الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كافكا وأرسون ويلز في( المحاكمة) سلطة الأدب وسلطة الكتابة

قاسم علوان

2006 / 1 / 17
الادب والفن


تعتبر معالجة المخرج الأمريكي ارسون ويلز المعروف بمفاجئاته دائما منذ بداية عمله في السينما، لرواية فرانتز كافكا الشهيرة (المحاكمة) كرؤية سينمائية متميزة ومهمة جدا ليس في تاريخ المخرج فقط، بل في تاريخ السينما بشكل عام، أو تحديدا في إشكالية تاريخ السينما وعلاقتها بفن الرواية بشكل خاص. وهي كأي عمل من أعمال ويلز الأخرى حازت على شهرة كبيرة، وأصبحت من كلاسيكيات السينما، ليس لأنها مأخوذة عن رواية كافكا فقط، بل لتفرد هذه المعالجة في تقديم قراءة جديدة لعمل ذائع الصيت كهذا، وهي بحق أعادة كتابة للرواية المذكورة بطريقة سينمائية مختلفة جدا عن الكتابة الأدبية التي جاءت فيها الرواية، ويحق لنا أن نفترض فيما إذا لو كان قد تسنى للمؤلف مشاهدة الفلم الذي أعد عن روايته لأعجب به كثيرا، ولما أمتعض كما يحدث لأغلب الكتاب عندما يشاهدوا أعمالا روائية لهم على الشاشة، وخاصة عندما يكون العمل الروائي كبيرا ومشهورا وبحجم رواية (المحاكمة...!).
لقد عرف عن أرسون ويلز براعته في التعامل مع الأعمال الروائية المكتوبة سلفا، وابتكاره لتقنية أسلوبية سينمائية جديدة مع كل عمل سينمائي يشتغل عليه. فإضافة إلى تجربته الطويلة على أعمال حازت شهرة كبيرة في وقت مبكر من حياته الفنية، مثل (المواطن كين) و (أيام العذاب العشرة) و (عطيل) و (سيدة من شنغهاي) وأعمال سينمائية أخرى. فهو لم يترك لعناصر اللّغة وبلاغتها الأدبية التي تتميز بها الرواية بشكل خاص، وبالذات رواية مثل (المحاكمة) بحيث كان من المفترض أن تسحب المخرج إلى ميدانها التقني اللغوي والأسلوبي الأدبي، أو فيما يخص الأساليب البلاغية الحديثة التي أغرت الكثيرين قبله وبعده، لتذهب بهم بعيدا عن السينما، وتوقعهم في حبائل السرد الروائي وما الى ما يمتد من مسافات تشمل جماليات اللغة الأدبية وكل ما يتعلق بها من بلاغة وجناس وطباق صوريين شاع استخدامهما بعد الابتكارات الجديدة في فن المونتاج ومذاهبه المختلفة..!
سبق وأن شاهدنا ذلك التأثر أو النقل الأدبي في أعمال سينمائية كثيرة ومتنوعة، وعلى يد مخرجين معروفين يمكن أن نستشهد بهم، تمثل كيف يمكن للرواية أن تنقل للسينما بعملية أشبه ما تكون بترجمة أدبية أكثر منها شريط سينمائي ينتمي الى حقل إبداعي آخر مختلف، كما هو في أفلام كثيرة، أعدت عن روايات معروفة مثل (الآمال الكبيرة) (أوليفر تويست) وأيضا (الدكتور زيفاكو) وكلها للمخرج ديفيد لين، وأعمال أخرى كثيرة أيضا لمخرجين آخرين. ومع عملية النقل الأدبي تلك التي تتراوح بين النقل كترجمة سينمائية كما ذكرنا، أو كما تكتب وتجسد من جديد في الأعمال المذكورة أعلاه هذا ونستطيع أن نسمي هذا النوع: أولا. أما ثانيا فهو النقل الأدبي للسينما الذي يعكس تأثر المخرج ببلاغة الكاتب وأسلوبه اللغوي، بلاغته الأدبية لدرجة نقل مفرداتها وترجمتها صوريا كالجناس والطباق والتوريات البلاغية اللغوية الأخرى إلى الشاشة، وهناك أمثله كثيرة على ذلك مثلا (الحرب والسلام) لسيرغيه بوندراتشوك و (القاهرة الجديدة) لصلاح أبو سيف. وأما ثالثا الاستفادة من العمل الأدبي كمرجع لا أكثر ومن ثم العمل بشكل مستقل عنه بحيث تكون النتيجة عملا إبداعيا جديدا ربما لاينتمي للأصل أحيانا إلا بالاسم فقط، وهذا ما تجسده إعمال عديدة ومشهورة، ولمخرجين كبار مثلا وإلى حد ما عمل جان رينوار على رواية (مدام بوفاري) وكذلك (مكبث) لكيراساوا و (قصة الحي الغربي) المعد عن (روميو وجوليت) لروبرت وايز.
الإشكالية هنا ليست في موضوع الأمانة والخيانة كموقف أخلاقي من النص الروائي الذي كتب مسبقا، والاقتراب أو الابتعاد عنه كما يشكل ذلك مشكلة عند البعض، أو كما يطرح في بعض مناهج النقد السينمائي، بل هي في عملية إعادة أنتاج (نص ـ عمل) جديد لاينتمي للأصل بأية صلة، ربما إلا بالاسم كما ذكرنا، وأحيانا حتى الاسم يتم تغييره كما هو الحال مثلا في مسرحية شكسبير (روميو وجوليت) عندما أصبح اسم العمل الجديد أو الفلم السينمائي (قصة الحي الغربي) فلا ضير من ذلك، أو بالإطار الحكائي للرواية الأصل فقط.
فلم (المحاكمة) ينتمي إلى الصنف الذي تكلمنا عنه في ثالثا، فقد أستطاع المخرج أن يوظّف أدواته السينمائية ولغته التعبيرية الجديدة أثناء كتابته للسيناريو وكأنه يعيد كتابة الرواية من جديد، أنه يستعير منها ثيمتها، أو أجوائها لكنه ظلّ أمينا لروحها أو الجو الذي أراده الكاتب رغم أنه لم يلتزم بنصها، والى حد ما بحسب المعايير النقدية الحديثة أنه كتب نصا جديدا..!
لقد حوّل أرسون ويلز العمل الأدبي الروائي إلى عمل سينمائي بحت. فانه لم يأخذ من الرواية سوى ثيمتها الأساسية ليشتغل عليها من جديد. ولكن في هكذا تجارب سينمائية مع الأدب ليس من السهولة أن ينجو المخرج ـ أي مخرج كان ـ من سلطة العمل الأدبي ولغته الأدبية المهيمنة، ومفرداتها المؤثرة، وآلية تعبيرها (الأدبية) في عملية النقل تلك، وهنا تكمن براعة ويلز في وعيه لاستقلالية أدواته الصورية في التعبير، وآلية النقل السينمائي لا الأدبي الى الشاشة. وبكلمة أخرى أستطاع أن يرقى أرسون ويلز بالسينما إلى مصاف الأدب بالتوازي، بوصفها إبداع مستقل بذاته وليس تماهيا معه أو سيرا خلفه، كما شاهدناه في أعمال سينمائية كثيرة.
مشهد الاستهلال أو مشهد التقديم الذي يشكل يعتبر من المشاكل المهمة في أي عمل درامي أو أدبي، فقد شغل هذا المشهد أذهان الكثير من المؤلفين والمبدعين، وخاصة في مجال الأدب وبالذات المسرح، إذ يعتبر غاية في الأهمية، فهذا المشهد يستطيع أن يوجز أو يوضح الفكرة الفلسفية، أو الثيمة الدرامية بشكلها التجريدي أو الأشاري الذي أشتغل عليها الكاتب أو المؤلف في ذلك العمل، وبعبارة أخرى فأن هذا المشهد هو عبارة عن عملية توضيح أو تفسير بشكل غير مباشر للعنوان الرئيسي للعمل، وفي الوقت نفسه تجريد لذلك الموضوع. وهذا ما أستطاع أن ينجزه المخرج أرسون ويلز على الشاشة في مشهد المقدمة، وهو مشهد قل نضيره في السينما العالمية بشكل عام آنذاك، فقد قدمه المخرج على شكل رسوم ثابتة تتغير مع تسلسل السرد أو الحدوتة التي أخذت حكايتها أصلا من الرواية بعد التعديل أو الإضافة، والتي تروى على لسان الراوي... والذي هو المخرج أيضا. فهو في هذا المشهد يضعنا ـ أي المخرج ـ في مواجهة المقابل الفلسفي للثيمة الروائية التي أشتغل عليها الكاتب في روايته متجسدا بشكل متخيل صوري، إذ يقول الراوي: (أن منطق هذه الحكاية هو منطق الحلم، هل تشعرون أنكم وسط متاهة..؟ لا تبحثوا عن المخرج، فلن تستطيعوا العثور عليه أبدا، ما من مخرج هناك.. هذه الحكاية مروية في رواية أسمها "المحاكمة")
لقد أشتغل الكاتب في الرواية على فكرة فلسفية غاية في الأهمية وهي إدانة أي نظام شمولي أو أية سلطة قمعية من الأنظمة السياسية التي ألفناها فيما بعد. أما كيفية تجسيد تلك الإدانة فقد جاءت عبر عرض كيفية عمل آلية الهيمنة لتلك السلطة على الأفراد، أو أي فرد لا على التعيين، متمثلة في عرض لمجسم لبيروقراطية هائلة وغريبة، بأذرع أخطبوطية معقدة، تجسدت بخيال سينمائي جامح ومدهش، وعبر صيغ مبالغة مقصودة في تعميق غربة الفرد عن تلك البنية الاجتماعية، وتغييب لفردية الإنسان. وقد تجسدت تلك الغربة والغياب في مواجهة الفرد لسلطة سرمدية غير منظورة، عبر شبكة آلية من القوانين الخرافية التي تثقل كاهل الفرد والمجتمع، عبر أكداس الوثائق غير المهمة والمنتشرة هنا وهناك، والمراسلات الغامضة بين أطراف غير مرئيين، والتراتبية الاجتماعية غير المحسوسة، والمكاتبات المبهمة (مشهد مكتب المحامي مثلا) التي تغرق حياة المستر (ك) في سيل من الاتهامات والإدانات غير الواضحة وغير المسماة وبشكل غير مبرر، ومن ثم شعور ذلك المواطن بالذنب مسبقا، وإدانته من قبل تلك السلطة التي يقف أمامها عاجزا وضعيفا وبإرادة مسلوبة، ردود أفعالها محسوبة بدقة، عدا ردّة فعله في مشهد الإعدام أو القتل بالمتفجرات في نهاية الفلم.
لقد جاء ذلك التعبير الصوري في ذلك الفلم أشبه ما يكون بإدانة لكل ما هو مدون أو مكتوب باعتباره جزءا من تراث تلك السلطة الشمولية التي اعتمدت التدوين الكتابي أصلا، التي استمدت قوتها وشموليتها من تلك المدونات (القانونية) أو الكتابة بشكل عام..! فقد ارتبطت الأخيرة دائما بالسلطة القمعية والتعسف السياسي منذ نشوئهما تاريخيا عبر العصور واستخدامها لها، وقد كانت أحد أدواتها في فرض التسلط وأدامته، وقد سخرتها بالكامل في فرض تلك الهيمنة وتأبيدها في مختلف العصور.
أما إدانة المخرج لتلك الموضوعة فقد تجسدت عبر تخلصه كموقف متماثل لاستنتاجنا أعلاه، من موضوعة الكتابة وكتابة (التايتل) بالتحديد في بداية الشريط ونهايته، وسخريته من موضوع وثاثق الاتهام ومحتويتها والتي تكدست بشكل مثير للقلق والاشمئزاز، صحيح أنه ظهرت في بداية الفلم كتابة بأسماء الفريق التقني للفلم فقط لا غير، ولم تشكل أي حضور مؤثر على الشريط لا من ناحية المساحة أو الزمن. أما في نهايته فقد عوّض عن ذلك بالسرد عن طريق شريط الصوت (الصوت من خارج الكادر) مع آخر لقطة ثابتة من الفلم التي تمثل غيمة الدخان التي تتبقى من الأنفجارات التي شكلت النهاية مع صوت الراوي مرة وأخرى ليتلو علينا أسماء الممثلين وكل العاملين الآخرين ويختمها بقوله (أنا لعبت دور المحامي وكتبت السيناريو وأخرجت هذا الفلم وأسمي أرسون ويلز).









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في