الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4/3 (*)

حسني إبراهيم عبد العظيم

2017 / 3 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تطور الوعي الإنساني بالألم من الميثولوجيا إلى السوسيولوجيا 4/3


ثالثا: الإسهام السيكولوجي و الخروج من دائرة الحتمية العضوية

على الرغم من أهمية التفسير الفسيولوجي للألم، الذي أسـس لفهم علمي تجريبي رصين، إلا أن هذا التفسير ظل في الدائرة العضوية المرتبطة بالإنسان، ولم يتخطاها، كما أن النظرية الفسيولوجية تضمنت العديد من الافتراضات الضمنية – الفسيولوجية والتشريحية التي فشلت في تقديم إجابات للعديد من (الألغاز العويصة) Insoluble Puzzles في هذا السياق، منها على سبيل المثال، أن موضع الألم قد يختلف عن موضع الإصابة، وأن هناك آلاما تستمر بعد شفاء الجزء المصاب، وكذلك عدم وجــود علاج ملائم لأنواع معينة من الألم، وخاصة تلك الأنماط مجهولة السبب Idiopathic Pains أي أنها لا تنتج عن تلف بالأنسجة، وليس لها سبب محدد مثل آلام أسفل الظهر Low Back pain (LBP) ، والصداع النصفي. Migraine ولم تتمكن النظريات الفسيولوجية من تفسيرها بصورة ملائمة، على الرغم من التطور الكبير في قياس النبضات العصبية وتسجيلها. (Bendelow 1993:274)

من أجل ذلك جاءت محاولات وجهود تالية لتوسيع دائرة الفهم العلمي للألم، وإبراز الأبعاد الأخرى غير العضوية المؤثرة في الألم والاستجابة له، وكان علماء النفس سباقين لتوسيع هذه الدائرة، حيث حاولوا فحص العلاقة بين الألم والعوامل السـيكولوجية المعقدة.

ففي نهاية القرن التاسع عشر، طور فرويد Freud أسسَ نظرية جديدة تساعد في تفسير كيف أن أعراضا جسدية معينة كالألم، قد تنتج من ضغوط أو صراعات عاطفية عميقة، وفي ذات الوقت وقعت معركة (علمية) حامية الوطيس بين عالِمي الأعصاب (فيري) و(جولدشيدر) Goldscheider حول الجوانب الفسيولوجية لنظرية خصوصية الألم، وفي عام 1895 ظهرت رؤية جديدة مغايرة لمارشال Marshall الفيلسوف وعالم النفس الذي أصر على أن العمليات الحسية ليست هي المهيمنة في إحداث الألم، ولكن العمليات الوجدانية والعاطفية تلعب دورا مهما في ذلك السياق. (Bendelow and Williams 1995a:141)

وقد تشكلت نظرية علمية جديدة تحاول أن تعالج قصور نظرية خصوصية الألم، وغيرها من النظريات الفسيولوجية، على يدي عالمي النفس الكندي (رونالد ميلزاك) R. Melzack و البريطاني (باتريك وول) P. Wall أطلقا عليها نظرية بوابة التحكم Gate control theory ونشرا أول صياغة لها في مجلة العلم Science في عام 1965. حيث كتبا في صدر المقال فحوى النظرية: (إن نظام بوابة التحكم يُعَدل من المدخلات الحسية الواردة من الجلد قبل أن تستدعي إدراك الألم والاستجابة له). (Melzack & Wall 1965:971)

وقد كانت صياغة نظرية بوابة التحكم في الألم هي الحدث العلمي الأكثر بروزا في ستينيات القرن الماضي، حيث أعاد "ميلزاك" و "وول" تقييم النظريات الفسيولوجية السابقة، وقاما بنقدها من حيث أنها لم تأخذ في اعتبارها أن المعلومات التي يتم ترميزها عند مستوى المستقبلات الحسية، يتم تضمينها أثناء انتقال المؤثرات الحسية، وبالتالي تؤثر في الاستجابة للألم. (Carli 2011:176)

والحق أن نظرية بوابة التحكم كانت بمثابة تحد لمقولات النظريات الفسيولوجية، وخاصة نظرية خصوصية الألم، وذلك بتركيزها على الأبعاد العاطفية بنفس القدر من التركيز على الأبعاد الحسية العضوية. حيث نهضت النظرية على افتراض رئيس هو أن المتغيرات النفسية والمعرفية (والتي تتأثر بدورها بالعوامل الاجتماعية والثقافية) لها تأثير على العمليات الفسيولوجية المرتبطة بإدراك الألم والاستجابة له. (Bendelow 1993:275)

ترتكز نظرية بوابة التحكم على أن هناك آلية عصبية في منطقة القرون الحسية الظهرية Dorsal Horns للحبل الشوكي Spinal Cord تعمل كبوابة يمكن أن تـزيد أو تقلل من تدفق النبضات الحسية من الألياف العصبية الطرفية إلى الجهاز العصبي المركزي، ولذا فإن المدخلات الحسية تكون عرضة للتغيير من جانب البوابة قبل أن تستدعي إدراك الألم والاستجابة له. (Bendelow and Williams 1995a:141)

إن درجة قيام البوابة بزيادة أو إنقاص الانتقال الحسي للألم تتحدد بالنشاط النسبي في الألياف العصبية، وبالتأثيرات الآتية من المخ، ولذلك فإن العمليات النفسية كالتوتر، والقلق، والترقب، والخبرات الماضية تمارس تأثيرا قويا في عملية الألم، ولذا فإن ثمة اهتماما متزايدا من جانب النظرية بالمتغيرات النفسية والمعرفية. (Bendelow and Williams 1995a:141)

وقد قام (ميلزاك) بعد ذلك بتوسيع النظرية وتعديلها في عام 1968، ثم في عام 1982، حيث أضاف أبعادا جديدة، فأعطى اهتماما واعتباراً للأبعاد السلوكية التي تطرحها العلوم الاجتماعية، وساهمت النظرية بشكل كبير في تطور علاجات الألم، وآليات تخفيفه. (Loeser2001:54)

وبناءً على ذلك، يؤكد المدخل السيكولوجي لدراسة الألم على أن الأبعاد الوجدانية والمعرفية والتقويمية تعد أمورا جوهرية في تقييم الألم والتخفيف منه، فعلاج الألم العضوي بمفرده، قد يدع تلك الأبعاد دون حل. وربما يؤدي إلى تدعيمها وتفاقمها. إن فهم تأثير الخوف، والتوقع، والتوتر يمكن أن يساعد الأطباء في التعامل بدرجة أكثر كفاءة مع الألم الحاد، وعلى الرغم من أن أطباء الحالات الحادة قد لا يهتمون بتلك الظروف النفسية، فإنه يمكنهم المساهمة بإحالة المرضى إلى المكان الملائم للعلاج النفسي. (Hansen& Streltzer2005:345 – 346)

إن نظرية بوابة التحكم لا ترى في الإحساس بالألم مجرد عملية عضوية ميكانيكة تسير في خط مستقيم من مناطق الحس بالجلد ثم إلى المخ عبر الحبل الشوكي، ولكنها ترى أن ثمة عوامل خارجية – سيكولوجية بالأساس - تؤثر في المدخلات الحسية وتشكل ما يشبه البوابة التي تتحكم في مرور النبضات الحسية إلى المخ، وبالتالي تنتفي الآلية الفسيولوجية لحدوث الألم، ويستجيب الجهاز العصبي للمتغيرات الخارجية.

واستنادا لهذه النظرية، ميز بعض علماء النفس بين نمطين من الألم:

- الألم العضوي organic pain وهو الناتج عن أسباب عضوية خالصة، كتهيج الأطراف العصبية نتيجة مؤثر كالحرارة أو الإصابة وغيرهما.
- الألم النفسي – العضوي psychogenic pain وهو مستقل عن الناحية العضوية، فلا يحدث نتيجة مؤثر عضوي كتلف الخلايا مثلا، وإنما يرتبط ببعض النواحي العاطفية والنفسية، كالتوتر العضلي الناجم عن تجارب سيكولوجية محددة. . (Bendelow and Williams 1995a:143)

والواقـع أنه على الرغم من أن نظرية بوابة التحكم أشّرت لنهاية ثنائية العقل/ الجسد الديكارتية الشهيرة فيما يتعلق بالألم، إلا أن البعد العضــوي والفســيولوجي ظل مهيمنا على البعد الاجتماعي - الثقافي . (Bendelow and Williams 1995a:141)

ومع ذلك، فقد كـان دورها واضحا وبارزا في لفت انتباه العلماء (وخاصة علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا) للأبعاد غير العضوية لظاهرة الألم، كما أن (ميلزاك) (وول) نفسيهما قاما بإجراء عدة دراسات بيّنا فيها أهمية تلك العوامل، وهذا ما سنوضحه في المقال القادم بإذن الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) هذه المقالات مأخوذة بشكل أساسي من المرجع التالي:

د. حسني إبراهيم عبد العظيم، الألم: مقاربة سوسيو - أنثروبولوجية، مجلة نقد وتنوير، الصادرة عن مركز نقد وتنوير للدراسات الإنسانية، الكويت، العدد الثاني خريف 2015.

(**) د. حسني إبراهيم عبد العظيم، أستاذ علم الاجتماع المساعد - كلية الآداب - جامعة بني سويف - ج.م.ع.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نداءات لتدخل دولي لحماية الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية | #


.. غارات إسرائيلية استهدفت بلدة إيعات في البقاع شرقي لبنان




.. عقوبات أوروبية منتظرة على إيران بعد الهجوم على إسرائيل.. وال


.. شاهد| لحظة الإفراج عن أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرا




.. مسؤول أمريكي: الإسرائيليون يبحثون جميع الخيارات بما فيها الر