الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كومونة بمتاريس من حب .. في مديح إتحاد الطلبة

أسامة سليم

2017 / 3 / 12
الادب والفن


كان ذلك ذات خريف مرير ..
كان شابا صغيرا يحمل همّا كبيرا , شاب عشريني يغزو وجهه حبّ الشباب و سمرة تفصح عن مناخ قاس و شعر أسود كثّ فوق رأسه مظلة من السعف .
نزل من الحافلة و ما إن وطئت قدمه الأرض حتى بصق على الأرض و لعن الوقت اللذي أبعده عن الطبشور و القلم و حضن أمّه .. عاد بذكريات البراءة و الطفولة .. حين كان يفترش أرض الريف الباردة , كل حديثه كان عن الزياتين و الكروم , عن صابة التمور و الأمطار و ديون الفلاّحين و الماعز و الإبل , هنالك حيث الرياح - موشمة بالشهيلي و الحرارة الفائرة من أقصي الصحاري وبعر النّوق والإبل - تداعب خصلات شعره التي إشتعل في بعضها الشيب , أشاح بنظره عن الأرجاء , لم يجد أشجار الزياتين المعهودة و طبعة الوحل علي الرصيف و فتيات القرية و طائر المنيار , كل ذلك بقي هنالك في ريفه البعيد تاركّا إياه بعيدا , أمّا هنا , فقد أتي بدموع أمه و أحلامها و دعواتها ,
كان ذلك من زمن بعيد , حين كان يركض وراء الفراشات و الزهور , كان محشوا بالفرح و الصخب الطفوليّ , رضيع خرج من رحم الصحراء الباردة ينشر شبقها , بحب مليء بالتبغ و الحب و اللازورد , نحت الوقت تعويذة الصحراء علي وجهه , و عاشر الحملان و و الدواب و الماعز و الإبل ,,, يحفظ الكثير من أشعار درويش و جرير و الفرزدق , و يرتل القرأن و يدمن كتب عصمت سيف الدولة و كارل ماركس . كان يقرأ سيرة العظماء و كان يتخيل عالما بدون هذا , عالمُ يعيش به أحمد بن بلة و باتريس لومومبو و توماس سانكار و جمال عبد الناصر و تيتو و تشافيز و كاستروا , كان يصول و يجول في المظاهرات و يكره مراكز الإيقاف و المستشفيات و قصر الولايات و البلدية , كان يدعوا إلى إنشاء الخمارات و المصانع و دور الثقافة و السينما كي يقبل حبيبته تحت إضاءة خافتة . كان يقول بأن منزله سيكون منظمة عدم الإنحياز و أن بوصلته الوحيدة هي فلسطين و حبيبته
كان بدويّا و كان يحلم بتأميم الثروات و إلغاء الطبقية و ديكتاتورية البلوريتاريا ,
كان يميل إلى جمال عبد الناصر و كان يتحدث عنه دائما حتي حين قدم إلي العاصمة تونس أخذ معه سطل من " البسيسة " تلك التي لا تسمن و لا تغني من جوع في ليالي المبيت الباردة و صورة جمال عبد الناصر و كتاب قرأن أخذه علي مضض بعد إلحاح من خاله الذي كان يلقن أبناء القرية القرآن ,
أشعة الشمس القوية صفعت و جنتيه كأنه خرج للتو من رحم أمه , كانت محطة الحافلة تعج بالمسافرين تحت أنغام أغنية non je ne regrette rien لedith piaf
تأمل كثيرا و سار في حال سبيله , المبيت لا يبعد عنه إلا مسافة عشر دقائق أو أقلّ لكن الطريق إلي الصحراء هي مسافة يوم أو بعض يوم ,
كان علينا أن نزداد جنونا . حتي ينكشف أمرنا
كانت الساعة تشير إلي الساعة الواحدة بعد منتصف ليل , نفذت علبة السجائر و ضاق صدري بكل شيء إلا من الحقد الطبقي و حُبّكِ ,
كنت أجلس كثيرا على طاولتي بغرفة المبيت و أفتح حاسوبي و أحكّ رأسي و أكتبُ لكِ الكثير من الأشياء , عن مشاريعنا المستقبلية , عن إسم أولادنا بالمستقبل , لكن كل ذلك ذهب سدى ..
أجلس الأن وحيدا , جدران هذه البيت تزيد من وحدتي و لا أنيس لي بتونس إلاّ أنتِ , لكنك ذهب أنتِ أيضا , أتأمل من نافذة غرفتي , على اليسار كالعادة .. هناك مقبرة الجلاّز , أين يقضّي فرسان القضيّة إستراحتهم , هنالك يمضي محمد البراهمي و شكري بلعيد ليلهم في لعب الورق و التأفف من اليسار التونسي الذي لا يختلف لكنّه يخُون أيضا ,
و يتسأؤلون لو قام مجموعة من المراهقين بتأسيس كمونة بمتاريس من حب , أولائك المراهقين الذين طمحوا إلى الثورة و حلموا بها في ليالي الشمال الباردة , ثورة تأكل الأخضر و اليابس و تستخرجهم من مستقنع الواقع المرير ,, حينها يققون و يلغون التفاوت الإجتماعي و ينهون الفقر و يقضون على البطالة و يحققون الكرامة و يطبقون الإشتراكية و يؤممون الأراضي الفلاحية و يوزعونها بالتساوي على صغار الفلاحين ..
ساد صمت يخفي إبتسامة صغيرة كانت تحمي ثغره , أسنانه لازلت بيضاء رغم قوارير البيرة و السجائر الرديئة , كان مثلهم يعاني من مراهقة ثورية لكنه إستيقظ من سباته الطوباوي , كان يَسَارِيّا على يَسَارِ اليمين , كان يحتقر القطب الإشتراكي الثاني موسكو , و كان يردد دائما " لا للسيد المسيح , لا لماو سي تونغ . القليل من ماركس و الكثير من العلم "
تذكر كل هذا ,لا من شيء لكن من كل شيء , إنهمرت من عينه دمعة حارة نزلت من عينه لأخمص قدميه , كل هذا لا يوجد هنا , كل شيء قد فقد , مشي قليلا في إتجاه المبيت , كان يري فتيات يضعن بارسينغ , صبغات شعر و سجائر السليمز , تذكر حلقة أذن أمه و حنتها , تذكر الحقول القاحلة , تذكر الانثي و الحرية , القرطاس و القلم , النعناع و الخبيزة و الخِمسة و اللازول و الترفاس , قوارير الجعة المخبأة في تراب الصحراء , لياليه الحمراء المسكونة بالعربدة و الشبق , هيام و غزل , و جثة في إنتظار قبر يسكنها , سجائر الكريستال و طائر المنيار ينتظره بفارغ الشوق , مديح من الظل العالي و سكون المقابر و ظل الزياتين و الكروم , أنا اللذي كان عاشقا رغم أنفه , في زبد البحر تهت , و في عينيك إغتيلت ثورتي , أنا اللذي بكيت حين علمت بأن تروتسكي قد قتله ستالين , بأن جول دولوز لم يكن شيوعيا , بأن شارلز ازنفور لم يغني الفن الملتزم , بأن الشيخ الإمام كان أعمي / لأانه لم يري عالما دون طبقية ,
جحافل من الجيش الأحمر و أنا نقود ثورتنا في إتجاه معبدك , المخبرون يحاصروننا في كل مكان و مؤخرة النظام تجلس بحجمها الكبير علي أحلامنا , أنا الذي أنفخ في بلّور واجهة محلّ الجرائد و أرسم قلب لعاملة المحلّ , أتلف محاصيل الإقطاعين و أحرقها و بدخان الحرائق أملؤه في قارورة بيرة كبيرة و أسرّب غازها في دهاليز وزارة الداخلية , أهرب بإتجاه تمثال إبن خلدون و أسحب أوراق من " مقدمته " و ألفّ بها سجائر حشيش , أركب فوق حصان بورقيبة و أقود جحافل من الجماهير بإتجاه قلعة الأمير و أغتاله و أحقق طموح القواعد العريضة
كنّا نتعاهد مؤمنين في سواد الصمت بأنّ من تحزّب قد خان و أننا ملحدون و كُفّار إلاّ من هذا الشعب
حين كنّا بصدور عارية كنّا نهتف بأن الوطن أغلي من حفنة دولارات و أنّ هذه الثورة ستحرق الأخضر و اليابس و لن تنتظر أحدّ , و ستكون دون سرج كي لا يركب عليها أحد ,, لكن أفقنا من سباتنا الشتوي و أيقنّا بإن إتحاد الطلبة أصبح يد مساومة بيد السلطة و أن البيروقراطية اللعينة تنخر من جسده كُلّ يوم , "أروني ثورة واحدة لم تُسرق؟ ثورات يقوم بها أبطال مضحون ويقطف ثمارها الانتهازيون والوصوليون"
أفكرّ حاليا في عطلة الربيع , سأكذب عليكم كالعادة و أقول لكم أنني سأمضيها في أفخر النُزل و الحانات لكنني سأقضيها في حضائر البناء , هناك حيث أفترش الأرض و أشتم قطران الأرصفة المعبّدة بقذارتكم و مجونكم
أنا أيضا كنت أفكر في القضايا الوطنية و أغني الفن الملتزم في مراكز الإيقاف , أوزع الحب و الفضيلة في المستشفيات و أشيّد دور السينما و المسارح و المكتبات على حافة الأودية , لكن كلّ ذلك كان حلم طُوبويا بإمتياز , الحقيقة تؤمنا و الواقع يؤلمنا أكثر
مذا عن أمي التي ألهب صدرها الإنتظار .. و هي تنتظر نتيجة السداسيّة الأولي بفارغ الصبر , مذا لو صارحتها و قلت لها بأنني أمضي وقتي بإتحاد العام لطلبة تونس أكثر ممّا أمضيه في الدراسة , عن الإجتماعات العامة في بهو الجامعة و في شارع الحبيب بورقيبة أمام المسرح البلدي ,, عن الإضرابات و الإحتجاجات و العصيان و التمرّد ,, عن حلقات النقاش و الجبهة الشعبية و الطرح الماركسي و أن نكون يسارين في القرن الواحد و العشرين ,
عن تلك الفتاة التي تنتظر حبيبها بفارغ الصبر , عن شرطي المرور الذي سيغلق الشوارع تمهيدا لمسيرة شعبية يقودها ستالين رفقة تروتسكي , نرفض قانون المصالحة و عودة أزلام النظام السابق
نشنق رجال الأعمال بأمعاء رجال الدين و نعلق رؤسهم على المدارس و الجامعات كي نحذّر الأجيال القادمة من وهم السلطة و أنّ هناشير الزياتين و الكروم أغلى من كراسي الوزارة
أنّ الشفاعة لا تقبل إلاّ ن والدة الشهيدة ,
حينها فقط سيدير لنا حنظلة ظهره و يلتفت لنا رافعا شارة الإنتصار بأنّ الثورة آتت أكلها بعد سبعة سنوات عجاف , حينها فقط سنحلم بغد للشيوعية يوحّّد العالم !!
إحترقت شفتاه فجأة من قبل سجارته التي أشعلها و لم يأخذ منها تفسا واحد , لعن حلمه الذي عبث بشفتيه بين الإنفراج تارة و الإنقباض تارة أخري , أحدث كل ذلك رجّة زلزال في قلبه المريض الذي محق شرايينه النقيّة , إستيقظ إثر ذلك المخاض العسير الذي بُعِث من موته اليسير , قشعريرة أيقظت بحيرة حب داخله مليئة بالصور الإباحية و الكلمات البذيئة , وحل من الإيدولجيا و مستنقع من السياسة وجد نفسه حائرا فيما بينهما , وجد نفسه يتنفس نفس الهواء الذي إستنشقه شكري بلعيد و محمد البراهمي , هواء مُدجّجُّ بالروائح الباريسية و اليسامين نقاوة و عبيرا و ريحانا و عبقاا ,
لم يَمُرّ ذلك الهدوء الرتيب اللذي بعث في نفسه الأرق و الروتين و الملل حتي وجد نفسه يصيح في ركن غرفته المُقيت صائحا : " مذا جننيا من إتحاد الطلبة سوى الهم و الغم سوى الهمّ و الغمّ سوي وجع الرأس و إيقافات مركز الشرطة و تعب السنين , نحن حشرات نسغرق وقتنا في عزاء الوهم و الأحلام , نعزف مقطوعة حياتنا على أطلال الوجود , هذه التفاهة الراكدة في ذواتنا هذه الخطيئة الرومنسية التي جنيناها على أنفسنا , هذه الواقعية المؤلمة اكثر من الواقع نفسه , نعيش في دوّامة كبيرة نشارك في تمثيلها رفقة رجال الدين و البوليس و السياسين , نكاد نبلغ الموت و لم نترك وصيّتنا بعد ,, بأن إتحاد العام لطلبة تونس هو صرح عاجي , قلعة في النضال , مدرسة في الحب , طاعون ينخر سرطانه جسدنا كل يوم .."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة