ جيدآ, فهو صاحب المُضيف العامر في قريتي. و الذي يجتمعُ فيهِ أبناءُ القريةِ كُلَّ ليلةٍ, لشرب القهوةِ و تبادل أطراف الحديث. الحاج صعيب حسن, كان يحترمني كثيرآ, حتى إنّهُ قال مرةً و كُنتُ حاضرآ: مكان الصبية في المضيف " الدِيوان " بطرفِ المضيف, إلا فلان فمكانهُ بصدرِ الديوان, و تُقدّم لهُ القهوة, شأنهُ شأن الرجال الكبار. بينما كان من المُعتاد أن لا تُقدّم القهوة للصبيةِ في عمري. و هكذا كان. إذ كُنتُ أُشارك الضيوف أطراف الحديث. لقد سمعتُ قبل فترةٍ بوفاة الحاج صعيب, فلهُ الرحمة و المغفرة عند ربِّهِ الكريم. لقد كُنتُ أُدهش عندما كُنتُ أذهب مع والدي الى إحدى القُرى المُجاورةِ, لأداء واجب العزاء في وفاةِ شخصٍ ما. كُنتُ أُدهش, بأنني أجد هُناك الكثير مِمَّن يعرفني من أهلِ تلكَ القرية. و أنا أشعرُ بأنني لا أستحقُ كلَّ هذا الإطراء. و لرُبما سيُثير هذا الأمر سخرية البعض اليوم, و لكننا يجب أن نتذكَّر, بأنني أتحدثُ عن أشياءٍ حدثت قبل أكثر من ثلاثين سنةٍ, في ضروفِ و بساطةِ ذلك الزمان. أعود لزائري ذلك, الذي أدهشني بثقافتهِ الدينية, و هي مزيجٌ من الدين و الفلسفة. إذ فاجأني بسؤالٍ قائلآ: أ تعرفُ من علَّمني القراءة و الكتابة؟ قلتُ: أكيد إنكَ تعلّمتها في مدرسة النبراس. فقال: كلاّ, بل كُنتُ أُميّآ, و أنت من علّمتني القراءة و الكتابة. ثُمّ أردف قائلآ؛ و كيف نسيتَ ذلك؟ صحيح إنني شاركتُ لفترةٍ في مُساعدةِ البعض من أبناء قريتي, كما إنني كُنتُ أُساعد بعض زملائي من التلاميذ الأصغرمنّي من أبناء قريتي, إلاّ إنَّ سنوات الغُربة الطويلة, خلطت الذكريات في رأسي, ثُمَّ مسحت الكثير منها. فأنا صحيح أذكرُ بعض الأشخاص, إلاّ إنني لا أستطيع التعرُّف عليهم إذا ما قابلتهم يومآ وجهآ لوجه! و لكنَّني أودُّ الإشارة هُنا, بأنَّ طِباعي و أخلاقي, التي خرجتُ بها من العراق, لم تتغيّر قط, رغم مرور أكثر من 37 سنة! ذلك إنَّ كُلَّ أصيلٍ لن يتبدّل. و كانت هُناك قُصصٌ كثيرة أُخرى لا مجالَ لِذكرها هُنا. و قد إتجهتُ الى الفرع العلمي, لأنَّ المُستقبل فيهِ أكثر إشراقآ. و قبل إمتحانات البكالوريا في الصف السادس الإعدادي, دخلتُ في مُستشفى الكوت لِمُدة إسبوعٍ ( وعكة قوية في الكلى ). و كان مُعدّل نتيجة الفحص, حوالي الثمانين في المائة. و قد دخلتُ كُلِّية الإدارة و الإقتصاد في بغداد, و كانت صدمةً مؤلمةً لي, و مُعاناةٍ دائمة. لأنني كُنتُ أشعرُ, بأنني لم أكن خيبة أملٍ لنفسي, بل كُنت خيبةَ أملٍ لكُلِّ هؤلاء, و خاصةً من إساتذتي, الذين راهنوا عليَّ, و إعتقدوا بأنني سأكونُ مُميّزأ في هذهِ الحياة القاسية. إذ أمضيتُ عامآ كاملآ في هذهِ الكُلّيةِ, أُعاني و أنا أدرس, و لكنني أحلمُ بالسفرِ الى الخارج للدراسةِ, رغم صعوبة ذلك الأمر حدَّ الإستحالة. إذ كُنتُ أراسل الجامعات, و أُراجع السفارات للإستفسارِ عن شروط الدراسة. كانت كُلية الإدارة و الإقتصاد, كُلِّية الفتيات و الشباب المُترفين, و أنا كُنتُ قرويآ غير مُترف, و إن كُنتُ كما كان يُسمِّيني بعض الأصدقاء في ثانوية الرفاعي؛ " القروي المُحسَّن ". و رغم ذلك, نجحتُ من الصف الأول في الكُلِّية في جميع المواد. حتى إنَّ أحد أساتذتي المُباشرين في الكُلية, حاول إقناعي بالبقاء في كُلِّية الإدارة و الإقتصاد بعد أن أخبرتهُ, بأنني سأُحاولُ السفر للخارج للدراسة. قال لي: إذا ما بقيتَ على مُستواك هذا في الكُلِّيةِ حتى النهاية, ستكون " مُعيدآ " في كُلّيةِ الإدارةِ و الإقتصاد في بغداد. و هذا أمرٌ جيدٌ جدآ. و لكنني شكرتُ الإستاذ, و أخبرتُ بأنني قد إتخذتُ قرارآ لا رجعةَ فيهِ, بالسفرِ الى إحدى الدول الأوربية, لإكمالِ دراستي بالطب البشري. و هكذا كان, إذ وفقني الله, و تحقَّق الحُلم المُستحيل! لقد تعرّفتُ أثناء دراستي في كُلِّيةِ الإدارة و الإقتصاد على زميلٍ كردي, حسن الطباع و هاديء, بل كان يبدو حزينآ مثلي. و كان يدرس في كُلِّيةِ القانون و السياسة, التي كانت " الباب بالباب " مع كُلِّيتي. و توطّدت صداقتُنا, حتى إنني كتبتُ عنهُ قصيدةً بعنوان: " آزادُ يا صديقي يا آ زاد " و إسمهُ, آزاد محمد سعيد, و هو من أربيل. و لقد كُنتُ قد تعرّفتُ على الكثير من الأكراد في الرفاعي. إذ كانت نُصفُ شعبة " د " في الصف الثالث المُتوسّط من الأكراد الذين تمَّ تهجيرهم من الشمال, بعد إتفاق سنة 1975. كما كان نصفُ الشعبة الثاني من أبناء القُرى. بينما كان نصف صفي في الصف الرابع العام, من الفتيات و النصف الآخر من الشباب. كان ذلك في مدينة الرفاعي و في مُنتصفِ السبعينيات! كُنا - أنا و صديقي آزاد و الكثير من الطلاب - نسكنُ في بنايةِ سكنٍ للطلاب في منطقة المِيدان, في الجانب القريب من شارع الجمهورية و البعيد عن شارع المُتنبي. و كان مُلاصقآ لبنايةِ وزارة المالية. إذ كُنا نفتحُ الشبابيك في بعضِ أوقات الفراغ, و نطلقُ صيحةً مُدوِّية, تُسمع في الوزارة: " رزوقي.. رزوقي, يمتى تنطينا المُخصصات؟ ", ثُمَّ نُغلق النوافذ و نختفي. و رزوقي هذا كان وزير المالية في وقتها. و لو إنَّ الديكتاتور الدموي صدّام كان قد جاء للتو الى السلطة, إلا إننا كُنّا لا زلنا نعيشُ بأجواءِ الحرية و الفترة الذهبية, التي كُنا ننعمُ فيها في عهد الرئيس المرحوم أحمد حسن البكر. و التي أوشكت أن تنتهي و تُستبدل بفترةٍ سوداء مُرعبة. و ذات يومٍ, و بينما كُنّا نتبادلُ أطراف الحديث في مكتبة القسم لوحدنا, أنا و آزاد, و إذا بهِ يهمسُ بالقرب من إذني و يقول: سأخبركَ سِرّآ لي. و بعد بعض المُقدمات, قال لي: أنا شيوعي! فشعرتُ وقتها بحالةٍ من الصدمةِ و الرُعب. إذ كان النظام يُطارد الشيوعيين بعُنف. فقلتُ لهُ: أ لم تخف و أنت تُفضي لي بِسرِّك هذا؟ فقال لي: أنا أثقُ فيك كثيرآ. قلتُ لهُ: كُن حذرآ جدآ و لا تُفصح لأي إنسان. فقد يُهلكك هذا الأمر, كما إنكَ قد تؤذيني كثيرآ معك. و لكنهُ, و بعد بضعةِ أيامٍ, و أثناء مُناقشةٍ مُحتدمةٍ بيني و بينهُ حول القضية الكردية, فاجأني بكلامٍ لا أستطيعُ قولهُ هُنا, يقطرُ شوفينيةً و حقدآ على العراق, أثار صدمةً كبيرةً في نفسي. فأجبتهُ قائلآ: أ تعرفُ يا آزاد بأنكَ محظوظٌ؟ فسألني: و لماذا؟ قلتُ لهُ: لأنك قلت كلامكَ هذا لإنسانٍ مثلي, يخاف الله و لا يغدر. و بعد هذا الحديث, أنقطعت العلاقة بيننا الى الأبد, و لم أتكلّم معهُ بعد ذلك قط. أنا أحمدُ الله ربَّ العالمين, بأنني لم أغدر بأحدٍ قط. و لم أخدع أحدآ قط. و لم أنصب على أحدٍ قط. و لم أسرق أحدآ قط. رغم إنني غُدِر بي كثيرآ و خُدعتُ كثيرآ و سُرقتُ كثيرآ. و كُنتُ دائمآ أُردِّد, بأنَّهُ ليس اللصوص فقط يكسبون المال الكثير, بل يمكن للأُمناء الشرفاء أن يرزقهم الله و يكسبون مالآ كثيرآ. فأنا لم أكسب فلسآ واحدآ من الحرام. و لقد ساعدتُ الكثير من الناس, و الكثير منهم لا يستحقون و لا يُساوون فلسآ. و لم يُساعدني أحدآ قط, سِوى الله و والِدييَ و وطني. فلم يُساعدني, لا قريبٌ و لا غريب, لا بدينار و لا بربعِ دينار, و لا حتى بدرهم. بل إن البعض من الأقرباء, كان يُغيضهم, بأنني كُنتُ مُتفوِّقآ في دراستي. رغم إنني لم أُأذي حتى نملة. بل أنا إذا لم أُفد أحدآ فلن أُأذيه. و الوحيدة التي آذيتها أنا, هي نفسي فقط. و أنا لم أُأذي أحدآ قط, لا بهمسةٍ و لا بإشارةٍ و لا بوشايةٍ و لا بكلمةٍ و لا " بتقرير". فأنا أسمى من أن اكونَ إبن حرام. و أخلاقي و عِزة نفسي و خوفي من الله و إيماني لا يسمح لي بأن أكونَ عميلآ لأحدٍ, مهما كان و أيآ كان و مهما كلّفني الأمر. فأنا تربيتُ في بيتِ أناسٍ طيبين خير طِيبة, والدي و والدتي, و ربُّوني وأحسنوا تربيتي. ثُمَّ إنني تربيتُ و تعلّمتُ من مدرسةِ النبراس و أساتذتها الأفاضل خبر التربية و أحسن التعليم. و على كُلِّ حالٍ فلن يأخذ أيٌّ مِنّا الى قبرهِ سِوى الكفن! و الله على ما أقولُ شهيدآ, و هو خيرُ الشاهدين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مساعدات بملياري دولار للسودان خلال مؤتمر باريس.. ودعوات لوقف


.. العثور على حقيبة أحد التلاميذ الذين حاصرتهم السيول الجارفة ب




.. كيربي: إيران هُزمت ولم تحقق أهدافها وإسرائيل والتحالف دمروا


.. الاحتلال يستهدف 3 بينهم طفلان بمُسيرة بالنصيرات في غزة




.. تفاصيل محاولة اغتيال سلمان رشدي