الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاونات- التي في خاطري و-تاونات- التي في خاطرك –المحطة الثامنة عشر-

محمد البكوري

2017 / 3 / 2
الادب والفن


تلتهمنا السنوات العجاف كوحش كاسر ... تجرفنا الأمواج العاتية لتسونامي الحياة ... يتسلى بنا القدر... يعبث بنا المصير باشتياق شديد، كما تعبث الطفلة الصغيرة بجدائل ضفيرتها ... يلهو بنا الزمن... زمن التشظي ... زمن التشرذم ... فعلا أخي ياسين، أمر اليوم بالبرارك / الفيلاج فأحس بالاغتراب الغريب/ العجيب... أنا ولد "أولاد بكور" الذي كان يذهب إلى قلب مزيات الدافئ على الأقل ثلاث مرات في اليوم الواحد ...في كل زيارة إلى تاونات ... منبع الروح والوجدان... معشوقتي الأبدية... ماهيتي الأزلية ... ومنذ أن أصبح على مشارفها في "عين دردار" الأبية -وقبل ذلك أحرص على طقسي الذي لامحيد عنه ... الأكل، وبنهم شديد وافراط شرس "كيلو ديال الكفتة ديال أولاد داود " - أجد نفسي اليوم واحدا ... مشتتا... غريبا... تائها في بحر لا شط له ... وجوه مستعارة ... محبطة... شاحبة...بئيسة يراوغها الغموض المجهض للانفعالات ... أفواج بشرية متدفقة بأحاسيس الخواء الفتاك ... مفعمة بمشاعر الفراغ القاتل ... "شادة الحيط" ... منتظرة للمجهول ... مجهدة باليأس... متخمة بالاحباط ... مشبعة بالهوان ... قاصرة عن الكد ... جالسة في كيانات المقاهي – حيث بين مقهى ومقهى بلاريب ستجد مقهى- أروع مافيها أنها لا تنام "جور إنوي" ، كأنها عيون حارسة للمقام الطيب ... تلتقط "الصغيرة والكبيرة"... "الشادة والفادة" ... تقتات على سكون قمامات الزمن الوغد... تلعب لعبة الصمت ... لعبة الخفاء والتجلي... لعبة الذاكرة والنسيان... "كتحضي لبحر ليرحل" ...أي بحر في تاونات تقصد أسي؟ أقصد البحر الذي لا مرفأ له ... لاسفن فيه ...لا لحظة نجاة فيه... بحر أمتع مافيه ممارسة رياضة "الركمجة Surf " مع الحياة والسباحة ضد التيار... بحر أروع مافيه فتك زبد الطموحات وعباب الأفكار ... كل الوجوه مزركشة بالقليل من السعادة ومكتظة بالكثير من التعاسة ... تكرر ... تردد على مسامع بعضها البعض لازمة : " في تاونات ما كاين مايدار "" ... تطأ قدميك "البرارك/ الفيلاج " ... ترتفع نبضات الفؤاد المجروح ... تغرد لواعجك... ترتجف أحاسيسك... تنبسط أساريرك ... تزغرد دواخلك، كما "تزغرت" نساء الحي، اعلانا عن "ولادة مباركة ميمونة" ... يعتريك في الوقت نفسه احساس عارم ... فياض ...غريب ومتناقض...حيث تعشق كل شيء وتكره كل شيء ... يلفك وجدان الشوق الجميل لشخصيات صنعت عبق تاريخ "البرارك / الفيلاج" : "ضحى" بجسد صغير لايكبر ... يفتك أحشاءه البريئة الزمهرير ... تتنتصر رغم أحلك الظروف للحفاوة الشذية... تلفها بين ذراعيها ملائكة الليل... تحضنها أمها "راضية" التي ترتعد فرائصها من شدة البرد القارس ... "ضحى" الصبية البهية ... الحسنة الطلعة ... السيئة الطالع ... تنشد نشيد آذار : " البرد قارس في شهر مارس والكلب حارس "...لم تتاح لها فرصة ولوج المدرسة لتتعلم ولتتلقن، وفي المقابل علمتها الحياة ...علمها الشارع ... علمتها الأيام أعظم العبر... أفيد الدروس... "راضية" أمها المنهكة القوى بشكل دائم ... بجسد متعب ... شبه ميت... أخذت موطنا لها في زاوية ضيقة من العمارة التي تسكنها الأشباح، منذ أن بنيت سنوات التسعينيات في وسط المدينة في الطريق المؤدي إلى "حجدريان" ... توقد نارا لعلها تخفف قليلا من وطأة "السمقلي" وتدفئ جسد إبنتها التائهة في زحمة الحياة، والتي تحرص في كل لحظة شرود - وكأنه اغتصاب شنيع وطوعي لبراءة طفولتها- على أن تشم رحيق "ميكا السيليسيون" لتطلق العنان الجنوني لضحكات وضحكات مسترسلة، إيذانا منها بضحكها "على الزمن لضحك عليها ويضحك علينا جميعا " ..." مسعود" ذاكرة " البراريك/ الفيلاج" ... ينتقل مشدوها من مقهى إلى مقهى ... يرشف ... عفوا... يلحس قعر كؤوس القهوة ... يلتقط بنشوة "البوانيت ديال الكارو" ... وعجباه ! مات بجسد نظيف، بعد أن عاش بقلب نظيف ... يوم موته علينا أن نحتفي به كل سنة... علينا أن نخلد ذكراه ... نحوله إلى ذكرى لمن لاذكرى له... يومه، ولج الحمام لأول وآخر مرة في حياته ... نقى نفسه من أدران الزمن الجبان وأوساخ "الوقت" الملعون لينادي المنادي "دا مول الأمانة أمانتو" ... إنها لحظة الوداع ... لحظة مغادرة "مسعود" للأوجاع ... للمعاناة ... لرتابة الأيام ... لوقاحة السنين... إنه هناك ... يبتسم... تزغرد له النساء ... إنه هناك ... راحل بلاشك، وبلا تأشيرة إلى عالم "الطهارة" ... حيث لا أطفال أشقياء يرمونه بالحجارة ... ولا "بوانيت " يلتقطها ... ولا ليل ترتجف فيه هواجسه ... " الهندي "، لقب للطفل الرجل / الآتي من زمن آخر... من مكان آخر ... حل ب " البراريك/ الفيلاج" من " تاونات السفلى" ، من قريته الكائنة بمحاذاة سافلة "سد ساهلة " ، أغلب الظن من" حي عشايش"، وإن كانت الروايات المتواترة عن شخصيته الفذة والمرحة، ترجح انتسابه لحي "أولاد بوسلطان" ... لتقذف به أمواج الحياة الصاخبة ... لتصيره لعنة الزمن الوغد إلى "سيرور" يجود عليه الناس بدريهمات قليلة نظير خدمات مسح الأحذية والغناء الشذي ل"أميتابشون" و"أياما ديسكو دونصي" و"شاروخان" ... بعد غياب طويل... طويل جدا... أصل الآن مرهقا / نشيطا إلى " البراريك/ الفيلاج"... ولأتساءل بحرقة ممزوجة بألم شديد في القلب : أين أنت يا "راضية" ؟ أين أنت يا"ضحى" ؟ أين أنت يا "الهندي" ؟ وأين أيامك يا "مسعود" ؟ حتما الماضي لن يعود... لن يعود ... تذهب الأيام ويبقى الناس ... تبقى أصوات الماضي تلاحقنا :صوت زواكة درمضان المنبعث من دار الشباب... صوت الأم الحنون وهي توقظك للسحور ... صوت النفار والطبال... صوت"عمي علي " بمسجد كعدة الجامع في آذان رائع يبعث فيك روح الطمأنينة والخشوع ... يقربك إلى الله الواحد القهار... يحفزك على الصلاة ككتاب موقوت والتوبة النصوح ...صوت "برو" ديال "ماما" في القلايع.. صوت مول الزيتونة، التي عوض أن "نغللها" في موسم جني الزيتون، كنا "نكشطها تكشيطا" ... صوت مول الحوت : "أأأأسردين " ... صوت مول مواد النظافة: "أأأأجافيل "صوت الطلابة: "أشي صدقة ع الله... الله يرحم الوالدين" ... صوت البناية وهم يرمون الضالة: "العشقي في نبي" ...صوت "الجواق" أيام الصيف القائظ فوق السطوح وأناشيد وهتافات"العراسات" : " داها وداها والله ماخلاها ... أمحمد يا قطيب اللوز خلي ندوز... أمحمد حل عينك تشوف الزين ... هاهو فوق راسي ... لا تكولو ... وكمل من راسك!... يبقى الحنين ... تحن إلى الأماكن ... إلى قهوة "الطبال" ... إلى "الشاطو" ... حيث كنت على موعد دائم مع الخضرة والأشجار المزهرة على طول... والفراشات / الحجيلات التي تطير صيفا وشتاءا في منظر رائع ونادر ... كانت لديك الفرصة في استنشاق الهواء النقي... في مغازلة أهون المخلوقات من "النميل والرتيلة وحميار جدي " ... لم تتردد يوما في استجابة لنداء الأم بنقل "الزرع فوق البرويطة" وأخذه إلى "مطحنة القلايع" ... إلى عمي "الرغيوي" ... حيث "الله يحسن عونوا" ...ضجيج الماكينات ... والذي يجعلك تحس أن للتكنولوجيا ثمن ... تتذكر... تحن إلى ذاكرة زمن "عمي حميدو" ... أعرف جيدا أنه لم تطأ قدماه أي شبر خارج مدينة الروح والجسد مزيات العزيزة ... لم يستنشق في حياته كلها هواءا آخرا غير هواء تاونات... لم يتنسم... لم يتذوق ماء غير ماء عيون : عين الله ...عين الزيتون ... لكن المذياع أو الراديو مؤنسه المطرب، جعله يكتشف عوالم مختلفة من هذا العالم الغامض... يستمع بامعان إلى الراديو القديم، الذي أحرص جاهدا عند ذهابي إلى سوق "عين عائشة" مع الوالد لبيع وشراء الأبقار، على اقتناء له حجر "سوبر لوكس" أو "العود لبياض يا بابا"... "لقد سئمت من "تغزاز" هذا الحجر الملعون أسي موحمد... لمشيت نهار لحاد لعين عايشة جيب لي معك لحجر لهاذ أقجويطة أو صندوق لعجب... " أعرف جيدا أنه كان مؤنسه ومطربه في ليالي الصيف القائظ وليالي البرد الزمهرير... أعرف أنه كان كل شيء في حياته "سمير الليل" ويحي الكوراري" بالأحضان يا وطني"..." تهاني وأماني" ... وما أعرفه الآن : أن الزمن الجميل انتهت مدة صلاحيته، مع وفاتك يا "عمي حميدو" فوداعا ياعمي ... ووادعا أيها الزمن... يتبع ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه