الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ مصر فى العصور الوسطى-ستانلى لين بول-الفصل السابع-صلاح الدين-ترجمة عبدالجواد سيد

عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)

2017 / 4 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


تاريخ مصر فى العصور الوسطى- ستانلى لين بول
الفصل السابع-صلاح الدين-ترجمة عبدالجواد سيد

7- صلاح الدين
1169-1193م

كانت حقبة حكم صلاح الدين – وبرغم قصرها – هى الأمجد فى تاريخ مصر الإسلامية ولكنها تدين بهذا المجد لأسباب تقع خارجها. فمن سنوات حكمه البالغة أربعة وعشرين سنة قضى صلاح الدين ثمان منها فقط فى القاهرة بينما قضى الستة عشر عاماً الأخرى فى حروب فى سوريا والعراق وفلسطين. ويمكن أن نصف هذه الحروب الخارجية هنا بإختصار فقط بينما يظل تركيزنا الأساسى على شئون مصر نفسها.
ولد صلاح الدين فى تكريت سنة1137-1138م وكان إبناً لأيوب ، وهو ضابط كردى كان فى خدمة الخليفة العباسى ثم دخل فى خدمة الأتابك زنكى حاكم الموصل بعد ذلك. لم يكن شباب صلاح الدين مميزاً بأى حال وعندما أصبح أبوه حاكماً لدمشق فقد عاش صلاح الدين عشرة أعوام فى بلاط نور الدين دون أن يصنع أى شئ مميز. ومن الواضح أنه لم يشترك فى الحملات السورية لعمه شيركوه والذى كان القائد العام لدى نور الدين ، فقد أحب العزلة وظل حتى الخامسة والعشرين من عمره شخصاً مغموراً تماماً. ورغم أنه قد صاحب الحملات على مصر فى سنة 1164م وسنة 1167م وصنع لنفسه شهرة فى معركة البابين والدفاع عن الإسكندرية فإنه لم يكن راغباً فى مصاحبة الحملة الثالثة سنة 1168م والتى أثبتت أنها كانت نقطة إنطلاقه نحو الإمبراطورية. كان توليه لمنصب وزير الخليفة الفاطمى عند وفاة عمه فى مارس 1169م يعود جزئياً ، بلا شك ، إلى صلة القرابة بعمه ، ولكنه كان يعود بشكل أساسى – وكما يبدو- من إعتقاد البلاط المصرى بأن رجل شاب غير طموح كهذا سوف يكون من السهل قيادته. وقد عارض زملائه هذا التعيين ورغم أن غالبيتهم قد أمكن إستمالته بالحيلة والهدايا فإن عدداً من المحاربين الحاسدين قد إنسحبوا إلى سوريا.
كان منصب الوزير الشاب شيئاً فريداً تماماً. فقد أصبح فوراً الوزير الأول لخليفة شيعى مهرطق وقائد لملك سنى فى نفس الوقت ( أى نور الدين). وفى تعارض جليل كان الإسمان يضمنان فى نفس الصلاة كل يوم جمعة فى المسجد. كان السكان المسلمون ينتمون إلى كلا المذهبين ولكن يمكن الإفتراض أن قرنين من الحكم الفاطمى قد أعطيا بعض التفوق للمذهب الشيعى. كان كسب ولاء الناس هو هدف صلاح الدين الأول وذلك من أجل أن يقوى نفسه فى مواجهة الحسد الواضح لسيده ملك سوريا، وأيضاً لكى يمهد الطريق من أجل إزالة الخلافة الشيعية وتأسيس ملكية مستقلة فى مصر.
وبسبب كرمه وسحره الشخصى فسرعان ماحصل صلاح الدين على ثقة المصريين كما قوى إحلاله لأبيه وإخوته – وكانوا من الواضح أسرة نبيلة قديرة - مكان بعض ضباط البلاط المشكوك فيهم من مركزه. وتم قمع إنتفاضة لقوات الخليفة السوداء بعد قتال شديد فى الشوارع وتم نفى السودانيين إلى الصعيد حيث إستمرت الثورة هناك لعدة سنوات. وماكاد يتم السيطرة على ثورة الزنوج حتى هوجمت دمياط من قبل الأساطيل المشتركة للإمبراطور الرومانى الشرقى( البيزنطى) وملك أورشليم والتى بلغت نحو مائتين وعشرين سفينة. وبسرعة قام صلاح الدين بتعزيز حامية دمياط والتى أثبتت أنها أصبحت قادرة على مقاومة منجانيقات وأبراج الحصار المتحركة القوية للعدو وذلك بينما قام جيش القاهرة بمناوشتهم خارج دمياط. وجاءت المجاعة والعاصفة لمساعدة المسلمين وطلب الغزاة نصف الغرقى الجائعين السلام وعادوا فى كمد عظيم إلى فلسطين. كانت تلك هى نقطة التحول فى الصراع الصليبى المصرى. فمن الآن وصاعداً فبدلا أن تبادر بالهجوم أجبرت مملكة أورشليم على إتخاذ موقف دفاعى.
تابع صلاح الدين ذلك النجاح بغارة على فلسطين قام فيها بنهب مدينة غزة وفى نفس السنة إستولى على إيلة الواقعة على رأس خليج العقبة مفتاح طريق البحرالأحمر بالنسبة للحجاج إلى مكة. ولكى ينفذ تلك العملية فقد لجأ إلى وسيلة كررها خصومه بعد ذلك حيث قام ببناء السفن فى أجزاء فى القاهرة ثم حملها براً إلى البحر الأحمر حيث تم تجميعها هناك. أكسبت هذه النجاحات ضد الكفار صلاح الدين شعبية كبيرة فى مصر لدرجة جعلته يشعر أنه كان قوياً بمايكفى للقيام بخطوة حاسمة. فكسنى مخلص فقد كان يعانى من جراء إعترافه القهرى بخليفة مهرطق وهو موقف كان قد خضع إليه فقط بسبب عدم يقينه من التأييد الشعبى. ولكى يثقف الرأى العام فقد أسس ثلاث مدارس سنية فى سنة 1170م والآن ومع إضافة الشهرة التى حققها من الحرب المقدسة ( الجهاد) التى تم شنها فى فلسطين بنجاح فقد قرر إعلان إسم الخليفة العباسى بدلاً من الخليفة الفاطمى فى المساجد فى يوم الجمعة العاشر من سبتمبر سنة1171م. مرت هذه الثورة الدينية بدون تذمر. فقط بدت الجموع المحتشدة مندهشة. ولحسن حظه فلم يعرف آخر الخلفاء الفاطميين أبداً بسر عزله. فقد كان حبيساً فى قصره منذ وصول صلاح الدين وعندما أزيل إسمه فقد كان يرقد محتضراً. وعلى سبيل الرحمة فقد أخفيت عنه تلك الأخبار ومات آخر سلالة تلك الملكية الشهيرة - والذى كان قد مُنح مثل تلك الفرص العظيمة وكان قد أساء إستخدامها بإزدراء شديد – بعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ جاهلاً بسقوطه. وقد تم التحفظ على أسرته وأقربائه فى أسر ذهبى بينما وزع عبيده وخدمه الثمانى عشر ألفاً.
لم يحتفظ صلاح الدين لنفسه بشئ من كل الكنوز التى وجدها فى القصور. فأعطى البعض منها لرجاله والبعض الآخر أهداه لسيده نور الدين كما أعطى المكتبة المكونة من مائة وعشرين ألف مخطوط إلى مستشاره المثقف - القاضى الفاضل - بينما بيع الباقى للجمهور العام. وأيضاً لم تناسب الإقامة فى القاعات الملكية للخليفة الراحل مزاجه البسيط والمتقشف فى الحياة فظل مقيماً فى منزل الوزير وأعطى القصور لضباط الجيش. وحيث لم تعد قصور الفاطميين الجميلة مقر إقامات ملكية فقد إستسلمت للإضمحلال وإندثرت ولم يبق منها حتى أثر واحد. وكما صاح الشاعر عمارة اليمنى( آه يا ايها العذول لحبى لأبناء فاطمة تعالى شاركنى الدموع على القاعات المقفرة للقصرين التوأمين).
تنقسم حياة صلاح الدين السياسية – ومنذ صعوده إلى السلطة – إلى ثلاث مراحل رئيسية والتى يمكن تسميتها بالمصرية والسورية ثم الفلسطينية وذلك في علاقتها بالمشهد الأساسى للفعل السياسى أى الدفاعى والتوافقى ثم الهجومى، فمنذ اليوم الذى اصبح فيه حاكماً لمصر فقد نذرصلاح الدين نفسه بإخلاص للجهاد المقدس أى حرب الإبادة ضد الصليبيين. ومن ثم فقد وجهت كل سياساته نحو ذلك الهدف العظيم. واثناء المرحلة الأولى أو المرحلة المصرية (1169-1174م) فقد إتخذ موقفاً دفاعياً ليس فقط ضد الصليبيين ولكن أيضاً ضد أصدقاء الفاطميين وحتى ضد مليكه الشرعى ملك سوريا نورالدين محمود. كانت سياستة فى تلك المرحلة هى مقاومة الهجوم الداخلى والخارجى أى تجنب أى صدام مع نورالدين وتقوية نفسه فى القاهرة بكل الوسائل المتاحة سياسياً وعسكرياً.
أما المرحلة الثانية أو المرحلة السورية (1174-1186م) والتى بدأت بوفاة نور الدين فقد رأى فيها صلاح الدين نفسه كالحاكم المسلم القائد للشرق الأدنى وبدأ فى مد نفوذه على سوريا والعراق وتجميع كل القوى الإسلامية المتاحة من أجل المعركة النهائية مع الكفار.
أما المرحلة الثالثة أو المرحلة الفلسطينية (1186-1193م) فقد كانت مكرسة تماماً إلى الحرب المقدسة ضد الصليبيين وإنتهت بصلح الرملة والذى أعقبه بشهور قليلة وفاة بطل الإسلام ( صلاح الدين).
وخلال كل تلك المراحل الثلاث فقد كان هناك هدف واحد حوفظ عليه بثبات حيث وجه كل فعل سياسى وكل حملة إلى الموضوع الأساسى أى خلق إمبراطورية إسلامية متحدة قوية بما يكفى لدفع الصليبيين إلى ساحل البحر إن لم يكن إلى البحر نفسه. وبصرف النظر عن أى طموحات شخصية قد تكون إختلطت – بغير وعى - بذلك الهدف فإن التعظيم فى حالة صلاح الدين كان يعنى فى المقام الأول – إن لم يكن المقام الوحيد – إنتصار الإسلام على الكفار.
لقد كانت المرحلة الأولى أو المرحلة المصرية قد بدأت على نحو جيد. فلم يغامر الصليبيون بالعودة إلى مهاجمة مصر عن طريق البر مرة أخرى كما فشل هجومهم عن طريق البحر. كما إنتهى تمرد القوات السوداء فى القاهرة – وكانت أعظم الأخطار الداخلية – بطردهم إلى الصعيد. وأزيلت الخلافة الفاطمية دون أن يكلف ذلك سوى مجرد إشارة خافتة من عدم الرضى الشعبى.
كانت الخطوة التالية هى تحصين نفسه – بالمثل - ضد الثورة الداخلية والغزو الخارجى. كان الفاطميون قد إكتفوا بقصر محصن على السهل. لكن صلاح الدين أدرك بعين الجندى ضعف ذلك الموقع وإختار بالفعل موقعاً أفضل لذلك الغرض. فحتى ذلك الوقت كانت كل الملكيات المتعاقبة التى حكمت مصر قد وسعت العاصمة بمدها على شكل ضواحى بإتجاه الشمال الشرقى. ولكن بدلاً من ذلك فقد فكر صلاح الدين فى توحيد مواقع العواصم الأربع وبناء قلعة – وهى قلعة الجبل الشهيرة – على أقصى حافة الطرف الغربى لجبل المقطم وذلك كى تكون مركز الحكومة ولتمثل موقع عسكرى حصين قادراً على ترهيب كل المدينة وعلى صد الهجمات الخارجية. كانت خطته هى ربط هذه القلعة بجدار حصين مع التحصينات القديمة للمدينة الفاطمية ومده بحيث يشمل موقع الفسطاط والقطائع ومن ثم يصل إلى النهر ولكن الخطة لم تكتمل وحتى القلعة نفسها لم تكتمل إلا بعد فترة طويلة من وفاة صلاح الدين. صاحب توسيع صلاح الدين لمساحة المدينة هدم لكل الضواحى الواقعة بين المدينة القديمة ومقام نفيسة حيث إستبدلت تلك الأماكن بحدائق للنزهة ويقال أن بوابة زويلة الطويلة كان يمكن رؤيتها من باب مسجد إبن طولون. وقد وجد جيهان ثينود الذى صاحب سفارة من لويس السابع إلى القاهرة فى فترة لاحقة أن هذه الحدائق كانت مازالت تمثل لمحة بارزة من المدينة. والواقع أن آثار بعض هذه الحدائق ربما مازال حتى يمكن رؤيتها من شرف القلعة.
لقد كان يفترض أن صلاح الدين قد صمم قلعة القاهرة ليحمى نفسه ضد الثورة المحتملة لأنصارالمملكة السابقة. ومع ذلك يمكن أن يوجد تفسير كاف لذلك فى أقوال نُسبت إليه فى مرحلة مبكرة حيث قال (أن كل مدينة سورية لها قلعتها أو حصنها وقد أظهرت التجربة فى أوقات عديدة أن المدينة يمكن أن تؤخذ بينما تبقى القلعة منيعة وملجأً للناس ووسيلة لإسترجاع المدينة ولذا فلابد أن يكون للقاهرة قلعة ايضاً). وربما كان سيحتاج إليها سريعاً كبرج دفاع ضد سيده الإقطاعى نور الدين نفسه. كان صلاح الدين قد إسترضى ملك سوريا (نورالدين) بالهدايا من كنوز القصر الفاطمى كما دعى لإسمه كسيد فى كل جمعة فى المساجد وخاصة فى مسجد الحاكم الكبير والذى حل محل الأذهر مؤقتاً كالمسجد الرئيسى للمدينة كما ظهر إسمه على العملة التى ضربها صلاح الدين فى القاهرة. ولكن رغم ذلك الخضوع الظاهرى وغياب كل رموز السيادة الشخصية فقد كان صلاح الدين سيد نفسه فى الواقع وحيث كان يؤيده – جيش قوى يقوده إخوته وأبناء إخوته فقد كان فى الواقع ملكاً على مصر. كان نور الدين مدركاً لذلك ولكن المصاعب التى كان يواجهها مع الصليبيين ومع سلطان الروم السلجوقى ومع العديد من المشاكسين من حكام العراق لم تترك له الوقت ليقص جناحى تابعه فى مصر، ولم يستطع حتى أن يعتمد على تأييده فى الحرب المقدسة حيث كان صلاح الدين مقتنعاً بإنه إذا ما سمحت الظروف لسيده بالإمساك بشخصه فإن سلطته سوف تنتهى ولذا فلم يكن هناك شئ يمكن إغرائه بالمغامرة بجعل نفسه فى متناول يد نورالدين. وليس هذا فقط ولكن يبدو أنه كان يحمل ذلك الخوف إلى درجة جعلته يفضل وجود الصليبيين على حدوده كعقبة فى طريق تقدم نورالدين.
وربما يفسر ذلك الخوف هجماته الفاترة والعرضية على حصنى مونتريال والكرك بالقرب من البحر الميت فى سنة 1171م وسنة 1173م كما يمكن الظن إلى حد كبير أن حملاته الجنوبية لسنتى 1173-1174م قد نُفذت بهدف توفير مكان للإنسحاب فى حالة تنفيذ نورالدين لتهديده بغزو مصر. وكان قسم من جيش صلاح الدين قد قام بغزو منطقة الساحل الإفريقى من برقة إلى جابس ولكن هذا الشريط الساحلى لم يوفر أى موقع إسترتيجى للدفاع. دُفعت الحملة على السودان بضرورة تأديب القوات السودانية المنسحبة – والتى ظلت فى حالة تمرد - ولكن ربما كان هناك هدف آخر بإختبار موارد البلاد كملجأ محتمل. قام تورانشاه – أكبر إخوة صلاح الدين - وبعد أن طارد القوات السوداء حتى النوبة بإحتلال مدينة إبريم بالقرب من كوروسكو ونهب كنيسة المسيحيين المونوفيزيين وعذب الأسقف كما أرضى ظلمه الإسلامى بذبح سبعمائة من الخنازير التى تكاثرت هناك. ولكن تقريره عن المناخ ومنتجات السودان لم يكن مشجعاً فأرسله صلاح الدين إلى الجزيرة العربية للبحث عن بلد أفضل. أخضع تورانشاه كل بلاد اليمن بمدن صنعاء وعدن وزبيد وجنيد وأسس حكومته فى تعز حيث حُكمت اليمن بأعضاء من أسرة صلاح الدين لمدة خمس وخمسين سنة.
وفرغياب قائد قوى وجزء كبير من الجيش فى اليمن الفرصة لأنصار الفاطميين والذين كانوا مازالوا يأملون فى طرد المملوك الصغير – كما كانوا يدعون صلاح الدين - من مكانه وإعادة تأسيس النظام القديم والذى وعد بمكاسب أفضل لطفيليى البلاط الغنى. وتُنسب المؤامرة – وبشكل عام – إلى الشاعر عمارة اليمنى ولكن وبصرف النظر عمن كان المحرض الأساسى فقد حاذت على كثير من التأييد. وقدإ إنضم الضباط المصريون والسودانيون إلى المؤامرة ، يحرضهم حتى بعض من تركمان صلاح الدين الحساد كما أغرى ملكا صقلية وأورشليم بالتعاون بوعود الذهب والأرض وكذلك دُعى رئيس الحشاشين لكى يرسل بعض القتلة السريين من رجاله وتمت الترتيبات للهجوم المشترك بالبحر والبر بحيث يوقع بصلاح الدين. ولحسن الحظ فقد تسرب السر إلى الضحية فقام صلاح الدين بالقبض على المتآمرين الرئيسين بما فيهم الشاعر السياسى – عمارة اليمنى – وقام بصلبهم جميعا كما تم نفى المتآمرين الأصغر إلى الصعيد.
لم يتم الهجوم البحرى – والذى كان يفترض أن يساند مؤامرة القاهرة - حتى نهاية الصيف. ولم يتحرك صليبو فلسطين عندما سمعوا أن المؤامرة قد فشلت ولكن ملك صقلية – والذى كان أقل إطلاعاً بما يجرى – كان قد أرسل أسطولاً كبيراً من حوالى مائتيى وإثنين وثمانين سفينة والتى وصلت خارج الإسكندرية فى 28 يوليو. أخذت الحامية الصغيرة بالمفاجأة تماماً ومع ذلك فقد حاولت صد عملية الإنزال والذى تم مع ذلك بالقرب من فاروس. وسرعان مالعبت المنجانيقات التى أحضرها النورمان على جدران المدينة وأجبر المدافعون على القتال بإستماتة طوال اليوم الأول لصد الجماعات المهاجمة حتى هبط الليل. وفى اليوم التالى دفع المسيحيون آلاتهم قريباً من الجدران ولكن التعزيزات إنضمت إلى الحامية من القرى المجاورة ومرة أخرى تم إحباط الهجوم. وفى اليوم الثالث كان هناك غارة شديدة أحرقت فيها آلات العدو وتكبد خسائر فادحة وعادت الحامية مبتهجة بالنصر. وبالكاد كانوا داخل البوابات عندما وصل رسول من صلاح الدين والذين كانواقد ارسلوا إليه طلباً للنجدة. كان المرسال قد ركب من القاهرة نفس اليوم على جياد الأبدال ووصل الإسكندرية بين الثالثة والرابعة عند الظهر معلناً بصوت مرتفع عن إقتراب جيش صلاح الدين. منحت تلك الأخبار المدافعين قوة جديدة فإندفعوا خارجين مرة أخرى فى الظلام المتجمع وهجموا على النورمان ودفعوا بعضهم نحو السفن وبعضهم نحو البحر. أكملت أخبار زحف صلاح الدين الهزيمة فحل النورمان مراسيهم وهربوا بنفس السرعة والمفاجأة التى جاءوا بها. وإنتهى إنشداه الأيام الثلاثة وتنفست الإسكندرية الصعداء مرة أخرى.
تم إحباط المؤامرة فى القاهرة فى إبريل و فى يوليو تم صد الهجوم النورمانى وفى نفس الشهر مات عمورى ملك أورشليم وخلفه بلدوين ، الطفل المجذوم ، وأثناء ذلك أزيلت من أمام صلاح الدين عقبة كأداء أخرى ففى شهر مايو مات نور الدين سلطان سوريا النبيل. وبهذا الحدث بعيد الأثر أصبح صلاح الدين الحاكم المسلم القائد للشرق الأدنى. وبهذا فقد ظل منافسيه المحتملين الوحيدين هم ، إبن نور الدين وكان مجرد طفل فى سوريا ، وإبن أخ نور الدين سيف الدين أمير الموصل ، ورأس أسرة زنكى ، وسلطان رومية السلجوقى أو آسيا الصغرى، ولم يكن أحد فى هؤلاء كفؤ له فى القوة العسكرية أو المقدرة. ومن أجل مقاومة الصليبيين بنجاح فقد كان لابد أن يكون هناك ملك واحد وإمبراطورية إسلامية موحدة ولذا فقد كان لابد من جعل هذه الإمارات المتعددة تسير كلها فى إتجاه واحد. ومن ثم فقد بدأت المرحلة الثانية من سيرة صلاح الدين وهى المرحلة السورية أو المرحلة التوحيدية.
تعامل صلاح الدين مع هذه الإمارات كل على حدا وكانت سوريا بالطبع هى هدفه الأول. كان ملكها الطفل أسيراً فى يد عصابة وكان هؤلاء الأمراء المتآمرون يصالحون الصليبيبون. وقد وفر إلتماس من دمشق المبرر للخطوة الأولى. وفقط بسبعمائة فارس مختارين ركب صلاح الدين عبر الصحراء إلى العاصمة السورية وإستولى عليها بإسم الملك الطفل. ومن هناك وصل إلى حلب – ماراً بحمص وحماه - حيث قام وريث نور الدين أو بالأحرى وزيره بغلق البوابة فى وجهه بحكمة. ولم يصدق أحد توكيدات الولاء التى عبر عنها صلاح الدين لإبن سيده القديم وكان هناك محاولة لإغتياله من قبل مبعوثى ( رجل الجبل العجوز) وفى نفس الوقت فقد قام الصليبيون بقيادة ريموند كونت طرابلس بهجوم مضلل لصالح حليفهم المسلم(إبن نور الدين). وعلى هذا فقد رُفع الحصار عن حلب وكُبح طموح صلاح الدين وكان عليه أن يظل قانعاً بملكية كل سوريا إلى الجنوب من حلب. لكنه لم يستطع حتى السيطرة على هذه المناطق بدون عقبات. فقد أرسل أتابك الموصل جيشاً من العراق ليتحد مع جيش إبن عمه أتابك حلب وزحفت القوات المشتركة على حماة. وفى مواجهة هذا الهجوم الكبير حاول صلاح الدين التفاهم ولكن حيث رُفضت كل إقتراحاته فقد دخل فى معركة وحقق نصراً كبيرا عند قرون حماة وإستطاع دفع أعدائه حتى بوابات حلب. وفى السنة التالية مكنه إنتصار ثان على سيف الدين نفسه عند ينابيع التركمان من القضاء على العراقيين نهائياً وتوقيع معاهدة تحالف مع ملك حلب الشاب جعلت من صلاح الدين سيداً على كل البلاد التى غزاها من مصر إلى نهر الفرات تقريباً.
مرت فترة ست سنوات (1177-1182م) قبل أن تتُبع تلك الخطوة الأولى بضم العراق. وساد السلام بين صلاح الدين وآل زنكى وكان هناك أيضاً هدنة إسمية مع الصليبيين فاوضها هممفرى أمير تورون والتى وصلت صداقته لصلاح الدين حد منحه رتبة الفرسان. وقد شغل تنظيم الأملاك الواسعة وكذلك تحصين القاهرة جزءً كبيرا من وقت صلاح الدين. ووضعت الجدران الحجرية الجديدة وبدأ بناء القلعة رغم أنها لم تنتهى إلا فى عهد إبن أخيه الكامل بعد حوالى ثلاثين سنة. ومازال يمكن التعرف على السور من خلال جزء كبير من الجدران ولكن القلعة قد أعيد ترميمها وتغييرها كثيراً بواسطة سلاطين المماليك وبواسطة محمد على باشا بحيث أصبح من الصعب التعرف على النموذج الأصلى لها وذلك رغم أن نقش مؤسسها مازال يمكن قرائته على بوابة السلالم القديمة وهى باب مظلم فى الوجه الغربى للسورالأصلى. وهو يسجل كيف أن بناء هذه القلعة العظيمة - والقريبة من القاهرة المحروسة على الأرض التى تربط المنفعة بالجمال والفضاء بالقوة لهؤلاء الذين يبحثون عن مأوى لقوته – قد أُمر ببنائها بواسطة مولانا الملك ، فخر العالم والعقيدة ، المحمل بالغزوات ، يوسف إبن أيوب مسترد إمبراطورية الخليفة ، وبتوجيه من أخيه ووريثه الملك العادل سيف الدين أبوبكر محمد صديق أمير المؤمنين ، وتحت إدارة أمير مملكته ومعين إمبراطوريته قراقوش إبن عبدالله عبد الملك الناصر فى سنة 57779هـ (1183-1184م).
حُفر جب السلالم الملتوية الشهير وبعمق 280 قدما فى الصخور الصلبة بواسطة الخصى قراقوش بناء على أوامر صلاح الدين ولكن الأبنية الأخرى(قد هُدمت الآن) والتى إرتبطت بإسمه قد بُنيت فى أزمان أخرى. أصبح الشعب المصرى فخوراً بتسمية المنشآت العامة بإسم ملكه العظيم وهكذا خُلدت ذكراه فى قناة القاهرة( وهى عمل مملوكى) وحتى فى القناة الرئيسية لمصر العليا( الصعيد) والتى مازلت تُعرف بإسم بحر يوسف رغم أنها تعود فى تاريخها إلى أيام الفراعنة.كان أكبر منشآت صلاح الدين خارج القاهرة هو خندق الجيزة الكبير والذى بنى سنة 1183-1184م مثل القلعة من أحجار أُخذت من الأهرامات الأصغر وحملت على أربعين قنطرة على طول حدود الصحراء وذلك كتحصين ضد أى غزو محتمل من جهة الصحراء.
ولكن ربما لم يكن لأى من إبتكاراته تأثير دائم كما كان للمدرسة أو المسجد الكلية. فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك مدارس ثيولوجية فى القاهرة. فبإستثناء المدارس الإبتدائية العادية فإن المحاضرات الوحيدة التى كان يمكن حضورها تقريباً كانت تُعطى فى جامع عمرو القديم. كانت قاعة العلم الفاطمية إستثناءً لكنها كانت مكرسة بشكل كبير لتعليم الدرجات المتعددة للشيعة الباطنية ومناقشة الفلسفة التأملية. أما الكلية أو المسجد حيث كان التعليم النظامى يُمنح – مجاناً فى الغالب – لكل من يحضر فقد كانت إبتكاراً من فارس أُدخل إلى سوريا بواسطة نور الدين ثم أدخل إلى مصر بواسطة صلاح الدين الذى كان متحمساً لنقل المذهب الشافعى إلى المصريين المضللين. وقد أسس كليات لهذا الغرض فى الإسكندرية والقاهرة وقد بنى أولها بالقرب من مقام الإمام الشافعى نفسه فى القرافة الجنوبية. أما الكليات الأخرى فقد كانت النصيرية أو الشريفية والقمحية بالقرب من جامع عمرو بالفسطاط وكذلك مدرسة صناع السيوف التى أقيمت فى قصر المأمون القديم فى القاهرة نفسها. ولم يبق أى من هذه المدارس ولكننا فقط بعد زمان صلاح الدين نجد الشكل الصليبى المألوف للمدرسة أو الجامع الكلية بأروقتها الأربع العميقة حيث كان فقهاء المذاهب السنية الأربعة( الحنفى والشافعى والمالكى والحنبلى) يدرسون دوائر طلابهم.
وفى إدارة مملكته حصل صلاح الدين على المساعدة القيمة لخادم مخلص مثقف. كان القاضى الفاضل – وهو عربى من عسقلان – ضمن سكرتارية الخليفة الفاطمى منذ زمن الوزيرالعادل ومع صعود صلاح الدين للسلطة أصبح مستشاره أو وزيره ومارس تاثيراً كبيرا فى هذا المنصب الرفيع خلال كل حكم صلاح الدين وإبنه وحفيده وحتى وفاته هو نفسه فى يناير سنة 1200م. وقد إشتهر القاضى الفاضل بأسلوبه المنمق والنهاية البديعة لمراسالاته. وقد وثق به صلاح الدين بشكل مطلق. لقد كان سنياً شديد الإيمان مثل سيده وقد أسس أيضاً كلية سنية فى القاهرة. وربما يعود إلى معتقداته الصارمة أن المسيحين – والذين كانوا قد عوملوا بتساهل تحت حكم الفاطميين الوضيع – قد خضعوا إن لم يكن للإضطهاد - فبالتأكيد للمصادرة تحت حكم صلاح الدين المستنير.
ومع ذلك فلم تنقضى فترة السنوات الست فى أعمال السلم تماماً. فقد كان هناك جولات عديدة سريعة مع الصليبيين والذين كانوا قد نسوا هدنتهم بالفعل وقاموا المناطق الواقعة حول دمشق.
ورد صلاد الدين بغزو ولايتهم الغريبة ، الأرض المقدسة. وعند تل الجزار بالقرب من رام الله فوجئ صلاح الدين وهُزم تماماً بواسطة الملك بلدوين يسانده 375 فارساً وإضطر للنجاة بنفسه. والواقع أن تلك كانت هزيمته الأولى أو بالأحرى هزيمته الخطيرة الوحيدة. ومع ذلك ففى خلال ثلاثة أشهر فقد كان قادراً على إسترداد زمام المبادرة مرة أخرى فى حمص بجيش جديد وفى سنة 1179م كسب نصراً باهراً على ملك أورشليم فى مرج عيون وأخذ سبعين فارساً اسرى بما فيهم رؤساء الفرسان الداوية والإسبتارية وريموند حاكم طرابلس وباليان وبلدوين حاكم إبلين وهوف حاكم منطقة طبرية. وتبع ذلك النصر بتدمير القلعة فى مخاضة يعقوب والتى كان الملك قد شيدها كتهديد للمسلمين.
وأثناء ذلك قام الأسطول المصرى المكون من سبعين مركب بغزو ساحل فلسطين وأسر نحو ألف أسير مسيحى والذين تم توظيفهم بنجاح فى بناء قلعة القاهرة. وقُضى الشتاء فى تجهيز أسطول أكبر وعندما بدأ صلاح الدين الحملة فى الربيع بتقدم مشترك بحراً وبراً إقترح الملك بلدوين – بحكمة – هدنة و تم إبرامها على الفور لمدة سنتين وتم التأكيد عليها بالإيمان المغلظة. وبالإتجاه شمالاً نحو سيليشيا دخل صلاح الدين فى مفاوضات مع سلطان قونية السلجوقى وملك أرمينيا الصغرى وأمراء الموصل والجزيرة وأربيل وكيفا وماردين والذين وضعوا أختامهم جميعاً على حلف مقدس ألزموا أنفسهم بموجبه بحفظ السلم والصداقة لمدة سنتين بين بعضهم البعض. ولم تشهد هذه الفترة أى حروب داخل حدودهم وسادت هدنة مقدسة خلال الشرق الأدنى فعلاً.
أظهرت الهدنة الكبيرة أن نفوذ صلاح الدين قد أرهب كل القوى الأصغر من البحر الأسود والخليج الفارسى حتى البحر المتوسط وأن الإتحاد المؤقت لكل الدويلات الإسلامية المجاورة كان خطوة بعيدة إلى الأمام وحدت المجهود الذى قصد القيام به ضد القوى الصليبية. لقد كان ذلك بداية السياسة التى إستخدمت رجال القبائل العراقيين المحبين للقتال كمجندين فى الحرب المقدسة. وقد فتحت وفاة إبن نور الدين – ملك حلب - والمفاوضات الخيانية بين أمراء العراق والصليبيين الطريق، وعندما غادر صلاح الدين القاهرة – إلى الأبد - فى 11 مايو سنة 1182م فقد كان ذلك لتنفيذ خططه الكبيرة كبطل للإسلام. وبعد بعض الإشتباكات مع الصليبيين وحصار غير ناجح لبيروت زحف على العراق وأخضع كل البلد فيما عدا مدينة الموصل. وتم شراء حلب بالتبادل وبعد حصارين غير ناجحين ولكن مجهدين قبلت الموصل أخيراً أن تكون تابعة لصلاح الدين. وبموجب هذه المعاهدة فقد إنضم كل شمال العراق وجزء من كردستان إلى إمبراطوريته بشكل دائم. وبذلك تحقق الهدف من كل حملاته الطويلة المجهدة على دجلة والفرات. وقد أصبح لديه الآن حلفاء بدلاً من أعداء على جناحه الشمالى. وقبل هذا لم يكن من الممكن أن يتم بأمان أى غزو للمنطقة المسيحية بدون وضع جيش للمراقبة ضد الهجوم من الشمال ولكن الآن فقد أصبح يستطيع التقدم بثقة. وقد أصبح لديه أيضا مزيداً من القوات تحمى ظهره ولم يعد يستطيع أن يستخدم أقصى جهد لقواته السورية والمصرية فقط بل أصبح يستطيع أيضاً الإعتماد على فرق كبيرة من المقاطعات العراقية. وفى الحرب المقدسة التى أصبح على وشك أن يشرع فيها الآن بجدية مميتة قد جاء كل الأمراء العظام لهذه المناطق لإمداد الجيش الإسلامى حيث قام أمراء بيت زنكى وأمراء الموصل وسنجار والجزيرة وأربيل وحران وحتى الأكراد من خلف دجلة بتوسيع الحشد العام بتابعيهم وخدمهم.
وهكذا وبعد أن إستعد وتقوى دخل صلاح الدين إلى المرحلة الثالثة من سيرة حياته وهى المرحلة الفلسطينية أو الهجومية. فلكثير من السنوات كان هناك إستفزازات وإنتقامات. فقد كان ريجنالد القطالونى حاكم الكرك قد دخل البحر الأحمر وإستولى على سفن الحج وقام حتى بغزو الجزيرة العربية بنية هدم قبر النبى فى المدينة والكعبة فى مكة لكنه طورد بواسطة الأسطول المصرى و دمرت حملته تماماً. وفى فلسطين كانت تدور معركة غير حاسمة بالقرب من الفولا ولمرتين قام صلاح الدين بضرب حصار غير ناجح على الكرك، قلعة ريجنالد المنيعة ، ثم تم تدبير معاهدة سلام لمدة أربع سنوات بواسطة ريموند حاكم طرابلس( الوصى على الملك الطفل بلدوين الخامس) والذى كان شخصياً على علاقات صداقة إن لم يكن تحالفاً فعلياً مع صلاح الدين. لكن هذا السلام كان شكلاً كاذباً حيث كانت كل أوربا تقرع السلاح وكان الفرسان الإنجليز من الشيفويت إلى البيرانيس يحملون الصليب كما كان النظامين العسكريين الكبيرين يتحرقان بحماسة – كما كان صلاح الدين نفسه – لتوجيه ضربة من أجل العقيدة.
كانت أقل شرارة يمكن أن تشعل الحريق الكبير. وقد جاءت هذه الشرارة من ريجنالد القطالونى والذى وبرغم الهدنة وللمرة الثالثة قد إنقض على قافلة مسالمة من التجار المسافرين أعلى قلعته المنيعة. لم تكن القافلة جائزة ثمينة فقط ولكن قد أشيع أنه كان بها إحدى إخوات صلاح الدين أيضاً.كان الإستفزاز كبيراً وأقسم صلاح الدين ليقتلن خائن الهدنة بيديه وقد فعل. إن تاريخ الأرض المقدسة من 1187م إلى 1192م معروف للطلاب ولايشكل جزءً من تاريخ مصر. إن ترتيب الأحداث هو كل مانحتاج إلى ذكره فى هذا الخصوص.
تبع هزيمة الصليبيين الساحقة تحت قيادة ملكهم الجديد جاى لوزيجنان فى حطين بالقرب من بحيرة طبرية غزواً سريعا لفلسطين. فقد إنتشر جيش صلاح الدين فى الأرض المقدسة وفى خلال شهر أُخضعت كل مملكة أورشليم بإستثناء بعض القلاع والمدن المحصنة. وسقطت عسقلان فى سبتمبر وفى 2 سبتمبر إستسلمت أورشليم نفسها بشروط مشرفة. فقط نجت صور من السقوط فى موجة الغزو الأولى فيما يشبه المعجزة وكانت مقاومتها الناجحة الثانية فى نوفمبر ودديسمبر هى نقطة التحول فى سيرة حياة صلاح الدين المنتصرة. أما مقاطعة طرابلس وإمارة أنطاكية وكل المدن الساحلية إلى الشمال من صيدا فقد إحتلت بسهولة فى حملة باهرة واحدة فى مايو وسبتمبر سنة 1188م وإضطرت أنطاكية نفسها للموافقة على هدنة مذلة. وبالنسبة للقلاع الأرضية الضخمة فى بلفوار وصفد والكرك – والتى كانت مازالت تقاوم – فقد سقطت فى ديسمبر ويناير. ولم يبق شئ من كل الأراضى التى كان الصليبيون قد غزوها سوى صيدا وبلفورت.
ومع ذلك فقد أصبحت صيدا نقطة تجمع للصليبيين فإلى هناك لجأت على الفور كل الحاميات التى تركها صلاح الدين حرة بعد إستسلام كل مدينة أو قلعة ، وذلك بدافع الشهامة أكثر مما هو بدافع الحكمة. فإلى هناك لجأ الملك جاى لوزيجنان ومعظم النبلاء والفرسان الذين كان قد أطُلق سراحهم مقابل تعهدهم المقدس بعدم حمل السيف مرة أخرى ضد صلاح الدين. ومن صيدا زحف الجيش الذى بدأ حصار عكا الشهير ورحب بالتعزيزات الضخمة للحملة الصليبية الثالثة.كانت صيدا هى الحصان الخشبى القاتل لطروادة صلاح الدين لإنه إذا ماكان قاوم نفاذ الصبر أو أنعش قواته المرهقة وضحى بكل هدف آخر من أجل تحقيق هدف الإستيلاء على صيدا فربما ماكان هناك حصار لعكا ولا حملة صليبية ثالثة. فبدون صيدا لكان حتى ريتشارد ملك إنجلترا قد وجد أنه من الصعب أن يحضر فأس حربه الدنماركية لحرب المسلمين.
بدأ حصار عكا بواسطة جاى لوزيجنان فى 28 أغسطس سنة 1189م كما بدأ حصار المحاصرين بواسطة صلاح الدين بعد يومين من ذلك التاريخ. و فى 4 أكتوبر حوربت أولى المعارك الكبرى بين الصليبيين وبين العدو المزدوج - الحامية الإسلامية فى الداخل والجيش المنقذ المحيط بالصليبيين - وإنتهت بدفع الصليبيين متكبدين خسائر فادحة. وأهمل صلاح الدين متابعة إنتصاره وقضى الصليبيون الشتاء فى تحصين وتعزيز موقعهم أمام عكا. وفى الربيع إستنزفت أنباء وصول الحملة الألمانية بقيادة فردريك بارباروسا جزءً كبيراً من قوى المسلمين. ومع ذلك فقد فشل الهجوم الكبير الثانى على المسلمين فى 25 يوليو فشلاً ذريعاً ولكن ذلك النجاح لم تتم متابعته وتلاشت تماماً فرص القضاء على الجيش المحاصر لعكا بنزول هنرى أوف شامبين مع عشرة آلاف جندى جديد. وإستمر الحصار والحصار المضاد مع آمال تتضائل بإستمرار بالنسبة للمسلمين. وأحضر دوق سوابيا الناجين من الجيش الألمانى إلى عكا فى أكتوبر، كما وصلت أولى قطع الأسطول الإنجليزى فى نفس الشهر. لكن صلاح الدين ظل صامداً. وتم إحباط محاولة للمسيحيين لجلب المؤن من حيفا بإشتباك عنيف عند رأس النبع ثم حول الشتاء السهل إلى بحيرة من الطمى فإنتظر الجانبان الربيع بينما كانت المجاعة والحمى تهلكا المعسكر الصليبى. وأثناء ذلك كان صلاح الدين يحاول تزويد عكا بالمؤن ونجدة الحامية المجهدة.
وأخيرا وصل قادة الحملة الصليبية الثالثة ، وصل فيليب ملك فرنسا يوم عيد القيامة وريتشارد ملك إنجلترا فى 8 يونيو.( كان الإمبراطور الألمانى فردريك بارباروسا قد غرق فى نهر اللامس وتفرق جيشه وعاد معظمه إلى أوربا وربما كان هذا هو السبب الرئيسى فى فشل الحملة فى نهاية الأمر) وبهذه التعزيزات سرعان ماوصل الحصار الطويل إلى نهايته ففى 12 يوليو إستسلمت عكا. لم يكن صلاح الدين طرفاً فى هذا التصرف الصادر عن الحامية المجهدة ولكنه لم يكن قادراً على نجدتها ولذا فقد كان مضطراً لقبول ذلك الموقف. فُتحت مفاوضات السلام قبل الإستسلام ثم خُتمت بعده ولكن بعض التأخير فى تنفيذ الشروط فيما يخص تسليم الأسرى المسيحيين قد أثارت حنق ريتشارد لدرجة جعلته يقوم بذبح 2700 أسير مسلم بدماء باردة على مرأى من المعسكرين. ولم يعد هناك مزيد من محادثات السلام وزحف الملك الإنجليزى ( كان فيليب ملك فرنسا قدعاد بالفعل إلى فرنسا بسبب مرضه) نازلاً على الساحل بنية الإستيلاء على عسقلان ثم تحول إلى الداخل بنية الإستيلاء على أورشليم. ظل صلاح الدين يضايق الصليبيين خلال كل الزحف ولكن بعد هزيمة فى أرسوف إضطر لسحب قواته إلى الرملة ثم إلى أورشليم مع إقتراب الشتاء.كادت محاولتان قام بهما ريتشارد للزحف على المدينة المقدسة أن تمكنه بالفعل من تحقيق هدفه ولكن الخلافات فى مجلس الصليبين المختلط والقوة المتزايدة للمسلمين قد أحبطت التخطيط. وإنسحب ريتنشارد خائب الأمل إلى عكا وإنتهز صلاح الدين الفرصة للقيام بهجوم على يافا لكنها سرعان مانُجدت ودوفع عنها بواسطة ملك إنجلترا وحفنة من الفرسان مما يعتبر أعظم مأثرة فى كل الحرب التى أصبح الطرفان مرهقاً منها الآن. ومنذ معركة أرسوف كانت مفاوضات السلام تجرى بشكل متقطع ولكن بمجرد أن مرض ريتشارد وإستدعت إنجلترا حضوره بشكل ملح فقد دُفع بالمفاوضات إلى نتيجة وتم توقيع معاهدة لمدة ثلاث سنوات إحتفظ الصليبيون بموجبها بمدن الساحل من عكا إلى يافا وسُمح للحجاج بزيارة الأماكن المقدسة فى أورشليم.
إستمرت الحرب المقدسة خمس سنوات. وقبل النصر الحاسم فى حطين فى يوليو 1187م لم تكن أى بوصة من فلسطين إلى الغرب من الأردن فى أيدى مسلمة. وبعد صلح رملة فى سبتمبر 1192م أصبحت كل الأرض إقليماً إسلامياً بإستثناء شريط ضيق من الساحل يمتد من صور إلى يافا. وكى تسترد هذا الشريط رفعت كل أوربا السلاح وسقط مئات الآلاف من الصليبيين. ولم تبرر النتيجة ذلك الثمن. أما صلاح الدين – ومن جهة أخرى – فقد خرج من الحرب بقوة لم تهتز وقد أيده بإخلاص كل قوة إمبراطوريته وتابعيه من مصر حتى دجلة ، الأكراد والتركمان والسوريون والعرب والمصريون الذين إختلطوا بجيوشه وكان الجميع مسلمين وخدامه حين كان يدعوهم لبذل أى جهد. لم ينشق أى إقليم وفقط تمرد تابع صغير للحظة رغم أن المحن والمعاناة للحملات الطويلة قد أثرت بشدة على تحمل الجنود وإيمانهم بقائدهم. وبعد أن إنتهت الحرب فقد كان مازال يحكم غير منازع من جبال كردستان إلى الصحراء الليبية وحتى أبعد من هذه الحدود كثيراً فقد كان ملوك جورجيا وكاثوليك أرمينيا وسلطان قونية وحتى إمبراطور القسطنطينية كلهم متحمسين للتحالف معه. وقد عاش ليرى إنتصار طموح حياته ، فقد طرد الصليبيين من المدينة المقدسة وإسترد وحدة الإسلام. ومع ذلك فإن إرهاق الحملات الطويلة قد أضعف صحته القوية فقضت عليه حمى فى دمشق ، بعد السلام بستة أشهر. ولم يخطئ التصور الشائع لشخصيته. شهم ، فارس ، مهذب ، عطوف ، نقى القلب والحياة ، زاهد ، مجتهد ، بسيط العادات ، شديد التدين ، وفقط متطرف فى حماسه الدينى ، وقد أصبح - وبشكل ثابت - نموذجاً للفروسية الإسلامية.













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. امتعاض واعتراض وغرامات.. ما رأي الشارع العراقي بنظام المخالف


.. عبد الله حمدوك: لا حل عسكريا للحرب في السودان ويجب توحيد الم




.. إسرائيل أبلغت دول المنطقة بأن استقرارها لن يتعرض للخطر جراء


.. توقعات أميركية.. تل أبيب تسعى لضرب إيران دون التسبب بحرب شا




.. إبراهيم رئيسي: أي استهداف لمصالح إيران سيقابل برد شديد وواسع