الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طيف ماركس الذي لا يختفي الجزء الثاني

قصي الصافي

2017 / 3 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


في أعقاب أزمة الكساد العالمي ( 2007-2008) سادت حالة من الارباك والحيرة بين الاقتصاديين الليبراليين، وقد أشرت تلك الازمة بوضوح الى خلل بنيوي خطير في منظومة الاقتصاد العالمي، ففي مؤتمر الايكونومست إعترف بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل " إن الاقتصاد التقليدي لم يكن غير ذي نفع فحسب بل كان مضراً في كثير من الأحيان "، أما جورج ماغنوس فقد ذهب أبعد من ذلك مناشداً زملاءه " أعطوا ماركس فرصة لانقاذ الاقتصاد العالمي "، وقد أوضح في مقال يحمل نفس العنوان أن هنالك الكثير من التشابه بين ما يجري الآن و ما توقعه ماركس في القرن التاسع عشر.
لأثبات صوابية توقعات ماركس لنبدأ بعرض موجز ومبسط لتفاعلات المشهد الأخير من الازمة التي تراكمت عناصرها عبر العقود الماضية والتي تمظهرت في قطاعات الصناعة والتجارة في الولايات المتحدة.

يرى ماركس أن السلعة تتضمن فائض قيمة مضافة من قوة العمل، وان وظيفة الرأسمالي تحويل فائض القيمة إلى ربح يحدده التنافس وقانون العرض والطلب، ثم يستثمر الربح لانتاج المزيد من السلع ، ضمن هذه الدورة الطبيعية في حقل الانتاج فقط يتم تركيز رأس المال الحقيقي ، أما في مجال المضاربة المالية ( بالاسهم مثلا )‎ فالرأسمال المتراكم ليس سوى رأسمال وهمي fictitious capital لافتقاده أي معادل انتاجي، فأذا كانت قيمة السهم الواحد في معمل ما 100 -$- فتلك القيمة تمثل نسبة محددة من إنتاج العمل ( معادلاً انتاجياً) ، وقد يرتفع السهم إلى الضعف في نفس اليوم مما يعني أن ال 100 -$- الاضافية ليست سوى رأسمال وهمي طالما أن المعادل الانتاجي في المعمل هو هو لم يتغير.

مع ظهور دوت كوم ( بدايات الانترنيت) بدأت موجة محمومة من المضاربات المالية شاركت فيها الشركات والافراد، وتحققت أرباح هائلة مما يسميه ماركس الرأسمال الوهمي، وقد استمر ذلك من 1995 م إلى 2002 م حين انفجرت الفقاعة فانهارت شركات كبرى وتعرضت اخرى إلى خسائر هائلة ( نازداك Nasdaq لوحدها خسرت 78 % من الاصول المالية ) . كما في كل أزمة يلقي الاقتصاديون البرجوازيون باللائمة على جشع المستثمرين و ولعهم بالربح السريع والاسراف في المضاربات المالية، ويسخر ماركس من تلك التحليلات الوعضيه قائلاً " إنهم كالفلاسفة الطبيعيين القدماء الذين يعتقدون أن الحمى سبب المرض لا عرضاً من أعراضه" وهو يرى ان الازمة تكمن في جوهر النظام الرأسمالي وتكشف عن تناقضاته، وأن المضاربة المالية ليست سوى عرض من أعراض المرض لا يقوى الرأسمالي على مقاومة اغراءها طالما أن الجري وراء الأرباح هو هدفه الوحيد ومن صلب عمله، بيد أن ماركس يميز بين الازمات الدورية التي يراها أزمات طبيعية يتعافى منها النظام بسرعة وأزمات كساد كبرى recession ‏( 1840 م ، 1930 م ، 2008 م ).
مع تلك الفقاعة المالية دخل الاقتصاد حالة من الركود بانحسار الاستثمار الصناعي والخدمي والتجاري، وقد انخفض معدل الربح ( الربح نسبة الى رأس المال المنتج له ) إلى ادنى مستوياته عام 2002 م، فكان من الضروري فعل شئ!!

سارع البنك الفدرالي الاحتياطي إلى إقراض البنوك بفوائد مخفضة ( % 1.67 ) فشرعت البنوك بتسهيل القروض للمستثمرين والمواطنين بما فيهم الملايين من ذوي الدخل المحدود، وقد رافقت ذلك حملة دعائية لتشجيع المواطنين على الاقتراض وشراء العقارات، وهكذا تزايد الطلب على شراء البيوت مما أدى الى ارتفاع مستمرفي اسعارها، وهذا بدوره شجع شركات البناء على الاقتراض لانجاز المزيد و المزيد من الاعمار. المصارف مستمرة بالاقراض بضمانة البيوت طالما ان أسعارها في صعود مستمر، وشركات البناء وملاك البيوت مطمئنين أن ارتفاع أسعار عقاراتهم ستضمن تسديد الديون وفوائدها مع أرباح إضافية.
بدافع جني المزيد من الارباح استمرت الشركات بالبناء حتى تجاوز العرض حدود الطلب كثيراً، مما ادى الى إنخفاض حاد وسريع بالاسعار، وقد وجدت شركات البناء نفسها مجبرة على بيع عقاراتها بابخس الاثمان لدفع ديونها للبنوك، وإلا تراكمت الفوائد على تلك الديون، مما ساهم في خفض الاسعار أكثر، أما ملاك البيوت وخاصة ذوي الدخل المحدود فقد كانت عواقب تلك الفوضى أكثر قسوة عليهم، فأسعار بيوتهم قد انخفضت الى أقل من مستحقات الاقساط والفوائد المتبقية عليها في البنك ، وقد تخلت طواعية 1.3 مليون عائلة عن بيوتها للبنوك عام 2007 فقط، كما أجبر الملايين على الاخلاء بقوة البوليس لعدم قدرتهم على تسديد الاقساط. لم يكن هذا سوى جانب من المشهد الدرامي لفوضى السوق، وقد بلغ المشهد ذروته التراجيدية عبر المضاربات المالية بسندات الدين العقارية، ففي فترة الانتعاش الوهمي حين كانت اسعار البيوت في صعود مستمر سال لعاب شركات الاستثمار المالي لقضم حصتها من الرأسمال الوهمي عبر ما يسمى Collateral Debt Obligation CDO، حيث يقوم البنك ببيع سندات القروض إلى مؤسسة مالية بعد تحميلها ربحاً ليتسنى للبنك إقراض زبائن جدد ، والمؤسسة المالية بدورها تبيعها الى مؤسسة أخرى بعد تحميلها ربحاً إضافياً وهكذا تستمر العملية في سلسلة من البيع والشراء على الورق لتكديس ما دعاه ماركس الرأسمال الوهمي، وعواقب تلك المضاربات زيادة الفوائدعلى ديون شركات البناء وملاك البيوت.
لم تقتصر فوضى السوق على القطاع العقاري بل شملت جميع القطاعات الصناعية والتجارية، ففي قطاع صناعة السيارات بلغ فائض الانتاج عام 2007 م نسبة 30 % من السيارات التي لم تجد طريقها للبيع مما دعا الى غلق الكثير من المصانع وتسريح أعداداً كبيرة من العمال والموظفين (تدمير رأس المال بهدف انقاذه بتعبير ماركس).
لم تكتف البنوك بتسهيل القروض العقارية بل عملت على تشجيع المواطنين للحصول على بطاقات إئتمان ‏credit card بغض النظر عن مستويات دخلهم لحثهم على شراء السلع بالآجل، وكان شعور المواطن آنذاك أنه يعيش في بحبوحة طالما أن بمقدوره شراء ما يريد وإن بالدين الآجل.انتفخت الفقاعة تدريجياً حتى انفجرت حين أفلست البنوك للعجزعن تسديد الديون خاصة وان اجور العمال والموظفين تكفي بالكاد لسد مستلزمات العيش الضرورية، أضف إلى ذلك فقد المواطنين لوظائفهم وأعمالهم جراء فيض الانتاج مما يعني أن جيشاً من العاطلين غرقى بالديون ودون مصدر مالي. انهيار الشركات وافلاس البنوك والبطالة، كل ذلك أصبح خارج السيطرة وبدت الرأسمالية كما وصفها البيان الشيوعي ( كالمشعوذ الذي فقد السيطرة على القوى الجهنمية التي استحضرها بنفسه).

أوضح ماركس في رأس المال الجزء الثالث الفصل 15 نظرية معدل الربح والتي تنص على أن نسبة الربح الى رأس المال المستثمر لتحقيقه تتأرجح صعوداً ونزولاً الا انها تميل الى الانخفاض على المدى البعيد مع دخول التكنولوجيا ( ستكون هذه النظرية موضوع مقال قادم) وسأكتفي بالقول إن الدراسات والبيانات الاحصائية للفترة من 1950 إلى الآن قد أثبتت صحة ذلك ( كليمان 2010 ).
بانخفاض معدل الربح يتجه الرأسماليون إلى التجارة المالية والمضاربات لتكديس الارباح على هيئة رأسمال وهمي ( تضخمت الاصول المالية في العالم بهيئة ديون وإئتمان منذ ما يسمى بالثورة الريغانية حتى بلغت عام 2007 ثلاثة أضعاف ونصف إجمالي الانتاج العالمي الحقيقي Farrel 2008 )، كما يعمد الراسماليون الى زيادة القروض والائتمان لرفع مستوى الطلب على السلع، والذي يقود بدوره إلى فيض الانتاج وكساد البضائع لأن هدف الرأسمالي تحقيق الربح وليس تلبية حاجات المستهلك، وفيض الانتاج يقود الى الأزمة. يقول ماركس ( الائتمان هو الرافعة الاساسية لفيض الانتاج) وقال أيضاً (إن الائتمان يدفع الانتاج الرأسمالي الى أبعد من حدوده)، وفي عبارة مكثفة يلخص كل ما ذكرناه عن الازمة الاخيرة ( الانخفاض الحاد بمعدل الربح يقود الى فيض الانتاج والمضاربات المالية والازمات وفائض رأس المال).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بل يختفي في فكر قصي الصافي
فاخر فاخر ( 2017 / 3 / 20 - 06:37 )
كل حديث عن أزمة الرهن العقاري في خريف 2008 في الولايات المتحدة كأزمة رأسمالية إنما هو حديث معاكس للمبادئ الأولية للماركسية
الأزمة الدورية للنظام الرأسمالي التي تحدث عنها ماركس ناجمة أصلاً عن أن مجموع أجور المنتجين العمال أقل كثيراُ من المجموع الكلي لقيمة إنتاجهم ولذلك يبقى الفائض دون شراء
فيعم الكساد في دورة الإنتاج
ما حدث في أزمة الرهن العقاري هو العكس تماما حيث تحصل المنتجون على أموال عن طريق رهن العقارات تزيد كثيراً على قيمة إنتاجهم فزاد شراؤهم على الإنتاج المحلي لشراء إنتاج شرق آسيا والصين
حدثت أزمة مالية حيث الصناعات الأميركية لم تكن قادرة على تغطية السوق وهو العكس تماما من أزمة النظام الرأسمالي

ما هو غريب حقاً هو أن ماركسيين بوزن الصافي وأمثاله ينكرون دون أدنى أسباب حقيقة انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات والتي كان الرفيق ستالين في نوفمبر 1952 قد توقعها في وقت قريب
كان هتلر قد قضى على أكبر إمبراطوريتين رأسماليتين إمبرياليتين بريطانيا وفرنسا قبل أن يقضي عليه السوفيات
أما الولايات المتحدة قلعة الرأسمالية فلم تجد في غمرة حربها في فيتنام 1971 الغطاء الكافي لعملتها فانهارت


2 - كساد وليس تضخماً
قصي الصافي ( 2017 / 3 / 20 - 19:19 )
السيد فاخر
شكراً لمرورك الكريم
أزمة 2008 لم تكن أزمة تضخم كما وصفتها أنت بل أزمة كساد ولذا سميت أزمة الكساد الكبير ولهذا البنك الإحتياطي خفض نسبة الفائدة وإلا سيفعل العكس في حالة التضخم ،والمفارقة انك تجادلني على طبيعة أزمة عشت تفصيلاتها وتفاعلاتها في موطنها وكتب وتحدث عنها آلاف المحللين ماركسيين ولبراليين ولم يكن هناك من قال أنها أزمة تضخم ،أما تفسيرك العجيب أن العمال رهنوا عقاراتهم للحصول على أموال لشراء بضائع الصين فهذا أولاً لم يحصل - يمكنك تبني وجهة نظر ولكن لا يمكنك أن تختلق واقعاً لم يحصل أي إذا رأيتها تطير لا يمكن أن تصر أنها عنزة - ، ثانياً العمال لا يمتلكون عقارات ليرهنوها فكما قلت في المقال أن الأجور بالكاد تستوفي مستلزمات العيش البسيط - إلا إذا كنت قد خدعت بالدعاية الرأسمالية وظننت أن العامل يعيش في هكذا بحبوحة. أما عن الإدعاء بنهايه الرأسمالية بعد كل أزمة، فأقول لو عاد ماركس ستسبب له هكذا تبسيطية ألماً يفوق ألم بواسيره التي كانت أكثر ما يؤلمه في حياته.

اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال