الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حضارات العراق القديم, بين الإستحقاق والتجاهل التأريخي

هيثم الحلي الحسيني

2017 / 1 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حضارات العراق القديم, بين الإستحقاق والتجاهل التأريخي
دهيثم الحلي الحسيني
الباحث في الدراسات الإستراتيجية
النشر والبحث والدراسة, في موضوع الحضارات العراقية القديمة, جدير بالعناية والإهتمام, بل في مقدمة أسبقيات البحث العلمي والحضاري الإنساني, فحضارة "الميسوبوتاميا", بين النهرين أو بلاد الرافدين, هي فجر التأريخ, وفيها بدأ تسجيل التأريخ الإنساني, حيث كتب الإنسان في أرضها أول كلمة, وأقام عليها أولى الحضارات الإنسانية, التي أشعت على البشرية, وأثرتها بعطائها الخالد.
والحال أن هذه الحضارة العريقة, قد ظلمت بالفعل, ولم تلق ما تستحق من عناية وإهتمام, في البحث التأريخي والأثاري والحضاري, فضلا في مضمار التراث العلمي, وقد ظلم معها العراق وشعبه, الذي هو الوريث الشرعي لها, تأريخاً وجغرافيةً وسكاناً "ديموغرافيا", حتى أن الكثير من أهل الغرب أو الشرق, عندما يعلم أن "الميسوبوتاميا" هي العراق اليوم, فهو لا يصدق أو يستغرب ذلك, أو حتى ربما ينكره لمن هو دون مستوى التعلم.
بينما في المقابل, ترن مفردة "مصر" في أذانهم, وهو إستحقاقها لا ريب, ربما لكثرة الإشتغال في علوم المصريات مقارنة في علوم الميسوبوتاميا, من بابليات أو سومريات أو أشوريات, وغيرها, أو لأن الدولة المصرية, قد أبقت على مفردة "أيجبت Egypt" في الإنجليزية وسائر لغات العالم, بينما ضيّع العراقيون مفردة الميسوبوتاميا, التي كان البريطانيون لغاية نشوء الدولة العراقية الحديثة, يستخدمونها في أدبياتهم ومراسلاتهم, للدلالة عن العراق.
فكان ربما الأولى أن تترك مفردة الميسوبوتاميا أو البابيلونيا وفق الكتاب المقدس, كما هي متداولة للدلالة الرسمية عن إسم الدولة في اللغات الأجنبية, وفقط تستخدم مفردة العراق في الأدبيات العربية, وفق الإسم الرسمي, ليستمر التواصل المعرفي والثقافي والحضاري, بين العراق القديم وفق مسمياته الأولى المشتهرة عالما وعلميا وإنسانيا, وبين العراق المعاصر العربي, وفق تسميته العربية.
كما أن الكثير من المنشورات الحديثة, تتحدث عن الميسوبوتاميا, على أنها البلاد الواقعة اليوم في تركيا وسوريا والعراق, وفي ذلك ظلم أيضا للعراق, مع التقديرالعالي لسوريا العروبة والثقافة والحضارة, لكن ذلك يشكله الواقع الجغرافي والتأريخي, فبلاد الرافدين أو بين النهرينMesopotamia, أو μεσοποταμια كما هي الترجمة الحرفية للمفردة عن اليونانية القديمة, حيث "ميسوμεσο" تعني ما بين, أو وسط, بينما "بوتامياποταμια" تعني النهر بصيغة الجمع, أي النهرين أو الأنهار, إذ صيغة المثنى تختص بها العربية حصرا.
وعيه فالبلاد المقصودة بهذه التسمية, والحضارة المنسوبة اليها, هي الواقعة بين نهري دجلة والفرات حصرا, وهي ما عرفت لاحقا, والتي تعرف اليوم بالعراق, في حين أن الإمتداد الجغرافي لهذه البلاد, سواء في منابع النهرين في تركيا, أو في ما يعرف بالجزيرة الفراتية, في الجزء الشمالي الشرقي لسوريا, الواقعة بين الفرات ودجلة, هي إمتداد طبيعي للعراق, وأن سكانها إمتداد للعشائر العراقية قبالتها, إجتماعيا وثقافيا.
غير أن الإعتبارات السياسية والتقسيم الدولي, الذي جرى بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى, قد حالت دون إرتباطها بالعراق, كما أن مساحتيهما وأهميتهما الحيوية, في التعبير الإستراتيجي والجغرافي السياسي "الجيوبوليتيكي", لا تعني الكثير مقارنة بأرض العراق.
فضلا أن العواصم الكبرى, والمدن الرئيسة التي كانت هي الحواضر القائدة لهذه البلاد, ومراكزها الفكرية والسياسية والعمرانية والسكانية, هي التي تقع في العراق حصرا, بدءً بالمدن السومرية, وهي فجر حضارات بلاد الرافدين, ثم بابل العظيمة وزعيمة العالم, كما وصفها الكتاب المقدس, وكذا مواقع المدن الآشورية, في نينوى وآشور وسواها, جميعها في العراق, وفي عمق العراق, وليس حتى في أطرافه.
عليه فإن العراق, هو الصنو اللغوي والرديف العربي لمفردة الميسوبوتاميا أو بين النهرين, أو بلاد الرافدين كما جرى تسميتها في بعض الأدبيات المعاصرة, كترجمة غير حرفية للأصل اللغوي لها.
وفي المقابل, فهنالك تسميات لمرجعيات جغرافية أو سياسية وسكانية وإجتماعية أخرى, كتسمية سوريا الكبرى, التي تبناها منظروا الحزب السوري القومي الإجتماعي, خاصة زعيمه المفكر أنطوان سعادة, أو تسمية الهلال الخصيب, وكلاهما تجمع العراق وبلاد الشام ضمن وحدة جغرافية سياسية, هي حقائق واقعة, لها مبرراتها وأسبابها ودلالاتها المنطقية, ولا خلاف عليها, لكنها خارج نطاق وموضوع البحث.
والموضوع الذي لحقه الإجحاف والظلم كذلك, هو الكتابة المسمارية ذاتها, التي بات الكثيرون من سكان المعمورة, لا يعرفوا عنها شيئا, وبالتالي فقد قارب أن تختفي أحقيتها في الريادة والإستحقاق التأريخي, كونها قد سبقت جميع ما ظهر من كتابات في التأريخ الإنساني, وقد أحسنت بعض الدراسات صنعا, في تسليطها الضوء على هذه الحقيقة, كمثل ورقة الكاتب جميل حنا, المنشورة في الحوار المتمدن, بعدده 5021, حول تزيييف حقائق التأريخ, والتي إستدعت الحاجة لكتابتي هذا المادة, فضلا عن المداخلة فيها.
في حين أن الكتابة الهيروغليفية, وهي المصرية القديمة, مع حصر تداولها تأريخيا, في الأدبيات الدينية, قد إشتهرت عند القاصي والداني, وهي التي يثبت البحث التأريخي, والحقائق المنهجية المسلم بها, أنها قد ظهرت بعد الكتابة المسمارية بما يقرب القرن من الزمان, وقد بدأت بعض الأقلام ومخرجات البحوث, وصفها بأنها الكتابة الأولى في التأريخ الإنساني, وذلك في ظل غياب المعرفة بريادة الكتابة المسمارية, وضعف البحوث والدراسات فيها, فضلا عن دور الإعلام المقصود وغير المقصود في ذلك.
وهذه التداعيات ربما تكون وليدة القرن المعاصر, بعد أن غيبت الأقدار في القرن الماضي, علماء العراق الرواد, من طبقة العلامة أحمد سوسة, والعلامة طه باقر وأقرانهم, الى جانب هبوط سقف العطاء في المتصدرين بعدهم, فبات البيت بلا والد, أو بغير راع, يحمي تراثه وحقوقه الفكرية والثقافية والحضارية.
وربما قد ساعد على ذلك أيضا ما تعرض اليه العراق, من هجمات شرسة, وحصار قاس, وتغييب سياسي ومعرفي, في مستوى العالم, وحتى المنطقة والإقليم, والساحة العربية بضمنها, وفي ظل رغبة إقليمية, في تجاهل أدوار العراق التأريخية والحضارية, وبالتالي تغييبه إستراتيجيا, وبالذات سياسيا وإقتصاديا وأمنيا, بما ينسجم ومصالح ذاتية, لدول الإقليم, أو لبعض القوى الدولية من ورائها, كون العراق المنافس المقتدر لها, بما يمتلكه من ثروات مادية وطاقات بشرية وإمكانات إستراتيجية, يسندها إرث حضاري وتأريخي ثري.
وعليه يتوجب التأكيد, أن الأرض التي شهدت نشوء وتطور حضارة بين النهرين, وهي ما يعرف بالعراق المعاصر, هي وحدة جغرافية وسكانية وإقتصادية وحضارية, وليس من المنطق أن يجري تداول أن العراق, كوحدة سياسية وسكانية, قد ظهرت مع نشوء الدولة العراقية الحديثة, في أعقاب الحرب العالمية الأولى, وإثر مخرجات الثورة العراقية الكبرى, التي أرغمت الإحتلال البريطاني, للإقرار بالكيان السياسي والدولة الوليدة فيه, فهي وحدة سياسية وحضارية وسكانية, في مستوياتها الإستراتيجية, السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية الدفاعية.
كما أن هذه الوحدة السياسية الحضارية, تجمع في عنوانها جميع الحضارات التي تعاقبت في هذه الأرض, على إختلاف مسمياتها, كونها قد أكملت بعضها البعض, وقد تداخلت فيما بينها, وتشاركت اللغة والكتابة والمنجز العلمي والفكري والحضاري, فحضارة أكد, قد تزامنت مع الحضارة السومرية, في المكان والزمان, ثم تداخلت مع حضارات بابل المتعاقبة, إنتهاء بالحقبة الكلدانية.
وكذلك كانت الحضارة الآشورية, في مجاورتها وتداخلها مع حضارات بابل, وتبادلها الأدوار القيادية والسياسية معها, وفي النتيجة قد أنهت جيوش العراق القديم, ما عرف بدولتي يهودا وإسرائيل, وجاءت باليهود أسرى الى بابل مشيا على أقدامهم, بعدما عاثوا في الأرض فسادا, وفق نصوص العهد القديم من الكتاب المقدس, أو التوراة في التعبير اليهودي, وذلك ما تعجز ذاكرة معاصريهم, من نسيانه.
كما أن هذه الحضارة العراقية, هي التي وصلت بجيوشها الى أعماق مصر, كما يشير المنهج الدراسي في مصر على ذلك, بينما لم يطأ أرض العراق غاز, لما يقرب الثلاثة ألاف عام من البناء الحضاري المتواصل, فهي دول قد تداولت في أرض العراق, غير أن الوحدة السياسية والسكانية والحضارية, لم يجري تفكيكها أو تجزئتها.
ولا عجب فقد كانت مخرجات حضارات العراق القديم, شعاعا مضيئا في كافة جوانب العطاء الإنساني, متمثلة بالمنجز العلمي في مجالات علوم الفلك والطبيعة والرياضيات والطب, وفي القانون إذ قدمت أولى الشرائع في الحقوق, والتي خلدتها مسلة حمورابي, وفي البناء العمراني, حيث قدمت أعظم عجائب الدنيا, وفي الأدب والمسرح, حيث كتب الإنسان أول عمل أدبي له, متمثلة بملحمة كلكامش, والغريب أن مجمل هذه المنجزات, يجري محاولات تشويه ريادتها التأريخية,أو محاولات إسنادها لغير أهلها.
وكذا قد حرصت الحضارة العربية الإسلامية لاحقا, التي كانت شعلتها الوضاءة في هذه الأرض كذلك, على ديمومة وتواصل الوحدة السياسية والسكانية لهذه الأرض, والتي سميت بالعراق أو أرض السواد, لخصوبتها وعطائها, إذ كان لها نظامها الذاتي, وقادتها المحليون, وخصوصية شعبها ومكانته السامية, على إختلاف مراحل الدولة العربية الإسلامية, إذ باتت بغداد الرشيد, رمزا للعروبة, وعنوانا للإنتماء والفخر الحضاري, يجتمع حوله سائر شعب الوطن العربي الكبير.
وعليه فإن جميع أبناء العراق المعاصر وشعبه, بإختلاف قومياتهم وأديانهم, هم ورثة هذه الحضارات في بلاد بين النهرين, أو أرض الرافدين, وهم حملة راياتها بالمجمل, وهذا ما يشكل على بعض الدراسات, ومنها ورقة الكاتب جميل حنا, وخاصة في صدارتها, إذ حاولت القول, بإن لكل من هذه الحضارات, الشعب المستقل في العراق, الذي ينتمي لها, أو يمثل الإمتداد والوريث الأوحد لها.
وهو ما لم يثبته البحث التأريخي, ومقومات الوحدة السياسية, أو حقائق الجغرافية والعمران الحضاري, فضلا عن الحضور السكاني والمجتمعي, وفق معطيات الأناسة "الأنثروبولوجيا", في العراق قديما وحاضرا.












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا