الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلساء .. ملساء

كمال عبود

2017 / 1 / 31
الادب والفن


حلساء .. ملساء
*****
المقطع الأول
*****

أحببناها .. رعيناها .. سقيناها عرقاً ودمع العين .. مرّتْ ألأيادي على ذوائبها برفق وافترشت الأجساد المتعبةُ أرضها مُستظلّة بظٍلها ..
قال العم أيوب: والله ... ربّيتُها مثل أولادي.
قال أبو رافع: الله ذكرها في القرآن الكريم .. مباركةٌ شجرة الزيتون .. شو بدك أكثر من هيك؟
السيد ابراهيم قال: الزيت والزيتون مع القمح والتين ركيزة غذاؤنا.
كان الفلاحون الثلاثه يشربون الشاي تحت ( المِنطره) - وهي شجرة زيتون كبيره ، ظِلها كثيف تُنتقى للاستراحة - والوقت كان خريفياً ونشاط قطف الزيتون في أوجهِ.
قال العم أيوب : وأنا قادمٌ إليكم ، قطعت دربي ... كدتُ أدعس عليها .. (الله أكبر عليها) طولها متران .. وقطرها هكذا مثل بوري الصوبا (المدفأة) .. لقد أرعبتني .. كانت تفحُّ فحيحاً ... حلساء .. ملساء ..
قال أبو رافع : لعنها الله .. شفتها طالعه من الساقية .. وسخه وكريهه..
قال السيد ابراهيم : اسمعوا يا جماعه .. من سبع سنين كان ولدي هذا - حمودي - وحيدي ما عندي غيره - في عامه الأول ، أرضعته أمه ثمّ نام وغفا وذهبت هي إلى العمل .. رجعتُ أنا كي أشرب الماء ، حملتُ (الكوز)- (إبريق من الفخار) - وفجأةً رأيتها .. لفّت نفسها على ذيلها ، وقد تكوّرتْ ، حلقات متلاصقة حتى غدت كالطبق .. كانت مُرقطةً ورافعةً رأسها ... كانت قرب رأس الطفل .. صُعقتُ ولم أدرِ ما أفعل .. قلت بصوتٍ خفيضْ: حلّي أيّتُها المباركه .. هذا طفلي .. مع السلامه ..
رأيتُها تحلُ نفسها وتمتدُ حبلاً مُرقطةً وتزحف باتجاه الساقية ..
الحمد لله ، الذي أبعدها عن الصبي .
*****

كان حمودي يسمع حديث الرجال ، حمودي ينصرف من المدرسة ظهراً ويلحق أهله ألى كرم الزيتون .. يساعدهم قليلاً ويلعب كثيراً .. وبعد أيامٍ من سماعه للقصة كان يلعب كالعاده وإذ ظهرت له ... تشخّصتْ أمام عينيه .. كبيرة مُخيفةً مُفزعة .. مُرقّطه ... حلساء ملساء ..
رفعت رأسها وقالت : أنا جائعه ، عليك أن تطعمني .. الساقية فارغه ... الجرذان أكلوا كل شيء .. كل شيء .. وانسلّت راجعة حبلاً مُرقطةً ، تفحُّ فحيحا ..
صار حمودي كل يوم يأخذُ رغيفاً من زاد الأهل وعليه بعضَ طبيخٍ ويرميه قرب الحجر الأبيض في الساقية المجاورة لكرم الزيتون .. وما يضعه بالأمس يختفي اليوم التالي ..
*****
انتهى قطاف الزيتون وابتعد عالم الأفعى .. كان وقته الجميل في باحة المدرسة .. والمدرسةُ على بيدر القرية الواسع ، ثلاثُ غرفٍ للدراسة .. لكن المدرسة دون حمّامات أو مراحيض .. وعلى الأطفال أن يذهبوا إلى طرف الساحة البعيد ويقضوا حوائجهم خلف الحجارة السوداء الكبيرة التي تفصل ساحة المدرسة عن الكروم المجاورة ..
مرّةً ذهب حمودي .. جلس خلف الساتر الحجري كي يقضي حاجتهُ ... وهناكَ رآها ... قبيحةَ المنظر .. كريهة الحضور .. لفّت نفسها على غصنٍ يابس ورفعت رأسها .. أخرجت لسانها ..
أولُ مرّةٍ يرى لسان أفعى : لم تعد تطعمني .. صار عندي أطفال وهم جائعون ... انتبه ..
-..
وقف حمودي ونسي أن يمسح مؤخرته .. وأضحى من ذلك اليوم يرمي نصف - ساندويشه- ونصف ما يشتري من حلوى أو بسكوتاً وحبات فستق وغيرها .. يرمي ذلك في موقعٍ رآها فيه ..
لم ينتهِ هذا - الواجب - عليه ، إلى أن أتى يوماً جاء فيه المعماريون وسيّاراتُ الحصى والرمل والإسمنت وبنوا جداراً عالياً حول ساحة المدرسة الواسعه. وتركوا لها مدخلاً وحيدا ..
*****

اضمحلَّ خوف الفتى .. وفي درس اللغه كتب في دفتر التعبير : احموا مدارسكم - أوطانكم - وأبنوا جدراناً حولها ..
وفي دفتر الرسم ، رسم مدرسةً وجداراً عالياً وخلف الجدار رسم أفعى عاجزة عن تسلّق الجدار ، وكتب تحتها: حلساء .. ملساء
*****

المقطع الثاني
*****

حمودي صار شاباً ... نما كقصبِ الساقية .. كشجرة الحور سريعاً .. لم يَعُد ( يشرشرُ ) ويُبرقع قميصه ودفاتره بزيت ( السندويشه) في المدرسة ، غادر بيدر المدرسة وفريق كرة القدم ، حيثُ كُسرتْ قدمه مرتين .. صار أقوى جسداً وقلباً ... تجاوز خوف الصغير منها .. تلك التي أسمها حلساء الملساء ..
صار حمودي مهندساً ... أحبَّ وتَزوّج ، صار لَهُ بيتاً ... فوجبت علينا زيارته للتهنئة.
*****

ذهبتُ مع الطَّيِّب الخجول جابر في سيّارتهِ إلى منزل حمودي .. نزلتُ من السياره .. تجاوزتُ الرصيف وطرقتُ بابَ المنزل .. فتح الرجلُ وابتسمَ مُرحّباً: تفضلا .. أهلا وسهلاً بكَما.
قلتُ: معي ضيفٌ لا يعرفكَ أقلّني بسيارته مشكوراً.
أدخلني منزله وخرج دقيقتان أدخلَ بعدها السيد جابر الى المنزل أيضاً .. وراح الى غرفة أخرى كي يُبَدِّل ملابسهُ .
جلس السيد جابر مرتبكاً واضعاً يده اليسرى في اليمنى ، سألتُه : ما بكَ؟
قال: قال لي صاحبكَ: تفضلا وكنتُ وحدي!
ضحكتُ عالياً .. وأنا أيضاً قال لي: تفضلا .. إنّه يُحِب المزاح كثيراً .. كان يقصد ، أنا وأنفي الكبير نساوي اثنان .. وأنت وبطنكَ الكبيرة تساويان اثنان ...
ابتسم جابر ، وصار يجوسُ بناظريه المكان ... ثُمَّ رجع حمودي ، وكانت جلسةُ أُنس هادئة.
*****

قال جابر الخجول : اسمعا ما حدث لي ..
كان لذيّ موعِداً في شارع إنطاكية ، وكان الإزدحامُ شديداً .. درتُ بسيّارتي أربع مرّاتٍ حول الشارع ولم أرَ ركناً أضعُ فيه السياره وبعد جهدٍ وجدتُ مكاناً قرب الجامع .. ركنتُ السياره وهممتُ بالنزول وإذ بامرأةٍ شابّه شقراءَ جميله تفتحُ الباب الجانبي وتقول : خليك بالسياره .... جاهزه !
أغلقتُ الباب بقوه ، نزلتُ .. قفلتُ البابَ ، وصعدتُ الرصيف.
وصعدتْ هي وقالت : طيب خود سيارتك من هون خلينا نسترزق . بدنا نبيع .. ؟
لم أردْ ...
فعلتْ نبرةُ صوتها: يا قليل الذوق شيل السيارة..
قلتُ: لا حول ولا قوة الا بالله
قالت: الله يلعنك يا ...
ثمّ اعترضت طريقي: شو ما سامع .. العمى في عيونك .. شيل السياره الله يشيل عمرك..
ازداد غضبي فقلت: أستغفر الله العظيم ، أستغفر الله العظيم
قَالَتْ: وعم تستغفر ربكْ يابن امّك ..
اجتمع المارّون يتفرّجون ثُمَّ أمسَكتْ بقميصي تشدّني إلى الوراء فما كان مني الّا أن صفعتها بكل ما أُوتِيتُ من قوه ، فوقعتْ أرضاً ..
كنتُ ألملمُ نفسي وإذ بدفعةٍ هائلةٍ من الخلفِ تُسقطني إلى الأرض على وجهي ولم أفق إلا في الطريق إلى المشفى...
ويُقالُ أنَّ سيّارةً حديثة سوداء اللون عاتمةَ الزجاجِ أختفت داخلها المرأة إلى جهةٍ مجهولة ..
احمرّ وجه جابر الخجول من حكايتهِ وأطرق نظره في الأرض قائلاً: لا لا لم يحدث هذا معي وإنما مع صديق لي فأنا بطبعي أخجل من مواجهةٍ كهذه.
قال حمودي: لا لا تخجل يا صاحبي أنا رأيتُها في نفس المكان وعندما اقتربتْ وفتحتْ باب سيّارتي لم أرها .. صدقاً لم أرَ إِلَّا تلك اللعينة .. تلك الأفعى التي رأيتها زماناً في كرم الزيتون وعند ساحة المدرسة .. كانتْ مُخيفةً .. مُرقّطه .. حلساء .. ملساء .
*****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد