الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بأيِّ معنى يشمل قانون -الانتخاب الطبيعي- المجتمع؟

جواد البشيتي

2017 / 4 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


جواد البشيتي
هل قانون "الانتخاب (الاصطفاء، الانتقاء) الطبيعي" يَصْلُح تفسيراً وتعليلاً للتطوُّر الاجتماعي والتاريخي أيضاً؟
إنَّ "نَعَم"، أو "لا"، هي الإجابة؛ لكنَّ هذه الإجابة لن تعفي صاحبها من مسؤولية التعليل والتفسير؛ فإنَّ على المجيب أنْ يشرح ويُوضِّح أسباب وحيثيات إجابته (بـ "نَعَم"، أو "لا").
حتى "الإجابة المبدئية"، أيْ الإجابة بـ "نَعَم"، أو "لا"، لن تكون مستوفيةً شروطها العِلْمِيَّة والمنطقية إذا لم يَفْهَم صاحبها على خير وجه معنى "الانتخاب الطبيعي" في عالَم الحيوان والنبات؛ فإنَّ كثيراً من المجيبين عن أسئلة بوزن وأهمية هذا السؤال يجيبون قبل أنْ يَفْهَموا ويتمثَّلوا معاني المفاهيم والمقولات والمصطلحات التي تتضمَّنها الأسئلة.
الكائن الحي إنَّما يُوْجَد ويعيش في بيئة طبيعية معيَّنة، وليس في أيِّ بيئة طبيعية؛ وخصائص وسمات هذه البيئة تشمل، أيضاً، خصائصها وسماتها المناخية.
لا شكَّ في أنَّ الكائن الحي (ومع أفراد نوعه) لا يمكنه أنْ يُوْجَد ويعيش في بيئته الطبيعية من غير أنْ يُحْدِث تغييرات معيَّنة فيها؛ فثمَّة تغييرات في الطبيعة لا يمكن فهمها وتفسيرها إلاَّ على أنَّها نُتاج وجود وعيش كائنٍ حيٍّ ما فيها؛ لكنَّ الأساس في عملية "الانتخاب الطبيعي" يكمن في البيئة الطبيعية نفسها؛ فما يطرأ على هذه البيئة من تغيير هو الذي يؤسِّس لعملية "الانتخاب الطبيعي" فيها.
وفي العلاقة المتبادَلة (التفاعل، التأثير المتبادَل) بين الكائن الحي وبيئته نرى، أوَّلا، أنَّ الكائن الحي، كل كائن حي، لا بد له من أن يتكاثر ويتناسل ثمَّ نرى أنَّ بعضاً من نسله (وليس كل نسله) يبقى على قيد الحياة.
الكائن الحي يلِد العشرات، أو المئات، أو الآلاف، من أمثاله، أي من أفراد نوعه؛ وكل مولود لديه من الصفات والخواص ما يجعله مختلفاً عن "أشقائه"؛ فلا وجود أبداً لـ "التماثُل التَّام (المُطْلَق)".
وفي هذا الاختلاف (والتباين) يكمن سر التطور؛ فالمولود الذي يبقى على قيد الحياة، ويتكاثر ويتناسل، من ثمَّ، إنَّما هو الذي لديه من الصفات والخواص ما يمكِّنه من العيش في البيئة التي وُلِدَ فيها أمَّا غيره من المواليد الأشقاء فلا مفرَّ له من الهلاك ذلك لأنَّ البيئة التي وُلِدَ فيها، والتي تؤدِّي دور "الناخب" في المجتمعات الديمقراطية، لم تَجِدْ فيه، أيْ في هذا "المرشَّح (من بين عشرات ومئات وآلاف المرشَّحين من أشقائه)"، من الصفات والخواص ما يؤهِّله لأنْ يكون ابناً لها، فلم تُدْلِ بصوتها لمصلحته، أي لم تنتخبه وتصطفيه وتختاره.
الذي لديه، في صفاته وخواصه، أي في فطرته، ذلك "التفوُّق" هو الذي تنتخبه الطبيعة، أو البيئة التي وُلِدَ فيها، وهو الذي، في تكاثره وتناسله، يُوَرِّث نسله صفاته "الجيِّدة"، فيستمر ويَعْظُم التطور والارتقاء جيلاً بعد جيل حتى يتحوَّل "النوع القديم" إلى نوع جديد أكثر تطوراً ورقيَّاً.
والكائن الحي، وبما تسمح به صفاته وخواصه الفطرية والوراثية، يَكْتَسِب، في سياق تفاعله مع بيئته الطبيعية، بعض الصفات والخواص؛ وهذه الصفات والخواص المُكْتَسَبَة يمكنها، مع مرور الوقت، وتعاقب الأجيال، أنْ تتحوَّل إلى صفات وخواص وراثية.
والانتقال في عالَم الحيوان والنبات من نوعٍ قديم إلى نوعٍ جديد لا يشذ أبداً عن قانون "تحوُّل التبدُّلات الكمية الطفيفة المتدرِّجة غير الملحوظة إلى تبدُّل نوعي (كيفي) مباغِت"؛ فَبَيْن النوعيتين (القديمة والجديدة) لا وجود لـ "نوعية ثالثة"؛ فـ "الحلقة (أو الحلقات) المفقودة" إنَّما هي افتراض خاطئ متأتٍّ من عدم فَهْم وتمثُّل معاني هذا القانون الجدلي الكبير؛ فلو افْتَرَضْنا أنَّ "النوعية القديمة" هي القرد، أو نوع ما من القردة، وأنَّ "النوعية الجديدة" هي الإنسان؛ فهل من المنطق في شيء أنْ نتَّخِذ من الفروق النوعية بين القرد والإنسان سبباً لافتراض وجود "حلقة وسطى (مفقودة)"، هي حيوان ثالث ليس بالقرد وليس بالإنسان؟!
إنَّ ثمَّة فروقاً نوعية بين الماء (السائل) والجليد؛ لكن هل وجود هذه الفروق يُجيز لنا افْتراض وجود حالة ثالثة بين الماء والجليد، يكون فيها الماء (قبل تحوُّله إلى جليد) على هيئة "عجينة" مثلاً؟!
ومن "الطبيعة"، وقانون "الانتخاب الطبيعي"، نتعلَّم، أوَّلا، ضرورة وأهمية إظهار "الاختلاف"، فالخطوة الأولى على طريق التطور والتقدُّم هي تمكين المجتمع، أفرادا وجماعات، من أن يُظهِر، في حرِّية تامة، تنوعه واختلافه، في الميول والأفكار والمعتقدات والرؤى.. والأحزاب، فبهذا "التكاثر الحزبي السياسي الفكري"، الذي نتطيَّر منه، نخطو تلك الخطوة الأولى.
ونتعلَّم، أيضا، أن ليس كل ما يُولَد يستحق البقاء، فالحزب أو الاتجاه أو الفكر الذي لديه من الصفات والخواص ما يسمح له بأن يكون ابناً للبيئة الاجتماعية والتاريخية هو وحده يبقى على قيد الحياة، وتنتخبه "البيئة" عبر الناس.
على أنَّ البيئة الاجتماعية والتاريخية لن تكون "ناخبا ديمقراطيا" إلا إذا كانت حرَّة من ضغوط وتأثيرات كل من لا يملك من ميزان يزن به "الصواب" و"الخطأ"، "الخير" و"الشر"، "المفيد" و"الضار"، "الحلال" و"الحرام"، إلا الميزان المُخْتَل بقوة المصالح الضيِّقة.
إنَّ البيئة الاجتماعية والتاريخية "الاصطناعية" هي التي ما زالت حتى الآن تتولى الانتخاب والاختيار في مجتمعاتنا، فلا يسود من الأفكار والمعتقدات والاتجاهات السياسية والأدبية والفنية إلا ما تستحسنه وتستنسبه المصالح الضيِّقة.
ونريد مجتمعا "تطبَّعت" بيئته الاجتماعية والتاريخية بما يسمح له بإظهار كل تنوعه واختلافه، فينتخب ويختار، في حرية تامة، ما يلبِّي احتياجاته، ويخدم مصالحه، من بين كل ما ظهر فيه من اتجاهات وأفكار وأحزاب.
وفي العودة إلى السؤال الذي استهللتُ به هذه المقالة، أقول إنَّ قانون الانتخاب الطبيعي يشمل المجتمع أيضاً؛ لكن بعد إدخال شيء من التعديل عليه؛ وقوام هذا التعديل هو إحلال "البيئة الاصطناعية" محل "البيئة الطبيعية".
الإنسان (أيْ الجماعة البشرية، أو المجتمع) إنَّما يُوْجَد ويعيش ضمن بيئتين في آن: ضمن "بيئة اصطناعية (مدينة، قرية)"، وضمن "بيئة طبيعية" أوسع وأرحب.
و"البيئة الاصطناعية" تشمل كل ما ينتجه ويصنعه ويخلقه البشر من أشياء في سياق تفاعلهم (بواسطة العمل) مع الطبيعة، أيْ في سياق تغييرهم لمواضيع العمل الموجودة أصلاً في بيئتهم الطبيعية.
و"البيئة الاصطناعية" هي، بهذا المعنى، ثمرة التفاعل بين "الذَّات" و"الموضوع"؛ فالثياب التي نرتديها، مثلاً، والتي هي جزء من مفهوم "البيئة الاصطناعية"، لا تنتجها الطبيعة (أو البيئة الطبيعية) من تلقاء نفسها، ولا يخلقها الإنسان (أكان فرداً أم جماعة) من "العدم"؛ فالعناصر والمواد الأولية اللازمة لصنع الثياب تأتي من الطبيعة؛ لكنَّ هذا "المُركَّب"، أيْ الثياب نفسها، يأتي من التغيير الذي تحدثه "الذَّات"، أو البشر، في تلك العناصر والمواد الأولية.
وينبغي لنا أنْ نفهم "البيئة الاصطناعية" على أنَّها درجة من درجات تحرُّر الإنسان من سيطرة قوى الطبيعة عليه؛ فكلَّما كانت "البيئة الاصطناعية" أكثر تطوُّراً تضاءل التأثير المباشِر لـ "البيئة الطبيعية" فيه، وفي تطوُّره؛ فالإنسان الموجود في القطب الشمالي (البارد جداً والذي يكسوه الجليد) لا يحتاج (إذا ما أراد العيش هناك) إلى شَعْرٍ يكسو جسمه (كالدب) فإنَّ الثياب الملائمة لهذا المناخ القاسي، مع أشياء أخرى صنعها، يمكن أنْ تؤدِّي وظيفة "الشَّعْر الحيواني".
وهذا إنَّما يعني أنَّ وجود وتطوُّر "البيئة الاصطناعية" يجعل البشر أكثر استقلالاً عن فعل وتأثير قانون "الانتخاب الطبيعي"، وأكثر تبعية، في المقابل، لـ "البيئة الاصطناعية"، التي بفضلها أصبح في مقدور الجماعات البشرية أنْ تعيش في كل المناطق والأقاليم الطبيعية والمناخية على سطح الأرض.
إنَّ البشر، في احتياجاتهم، ومصالحهم، ودوافعهم، ووعيهم، وثقافتهم، وطباعهم الاجتماعية، يشبهون "بيئتهم الاصطناعية" كما يشبه الجَمَل الصحراء، في لونه وخصائصه البيولوجية والفسيولوجية. والتغيير يحدث دائماً وفي استمرار في بيئتهم الاصطناعية (التي هي لهذا السبب تتَّسِم بالدِّينامية). ومع تراكم هذا التغيير لا بدَّ لاحتياجات البشر، ومصالحهم، ودوافعهم، ووعيهم، وثقافتهم، وطباعهم الاجتماعية، من أنْ تتغيَّر هي أيضاً في نهاية الأمر، وبما يجعلها متوافقة، أو أكثر توافقاً، مع بيئتهم الاصطناعية الجديدة؛ وإنَّ لكل بيئة اصطناعية جديدة، مختلفة نوعياً، نوعاً جديداً (بالمعنى الاجتماعي والتاريخي) من البشر.
وفي مثالٍ يفيد في شرح هذا الأمر، أذْكُر أنَّ إسرائيلياً، يُنْظَر إليه على أنَّه واسع الأفق، هو شمعون بيريز قد سوَّلت له أوهامه الدينية التوراتية أن يهزأ ويسخر من هرم خوفو، ومن كل الحضارة المصرية القديمة؛ لكونها "وثنية"، ليمجِّد ويُعظِّم "سِفْر الأوهام الأوَّل" في العالم، وهو "التناخ"، الذي صوَّره على أنَّه "المأثرة الحضارية العظمى" لقبائل "بني إسرائيل"، و"نعمة التوحيد" التي أسبغوها على الناس كافَّة.
ولقد تذكَّرْتُ وأنا اقرأ هذه المقارنة الجائرة التي أجراها بين حضارة وادي النيل، التي لا يهزأ منها إلاَّ كل تلمودي ضيِّق الأفق، يستبد به شعور بالدونية الحضارية، وبين "حضارة" تلك القبائل البدوية، مَثَلاً، معناه أنَّ الشخص الذي يُحِبُّ قطف وأكل عنقود عنبٍ حلو، لكنه لا يستطيع الوصول إليه، يقول، معزِّياً نفسه، إنَّه، أي عنقود العنب، حامض المذاق.
تذكَّرْتُ ذلك؛ لأنَّ القبائل الرُحَّل من بني إسرائيل كانوا عاجزين لأسباب موضوعية عن أن يبتنوا لهم "حضارة وثنية"، بعظمة حضارة وادي النيل، فكيف للذين لا يعرفون من متاع الحياة الدنيا غير الخيام والمواشي، يرتحلون معها من مكان إلى مكان، بحثاً عن العشب والماء، أن يبتنوا معبداً كالكرنك، أو أن يصنعوا تماثيل عظيمة مهيبة كالتي صنعها الإغريق وقدامى المصريين.
نمط حياة البداوة اضطَّر تلك العشائر والقبائل من بني إسرائيل إلى أن يكونوا "غير وثنيين"؛ وليس في الاضطِّرار فضيلة يا أولي الألباب. لقد كانوا عاجزين عن أن يبتنوا لأنفسهم "حضارة وثنية"، فأورثهم عجزهم الحضاري هذا "فكراً"، قوامه وجوهره "الإيمان بالمعجزات"، فاخترعوا لهم "إلهاً بدوياً"، على شاكلتهم، يشبههم في صفاته وخواصه، وينتقل معهم في حلهم وترحالهم، بحثا عن العشب والماء؛ ثمَّ "وظَّفوه" في خدمة مصالحهم الفئوية الضيِّقة والتافهة، وفي سعيهم إلى التغلُّب على شعورهم بـ "الدونية الحضارية والتاريخية"، والذي منشأه جوارهم الحضاري الذي كانوا يعيشون على هامشه.
كانوا قوماً رُحَّل، لا يملكون إلاَّ الخيام والمواشي، يجوبون الأرض (أرض أمم الحضارات القديمة) بحثاً عن العشب والكلأ، فكيف لهم أن يبتنوا معبداً كالكرنك، أو يصنعوا تمثالاً كتمثال رمسيس؟!
عن اضطِّرار، وليس في الاضطِّرار فضيلة، حادوا عن وثنية المصريين والإغريق، متوفِّرين على جَمْع أساطير كثيرة، أبدعها غيرهم، في كتاب واحد، هو "التناخ"، الذي صوَّروه على أنَّه "المأثرة الكبرى" التي جاءوا بها إلى العالم، والتي، نسبةً إليها، تَصْغُر حجماً، وتتضاءل وزناً، أهرام خوفو وخفرع ومنقرع!
في بيئة بدوية قبلية ما كان ممكناً أنْ "تُنْتَخَب" عقائدَ وثنية؛ فـ "عقيدة التوحيد"، هي وحدها "المرشَّح (من العقائد والأفكار)" الذي يمكن أنْ تَنْتَخِبَه هذه البيئة.
قديماً، أيْ قبل مئات أو آلاف السنين، وقبل العولمة على وجه الخصوص، لم يكن من وجود لبيئة اصطناعية عالمية؛ فكل جماعة من البشر كان لها بيئتها الاصطناعية الخاصَّة بها، والتي تَجْعَل تلك الجماعة شبيهة بها. وكانت هذه البيئة، ولجهة تطوُّرها وتقدُّمها، خير مقياس نقيس به درجة سيطرة الجماعة على بيئتها الطبيعية، أو درجة استقلالها (النسبي) عن الطبيعة وقواها وقوانينها.
"البيئة الاصطناعية" تشمل أشياء كثيرة جداً؛ تشمل المنازِل (بخواصها الهندسية والفيزيائية وتجهيزاتها) والطرقات ووسائل المواصلات وشبكة الكهرباء والمياه والسدود وأماكن التسوُّق والمصانع..
لكنَّ أهم مكوِّنات وعناصر "البيئة الاصطناعية" هو أدوات العمل والآلات، أيْ كل ما يستعمله البشر من وسائل مادية لتغيير بيئتهم الطبيعية بما يلبِّي حاجاتهم المادية (حاجاتهم إلى المأكل والملبس والمسكن والعلاج على وجه الخصوص).
"الآلة"، وعلى أهميتها التي يدركها جيِّداً المشتغلون بالصناعة على وجه الخصوص، أي العمَّال وأرباب العمل، لم تحظَ بما تستحق من اهتمام المشتغلين بالعلوم الإنسانية، وفي مقدَّمهم المشتغلون بعلم الاجتماع الذي ما زال نَهْباً لكثير من المفاهيم والأفكار والتصوُّرات المجافية والمنافية للعلم.
"الآلة"، ولجهة العمل الذي تؤدِّي، إنَّما هي التطوير الاصطناعي لكل عمل، أو نشاط، يؤدِّيه، أو يمكن أن يؤدِّيه، الإنسان من تلقاء نفسه، وإنْ ليس بالفاعلية نفسها.
إنَّها الامتداد الاصطناعي لكل ما هو طبيعي من القوى والأعضاء والحواس التي يملكها الإنسان، فليس من "أداة" صنعها الإنسان إلاَّ وتُشْبِه، لجهة عملها ووظيفتها، قوَّة ما من قواه الطبيعية، أو عضواً ما من أعضائه الطبيعية، أو حاسَّةً ما من حواسِّه الطبيعية.
بأدوات أو آلات كالمِقص أو السكِّين نَقُصُّ أو نَقْطَع أشياء يُمْكِننا قصها أو قطعها ببعضٍ من أعضائنا وقوانا الطبيعية (الأسنان واليدين والأصابع..) ولكن بفاعلية وجودة أقل.
وبـ "العين الاصطناعية"، أي الميكروسكوب أو التلسكوب، نُوسِّع حدود رؤيتنا بالعين الطبيعية، فنرى أكثر وأوضح؛ ونرى ما لا يُمْكِننا رؤيته بالعين الطبيعية لضآلة حجمه أو لِعِظَم بُعْدِه.
وبـ "الذاكرة الاصطناعية" في جهاز الكمبيوتر، نتغلَّب على كثيرٍ من نقاط الضعف الطبيعية في ذاكرتنا الطبيعية.
و"الآلة" هي "أداة عمل" تَعْمَل بقوى غير القوى البدنية للإنسان، فهي "آلة بخارية" إذا عَمِلَت بقوَّة البخار، و"كهربائية" إذا عَمِلَت بالكهرباء؛ إنَّها "أداة عمل"؛ ولكن ليس كل "أداة عمل" يجب أن تكون "آلة"، فالمحراث، مثلاً، "أداة عمل"، وليس بـ "آلة"؛ لأنَّه يَعْمَل بالقوى البدنية (للإنسان) فحسب؛ وإنَّ أقْدَم وأبسط أدوات العمل التي استعملها البشر كانت من الشجر والحجر وأعضاء الحيوان.
و"أداة العمل" تتوسَّط دائماً بين الإنسان والطبيعة، فبواسطتها يؤثِّر الإنسان بالأشياء في بيئته الطبيعية، أو محيطه الطبيعي، أي يُغيِّر الطبيعة بما يسمح له بأن يُنْتِج منها ما يلبِّي حاجاته، وفي مقدَّمها حاجته إلى الغذاء.
وكلَّما تضاعف تأثير الإنسان بالطبيعة، بواسطة أدوات العمل والآلات، اتَّسَع وتنوَّع واغتنى مخزون مداركه الحسِّية، ومخزونه المعرفي والعلمي من ثمَّ، فرأى أكثر، وعرف أكثر؛ وكلَّما تضاعف هذا التأثير توسَّع المجتمع البشري في سيطرته على الطبيعة وقواها المختلفة؛ فإنَّ في "الآلة"، لجهة تطوُّرها، خير مقياس نقيس به درجة سيطرة الإنسان على الطبيعة.
وبفضل "أدوات العمل" و"الآلات"، اسْتَحْدَث الإنسان، وطوَّر، "بيئته الاصطناعية"، كالمدينة بكل ما تشتمل عليه من أشياء صنعها البشر من مواد "البيئة الطبيعية".
وإلى "البيئة الاصطناعية"، لجهة نشوئها وتطوُّرها، يعود الفضل في التقليل كثيراً من تأثير "قانون الانتخاب الطبيعي" بالبشر، فالإنسان لا يكافِح البرد بتطوير غطاء لجسده من الشعر الطبيعي، كالحيوان، وإنَّما بصُنْع وارتداء ثياب.
والإنسان الذي، بفضل "الآلة"، سيطر على الطبيعة أكثر، وسيطر على الزمان والمكان أكثر، لا بدَّ له من أن يملك من القوى والوسائل ما يسمح له بجعل مجتمعه (ونفسه من ثمَّ) حُرَّاً أكثر.
بـ "أداة العمل"، أو "الآلة"، يُغيِّر الإنسان بيئته الطبيعية؛ ثمَّ يتغيَّر هو نفسه بتغيُّرها، فإنَّ التطوٌّر الاجتماعي والتاريخي للإنسان لا يمكن فهمه إلاَّ على أنَّه ثمرة هذا التفاعل، أو العلاقة الجدلية بين "الذات" و"الموضوع"؛ وإنَّ لكل "بيئة اصطناعية" إنسانها الذي يشبهها، فابن القرية يشبه "بيئته الاصطناعية"، وابن المدينة يشبه "بيئته الاصطناعية"؛ وكلاهما يختلف عن الآخر في خواصِّه وسماته الاجتماعية لكونه يختلف عنه في "بيئته الاصطناعية".
ونَقِفُ على بعضٍ آخر من أوجه الأهمية الاجتماعية والتاريخية لـ "الآلة" إذا ما سعينا في معرفة سبب الاختلاف والتباين بين العصور التاريخية؛ فهل تختلف هذه العصور، وتتباين، بسبب اختلافها وتباينها في ما تُنْتِج من أشياء أم في كيفية إنتاجها للأشياء نفسها؟
البشر في كل عصورهم التاريخية توفَّروا على إنتاج القمح، مثلاً؛ ولكنَّهم اختلفوا، واختلفت عصورهم التاريخية من ثمَّ، في كيفية إنتاجهم له؛ وهذا الاختلاف في الكيفية إنَّما هو (في المقام الأوَّل) اختلاف في الأداة أو الآلة التي بها يُنْتِجون القمح.
ولعلَّ خير دليل على ما لـ "الآلة" من أهمية اجتماعية وتاريخية هو أنَّ فرانكلين وبرودون وماركس وبرجسون قد توافقوا على تعريف "الإنسان" على أنَّه "حيوان صانع للأدوات".
ولكنَّ ماركس هو وحده الذي يعود إليه الفضل في اكتشاف أنَّ "أداة العمل"، أو "الآلة"، هي التي لجهة درجة تطورها "السبب النهائي (والأخير)" للتطوُّر التاريخي، وللانتقال من عصر تاريخي إلى آخر؛ وفي تمييز "رأس المال" من "أداة العمل"، فكل "رأسمال" يشتمل على "أدوات عمل"؛ ولكن ليس كل "أداة عمل" يجب أن تكون "رأسمال"؛ وفي إقامة الدليل العلمي على أنَّ "الآلة" لا تُنْتِج "ربحاً"، فهي بتشغيلها تَنْقُل (بلا زيادة ولا نقصان) إلى المُنْتَج من السلع ما تختزنه من "عمل"، وما تشتمل عليه من "قيمة"، فقاده هذا إلى استنتاج في منتهى الأهمية ومؤدَّاه أنَّ التطوُّر الآلي للمنشأة الصناعية (الرأسمالية) يفضي، حتماً، إلى مزيدٍ من التراجع في المعدَّل العام للربح.
وقانون "الانتخاب الطبيعي"، بمعناه الاجتماعي، أو بنسخته الاجتماعية، لا يمكن فهمه على خير وجه إلاَّ إذا مَدَدْنا جِسْراً بينه وبين "قانون المصلحة"، أو قانون "نزاع المصالح"؛ فأفراد الجماعة البشرية التي تعيش ضمن بيئة اصطناعية معيَّنة لا يتماثلون في مصالحهم المادية (وفي دوافعهم وحوافزهم من ثمَّ). وهذا الفَرْق بينهم في المصالح، والذي نرى بعضه على شكل صراع مصالح حاد بينهم، يتأتَّى من الفَرْق في صلتهم بتلك "الوسائل المادية (أدوات العمل والآلات)"؛ فإذا كانت فئة ضئيلة من الناس هي التي تملك هذه الوسائل، أو معظمها، مع ما يترتَّب على هذا التملُّك من منافع مادية، فلا بدَّ لمصالح هذه الفئة من أنْ تكون هي "المُنْتَخِب الأكبر" في عملية "الانتخاب الطبيعي" في المجتمع.
بـ "العبودية" بدأت "الحضارة"، وتطوَّرت؛ فلولا "الآلات الناطقة"، أي العبيد من البشر، وعملهم، في روما، مثلاً، وعلى وجه الخصوص، لَمَا نشأت "الحضارة"؛ وبـ "العبودية الجديدة المقبلة"، والتي يحلُّ فيها "البشر الآليون" محلَّ "الآلات الناطقة"، ستبلغ "الحضارة" الدرجة العليا من تطوُّرها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس


.. قتلوها وهي نائمة.. غضب في العراق بعد مقتل التيكتوكر -فيروز أ




.. دخول أول دفعة من المساعدات الإنسانية إلى خانيونس جنوبي قطاع


.. على وقع التصعيد مع إسرائيل .. طهران تراجع عقيدتها النووية |#




.. هل تتخلى حركة حماس عن سلاحها والتبعية لطهران وتلتحق بمعسكر ا