الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موسى

فاتح الخطيب

2017 / 4 / 3
حقوق الانسان


.... كان حاله كحال الكثيرين من الرجال والنساء الذين يحضرون إلى العاصمة ( باماكو) من أجل جمع بعض المال, تاركين وراءهم عائلاتهم في قرى قد تاهت في صحراء جمهورية مالي, ليعودوا بعد سنين لأهليهم وقد جمع المحظوظ منهم بضع مئات من الدولارت.
ورغم أن هذا البلد غني بموارده الطبيعية مثل الذهب واليورانيوم والملح, الا أن متوسط دخل الفرد فيه لا يزيد على الدولارين في اليوم. ورغم انتاجه أجود أنواع الرز والقطن, لا يأكل هذا الشعب المسكين الا ادنى الدرجات من الرز المكسر ولا يلبس الا ما يرسل لهم من ملابس بالية. مما يؤكد بأن استعماره لا يزال مستمرا.
هذا البلد الأفريقي الفقير الذي شاءت الاقدار بأن أبدأ معه تجارة ومجموعة من الأصدقاء المستثمرين منذ عشرين عاما, والذي نرسل له ما يناسب قدرة أهله الشرائية من المواد الاوروبية المستخدمة ومن البضاعة الصينية الرخيصة, فقد تأصرت روابط صداقة بيننا وبينهم ولا سيما مع فريق العمل لدينا. إن طبيعة العمل في مخازننا تقتضي بأن يكون العامل قوي البنية مفتول العضلات, وعلى الرغم من جسمه الضعيف وقامته القصيرة وحركته البطيئة إلا أن لموسى حظوة خاصة لدى مسؤولة العمال (حبيبة). فهو الشخص الوحيد الذي تأمنه على استلام النقود وتأمنه على كل مفاتيح المخازن وأقفالها, وإذا اضطرت حبيبة المطلقة لمغادرة المكان فهو الشخص الوحيد الذي تأمنه على أطفالها.
كنا في معظم الزيارات نخصص لعمالنا ملابس جديدة, ومع ذلك فصورته لا زالت في ذاكرتي منذ أن عرفته بذلك القميص الباهت والسروال المرقع, وتلك الابتسامة الهزيلة التي لا تفارق وجهه أبدا...., ولأن حاجته للنقود أكثر كان في كل مرة نحضر له ملابس جديدة يقوم ببيعها.
في زيارتي لمالي قبل سنة ونصف تقريبا لم نره بين العمال, فسألنا حبيبة عن أمين سرها موسى, صمتت طويلا, هذا الصمت الذي ينذر بمصيبة, حيث تقوم بانتقاء كلماتها حتى يخف وقعها علينا. قالت بأنه مرض وأصابه الجفاف لدرجة أن الدم كان يسيل أحيانا من أطراف أصابعه, الأمر الذي استدعى إدخاله المشفى الحكومي. إلى هنا يبدو الأمر عاديا....لكنها بعد دقيقة صمت قالت بأن أحد الأطباء استدعاها لتحضر إلى المشفى كونها ربة عمل موسى والمخولة الوحيدة لتوقيع أوراق إرساله الى أمريكيا من أجل العلاج. ووسط اتغرابنا لهذا الأمر, سارت الإجراءات بسرعة وخلال شهرين كان موسى في أمريكا. في الأسابيع الاولى كنا نتواصل معه, ثم انقطع الإتصال به بعد شهر لبدأ إجراء العمليات اللازمة له.....
عندما عدت الى مالي بعد ثمانية شهور, كان موسى قد عاد للتو من أمريكا, لكنه لم يعد موسى الذي عرفناه, بل عاد كأنه (زومبي) مجرد من المشاعر, بالكاد يقوى على الحركة, وأصبح يحتاج لمن يساعده لقضاء حوائجه, وحتى تلك الابتسامة البائسة انطفأت وضاعت معها ملامح وجهه. وقد وصف زملاؤه لنا اثار الجرح المحيط برأسه, واخر يمتد من رقبته حتى أسفل ظهره, وقالوا بأنهم فتحو رأسه, وشقوا على طول نخاعه الشوكي لإجراء العمليات له. وفي حالته تلك طلبت حبيبة منا بأن نصرف له مبلغأ بدل إنهاء خدمته لكي نرسله الى قريته, ثم تقرر أن يبقى راتبه على حاله ويصرف له أيضا خادما يقوم بمساعدته في قضاء حاجاته.
ولأننا اشتبهنا بالأمر, جمعنا كل الأوراق المتعلقة بموسى, وأخذنا أحد الأصدقاء الى أفضل مكتب محاماة في (باماكو) وبعد سماعه القضية واطلاعه على الأوراق, هز رأسه مع نظرة خيبة أمل وقال بأنهم يوقعون المستفيد من العلاج على حياته وبأنه يخلي مسؤوليتهم منها لو مات....وقال المحامي بأن الأمر ذاته قد حصل لأحد أقربائه والذي توفي في أحد مشافي أمريكا, وأنه شخصيا تبنى تلك القضية لكنه لم يفلح بتحقيق أي شيء, فانهم يحمون نفسهم قانونيا بشكل محكم. وأضاف بأن هذه الجريمة تمارس بكثرة على أبناء هذه البلاد الفقيرة حيث ينقل سنويا العشرات بل المئات من المرضى الى أمريكا, لكي يجروا عليهم تجاربهم كفئران... والذين غالبا لا يعودون أحياء.
انتابتنا حالة غضب شديد, وشعرنا بأن الظلم كله قد تجسد بموسى, فلم نهدأ بل قمنا بجمع عدد وفير من الأصدقاء لكي نذهب الى ذلك الطبيب المجرم الذي قام ببيع موسى, وعندما سألنا عنه في المشفى الحكومي, قالوا بأنه سافر هو وزوجته وأولاده الى أمريكا بعد أن حصلوا على الكرت الأخضر منذ نصف سنة تقريبا.....
في زيارتي الأخيرة لمالي والتي عدت منها قبل أيام لاحظت بأن مخصصات موسى لم تصرف له عن اخر شهرين, انقبض قلبي واستغربت ذلك وسألت حبيبة لماذا لم يدفع لموسى مخصصاته؟ فلم تجب بل عادت لصمتها المشؤوم, وهذه المرة انتظرت طويلا لكي تجيبني, لكنها لم تفعل بل دفنت وجهها بين يديها ولم أسمع الا صوت نحيب مخنوق....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارتان إسرائيليتان تستهدفان خيام النازحين في حي زعرب برفح


.. اعتقال مؤيدين لفلسطين في جامعة ييل




.. الأونروا: ما الذي سيتغير بعد تقرير الأمم المتحدة؟ • فرانس 24


.. وكالة الأونروا.. ضغوط إسرائيلية وغربية تهدد مصيرها




.. آلاف المهاجرين في بريطانيا يخشون الترحيل إلى رواندا