الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كم هو صعبٌ أن تكون بسيطاً!

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2017 / 3 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كم هو صعب أن تكون بسيطاً!
محمد طه حسين
هذا ما قاله كارل غوستاف يونغ ذات مرة عندما أنشغل بكتابة سيرته الذاتية لدار بانتيون للكتب في نيويورك والذي أقنعه بصعوبة حتى استجاب لعرض حياته الخاصة أمام الجمهور في جلسات عمل مرة كل اسبوع.
بساطة يونك جاءت أثر تعمقه في أغوار التأريخ الفكري والميثولوجي للأنسان وليست لامبالاته بما يجري وما تمر من الأحداث والظواهر من حوله. هو قرّر أن يكون وحيداً وبعيداً، طَبَّق الوحدانية لكي يركز على الأعماق ولا ينشغل بأصواتٍ وحركات قد تشغلانه أكثر ما تحرضانه على الأقدام نحو اللامرئيات الحاضنة لطاقاتٍ تتهيج في دواخلنا وتتشاكس كي تجد سرّ تعقيدات هذه البساطة الظاهرة في سياقات الحياة المتعددة.
الفردانية عند يونك هي أظهار الفرد لوجوده الفاعل، قراره بأن يبقى ويعيش وحيداً لم يكرهه عليه أحد ولم تجبره عليه الحياة في الآن، أنه أراد أن يُظهِر للعالم أن التفكير والعقل لا يقفان عند (الآن) ولا يقاسان بالمستقبل، وأنما لهما تأريخ وعلينا ان نسبر أغوار هذا التأريخ كي نثبت بأن الانسان هو كائن تتحد فيه الأزمنة كلّها وتتلاقى فيه الخطوط الفكرية للبشرية جمعاء، وليس لمجموعة أو قبيلة أو قومية أو.....الخ.
أنه أراد أن يكتشف الأمراض التي لم تدع البشرية الى الآن أن تسلك صحيّاً وأن تخطو وفق هارمونية من الأصوات المتناقضة والمختلفة، فالتناقض عند يونك هو الخالق للأنسجام والوئام لأيقاعات الحياة، فالأصوات المتشابهة لن تكون لها صدىً وردود أنفعالية وعاطفية ووجدانية غير أصدارها لصوت جهري واحد قد تصلح فقط لأبتهالات وأناشيد أثناء الصلوات والمراسيم التعبوية لأستعدادات القتال.
أستنطقته (أنيلّا يافه) وهي المحررة التي قامت بجلسات حوارية مع يونك حيث قال عالِمُنا:-
" أستغنيت عن الكهرباء، وأعتني بالمدفأة والموقد بنفسي، وفي الأمسيات أوقد المصابيح القديمة، ليس في هذا الكوخ الواقع في أعالي بحيرة زيوريخ ماء جار بل أسحب الماء بالمضخة من البئر، أقوم بِقَطعِ الخشب وأطهو الطعام، فالأفعال البسيطة تجعل الأنسان بسيطاً، وكم هو صعبٌ أن يكون المرءُ بسيطاً " *.
قرار ترك يونك حياة المدينة جاء من دغدغات فكرية لم تدعه أبداً كي يستقر وهو لا يفهم الى الآن ما تُحيِّرهُ من أفكار، هو يبحث عن منقذٍ لآلامه الفكرية والعقلية ويرى بأن الهدوء في أعالي الطبيعة بعيداً عن الصخب الحياتي قد يهيئ له طقوساً يجد ذاته فيها باحثاً عن هويتها الفردية التي تثبت للآخرين بأن التغيير يأتي دائما من الأفراد و(المجتمع السليم هو المجتمع الذي يختلف فيه الأفراد عادة).
كم جميلٌ هذا الاختلاف المنطقي الذي يقف عنده يونك كثيراً؟، حيث يرى بأن الجمال والأصالة يظهران في تناقضات الاشياء وليس في تماثلاتها المتناشذة مع طبيعة الوجود. الأنسان الفرد هو كونٌ صغيرٌ متمثل في الجسد ونيوترونات، أو بالأحرى ذرات الروح المكونة لطاقته المحركة لوجوده النشط نحو هذه الوجهة أو تلك. كونٌ تدور ذاته داخله دون أن يشعر هذا الفرد عبر التأريخ أن عليه أن يبحر أو يغطس أعماق الزمن بغية أكتشاف القدر اليسير من معرفةِ جغرافية هذا الكون، وكذلك تأريخه الثقافي المُعبِّر عن حلقات الزمن المؤرَّخ.
عندما يغادر يونك محشر العامّة، لم يكن غاضباً من أحد ولا من مؤسسات المجتمع والدولة التي يعيش فيها، لم يكن يائساً من شيئ سوى من جهله بالقوى التي جعلته لا يفهم لحدِّ الآن مكنونات العقل المنطلقة من خبرات الماضي القديم والتي تنشأ عادة ذاكرةً جمعية أو لاوعيٌ جمعي، له سيطرة سحرية على الكثير من الأفكار والمشاعر التي ندركها والتي ليس لنا قدرة أدراكها الى الآن.
عزلة أختيارية يتهيأ فيها لرصد مشاعره وأفكاره وتأملاته وذكرياته، كي يقدِر حدسَ أجنّاتها العقلية التي لها تأثير على المنظومة السلوكية والقيمية للبشر عامة فرداً فرداً وكذلك جماعة جماعات، ومن ثم كما يسميه يونك الأَخيولات التي تخطف الفرد دائماً سواءً في اليقظة أوالنوم صوب عالمٍ آخر يكون الفرد فيه موجوداً ضمن علاقات آخرى.
بناء يونك لبيت بسيط دون أبسط مقومات الحياة الحديثة، والأكتفاء بخلفيات زخرفية ورموز دلالية وفنية وأحجار ملوّنة، هو بمثابة الدخول في طقوس صوفية من نوع آخر، هو لن يحتج على مؤسسات الدولة بشيئ، فالدولة وقتئذٍ وَفَّرَ للكلّ الكهرباء وكذلك المضخات ووسائل الحياة المرفهة آنذاك. ليس كما نحن فيه من يأس وفقر فكري وعقلي وعَمَلي وأداري، وفوضى سياسي وأجتماعي وثقافي وأقتصادي، وأختلالٌ في التوازنات السيكولوجية والشخصية لمعظم أفراد هذا المجتمع.
أن ما أنجذب يونك الى الخَلوة الفكرية هذه هي ضرورة أيجاد فردٍ يقدر على الوقوف على قدميه، ويستطيع أن يدير نفسه داخل دوّامات الحياة المختلفة، وضرورة البحث عن البدائل الحياتية للأفراد عندما يلقون في أكوانهم الضالّة التي غرِقنا في متاهاتها وثقوبها السوداء غير المكتشفة لعقل الكائن البشري لحد يومِه أي اليوم الذي كان يعيش فيه يونك، ويومنا الذي نحن نعيش فيه.
بناء البيت اليونغي البسيط كان بأدوات الماضي وليس لمعطيات الحاضر أي دور فيه، هو أستطاع أن يبني عشاً سويسراً في محيط مدينة زيوريخ وعلى مرآى بحيرة جميلة خلّابة وجبال مغطات بالثلوج، حيث تُذكره بمتعة رؤية الشروق والغروب عندما تتحوّل القمم والسطوح الى كتلات حمراء وصفراء، وهذا ما يجعل من طفولية يونك جميلاً أكثر مثلما يشعره بتعقيدات لا يفهمها.
لجوء يونك الى الماضي ليس سقوطاً فيه وتيهاً في متاهاته، وليس هروباً من أثر فراغٍ لا يقدر ملأه أو أيجاد معنى له، أنه بصدد التشخيص الدقيق لأمراض الحاضر، لويلات قد تشوش ذاكرة الأفراد ولن تدعهم يستكينوا في أمان عاطفي وعقلاني. يونك كان يبحث في بيته النائي عن العقل المفقود في الماضي، لهذا يهيئ الطقوس وذلك لأحضار ماضٍ ساحق بكل رموزه ومؤثراته التي بقت الى الآن تحرك كياننا.
أنه أِحتَجَّ على نظام كونيٍّ كما أحتج أيضاً على نظام علميٍّ ومنهجيةٍ تفكيريةٍ وتفسيرية سيكولوجية وقع كارل كوستاف يونك تحت طغيانها العلمي القوي وهي الفرويدية، حاول بعد أن أنشق من معلمه أن يبني لنفسه منهجاً يخطو خطوات موثوقة وذلك لبناء مؤسسة علاجية تمكنها أيواء الضالّيين في الحاضر بمُغَيِّبات الماضي والمستقبل وأيجاد طرق العلاج لهم كي يستقيموا.
الأستغناء عن الكهرباء لا يعني الأستغناء عن الحاضر، الأستغناء عن ماءٍ جارٍ لا يعني القاء الحياة المدنية والتحضر جانباً. الأستغناء عن الجامعة والعيش بعيداً في منطقة نائية يعني التفرد، يعني الأستقلال، يعني الأعتماد على النفس، يعني التفكير متجرداً من تأثيرات العوامل الدخيلة، يعني العودة الى المنطلقات لبناء الركائز الأساسية لحياة جديدة وعقل جديد. النمط البدئي أو النموذج البدئي عند يونك لا يعني التمسك بالأجداد بقدر ما يعني الوعي بالماضي وذلك تجنباً لنمذجته ضمن الحياة الآنية.
بساطة الحياة هي أن تعيش كأنسان وليس كأشياء أخرى، البساطة في الحياة هي أن تجد لها أنظمة صادقة وموثوقة للعيش معاً وليس أن تتحايل بها على بقية الأناس الآخرين، الحياة الفاضلة لا تقاس بالوعورة الفكرية للأنظمة بقدر ما تقاس بالبساطة في أيجاد العلاقات الانسانية التي تفسح المجال للعيش لا للموت في الحروب والمآسي التي شكلت الأنظمة السلوكية والقيمية لمعظم الكائنات البشرية في مختلف المجتمعات المتخلفة وخاصةً مجتمعنا الكردي.
يعلمنا (يونك) البساطة كي نحب بعضنا البعض، كي نعشق فقط الأنسانية لا غيرها، كي نتماسك فقط بقدسية الحياة وليس أية قدسيات أخرى، فالحياة حق للكل ولهذا ينبغي علينا أيجاد الثروات المفقودة للعقل واستكشاف العقول المبدعة لحياة تستحق العقلانيين العيش فيها، العمل والنشاط فيها (الآن)، وكذلك دعم الأفكار التي تتأمل لكي تنشأ في المستقبل حياةً بانورامية يتعرف الفرد فيها على دوره في فقراتها. فالماضي والمستقبل ليس سوى زمنين نقلع في الأول ونهبط في الثاني كي نسكن في بيتنا الآمن خدمةً للأنسان في حاضره، وبناء الحياة وفق شروط هذا الحاضر.
البساطة هي الخلو من الأضطرابات والأزمات والأمراض النفسية والعقلية والمزاجية للفرد والجماعة، هي الأستنجاد بالعقل لأيجاد التوازنات الحياتية، هي أن تكون ذاتك ونفسك الى أبعد حد، هي أن تظهر قدراتك لا أن تختفي وراء الآخرين وأن تتكفل عوضاً عنك أفراد وجماعات وآيكونات أخرى، يقررون مصيرك ويحددون قدراتك.
بساطتنا سرقت، سرقتها فقهاء الظلام وسماسرة السياسة مرة بأسم الثورات التحررية حيث أكلت معظم حياتنا وأعمارنا، ومرة بأسم البناء والمُسَمّيات الخداعة والمتناشذة التي لم تبني غير بيوت الخفافيش وقلاع الأباطرة.
تعقد النسيج النفسي للنماذج الفردية لدينا، وليس بمقدور الكائن أن يتخلص من مكائد الأبالسة ومصائدهم التي تعشعشوا في بواطن نفوس الأغلبية وغرسوا رموزاً معبرة عن العنف والضامنة لوجودٍ خاوٍ من الآمال.
ــــــــــــــــــــ
• هذه الفقرة مأخوذة من كتاب " ذكريات وأحلام وتأملّات" لكارل غوستاف يونغ، ص225.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم


.. شبكات | مكافآت لمن يذبح قربانه بالأقصى في عيد الفصح اليهودي




.. ماريشال: هل تريدون أوروبا إسلامية أم أوروبا أوروبية؟


.. بعد عزم أمريكا فرض عقوبات عليها.. غالانت يعلن دعمه لكتيبه ني




.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح