الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على خطى يسوع-6- نؤمن أن لا إله إلا السبت

طوني سماحة

2017 / 3 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إنه السبت، يوم القداسة والصلاة اليهودي. في السبت تتوقف عجلة العمل، وتتجه كل الأنظار لخالق الكون. يترك الحطاب خشبه في الغابة. يقفل الراعي على غنمه في الحظيرة. يسقط النجار الإزميل من يده. يضع البناء الصخر جانبا. يقفل الطبيب باب بيته أمام المرضى. ترتاح سيدة البيت من إشعال النار والطبخ والنفخ. يقفل السوق محاله. يؤم الرجال المجمع، فاليوم هو يوم الرب ولا يجوز عمل أي شيء ما لم يكن عمل الرب. وكل من يجرؤ على مخالفة التقليد يموت موتا.

دخل الرجال المجمع واحد تلو الآخر. سمعوا عن رجل يؤم المكان اليوم قد يكون المسيّ المنتظر. هو يسوع ابن يوسف النجار ابن داوود الملك. كان يسوع يشفي المرضى والعميان والعرج والبرص. عرف عنه أنه لا يهاب رجال الدين ويوبخهم على أفعالهم المشينة. تبعه الناس، فالبعض منهم رأى فيه ظاهرة الملك الداوود الذي يحرر الأرض بحد السيف. كان منهم من يتمنى الجلوس معه على العرش. آخرون رأوا في التقرب منه نفوذا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. كان بين الجموع رجل يده يابسة أتى لأنه سمع أن ثمة نبيا يأتي اليوم ليشفي المرضى. دخل رجال الدين وهم يتوجسون حذرا من يسوع، فهم لم يحبونه ولا يستطيعون التنبؤ بما قد يفعله. أتراه يشفي المرضى وينجس السبت؟ أتراه يقضي على تقاليد عمرها مئات بل آلاف السنين؟ أتراه يزلزل العرش ويسحب السجاد من تحت أقدام رجال الدين؟ أتراه يقلب المفاهيم الدينية والاجتماعية التي بنوا عليها أمجادهم؟ أيجتذب الجموع ويتسبب بكارثة إذ يخيل للرومان أنه قائد عسكري، فيأتون بجحافلهم ويدمرون المدينة المقدسة؟ دخل يسوع وكانت كل الأنظار تتجه إليه.

بدا المشهد على شكل مثلث، في إحدى زواياه الشعب، في ثانيها رجال الدين، في ثالثها الرجل صاحب اليد اليابسة وفي وسط المثلث يسوع. نظر يسوع الى الرجل، فارتفعت وتيرة التوتر. أيكسر السبت، أقدس أقداس أيام اليهود؟ نظر رجال الدين الى بعضهم البعض في حذر فيما كانت أنظار الجموع تتنقل بين صاحب اليد اليابسة ورجال الدين ويسوع. نظر يسوع الى الجميع ثم قال للرجل "قم في الوسط". كادت أنفاس رجال الدين تتقطع، لكن لم يجرؤوا على المواجهة. قال لهم يسوع "هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو قتل؟" سكتوا. نظر يسوع حوله بغضب. أحزنه ما هم عليه من بلادة وغباء روحيين. قدسوا السبت حتى وضعوه إلها مكان الإله. فالسبت في نظرهم مثل الله، لا يجوز مسه، أو الاقتراب منه وإليه. هو مثل الله لا يتغير. فليمت من يمت وليحي من يحي، لكن للسبت قدسيته التي هي فوق الحياة والموت، فوق الخير والشر. الانسان للسبت وليس السبت للإنسان، وها هو يسوع يأتي اليوم ليقلب المعادلة ويعيد السبت للإنسان. يقلب يسوع المعادلة فينتزع الشر من السبت ويعيد الخير إليه. اهتزت الأرض تحت أقدام الفريسيين وهو يقول للرجل "مد يدك". خيل إليهم أن الأرض تتزلزل تحتهم وأن المجمع ينقض على رؤوسهم. لم يفعل واحد في تاريخ اليهود ما فعله هذا الرجل. دنس السبت، قلب المفاهيم والأعراف، خلق ثورة روحية واجتماعية وثقافية، هدد الامن القومي، أعاد صياغة الدين، قضى على الفوارق الاجتماعية وحتى الجنسية في المجتمع. كانت خدمته آنذاك لم تتعدى السنتين وفي الأقصى الثلاث، عندما ابتدأت أساسات المجتمع التي عرفوها على مدى آلاف السنين تتزعزع. لم يجرؤا على قول كلمة واحدة، لكن نظراتهم وتعابير وجوههم كانت تقول كلمة واحدة "لا بد من قتله. لا بد من موته". هذا الرجل لم يكن خطرا عليهم وحدهم، بل على المجتمع بأكمله.

مد الرجل يده بناء على أمر يسوع، فعادت صحيحة. نظر الى يده ثم نظر الى يسوع. لم يكن يفهم ما الذي حصل. نظر الى الفريسيين الذين خرجوا من المجمع واحدا تلو الآخر. كان القرار قد اتخذ دون أن ينبسوا ببنت شفة "يجب أن يموت هذا الرجل". تشاور الفريسيون مع الهيرودسيين، فمصالحهم قد التقت. بالنسبة للهيرودسيين، لو لحقت الجموع بيسوع لنصبوه ملكا مكان هيرودس مما يقضي على مصالحهم. بالنسبة للفريسيين لو تبعته الجموع لآمنت بأفكاره مما يؤول الى إلغائهم. خرج يسوع من المجمع. تبعته بعض الجموع. كانت المشاعر تتضارب نحوه. بعضهم رأى نفسه أقرب الى الحرية من نفوذ الرومان، الآخرون رأوا فيه ظاهرة اجتماعية وروحية قد يوظفونها مستقبلا في خدمة مصالحهم وآخرون رأوا فيه المسيّا المنتظر وكانوا يبحثون عن خلاص نفوسهم من الشر الذين يعيشون فيه.

بعدما مضى يسوع بعيدا كانت الجموع تتبعه وتتمنى إعلانه ملكا ليحبطوا مخططات الفريسيين، لكنه أوصاهم ألا يظهروه لكي يتم ما قيل عنه على لسان أشعيا النبي "هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفأ، حتى يخرج الحق الى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم".

(تعليق الكاتب: قد ننظر باستخفاف الى التقليد اليهودي القديم الذي قدس السبت على حساب الانسان. لكن لو نظرنا الى أعماق ذواتنا، كم نحن أيضا اليوم نقدس أمورا كثيرة على حساب الانسان. كم قتلنا الانسان باسم إيدولوجية أو دين؟ كم قتلنا امرأة باسم الجنس؟ كم تاجرنا بطفل او امرأة لأننا قدسنا الدعارة؟ كم خربنا دولا باسم النفوذ والمال والكرسي والمصالح؟ كم يتمنا طفلا على حساب خلافات دينية او عقائدية او سياسية؟ قد نكون أسوأ بكثير من الفريسيين الذين قدسوا السبت إذ نحن اليوم نقدس الجنس والمال والملك والرئيس والتقاليد وباسمها نعمل ما لم يعمله اليهود قديما.)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح


.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي




.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صبيحة عي


.. هنية: نرحب بأي قوة عربية أو إسلامية في غزة لتقديم المساعدة ل




.. تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل