الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا قبَّلَ البابا أقدامَ المسلمين؟

فاطمة ناعوت

2017 / 4 / 19
بوابة التمدن



الخميس الماضي، يُسمى في الأدبيات المسيحية "خميس العهد". وهو اليوم الذي شهدت ليلتُه أمرًا عظيمًا، حين تم القبض على السيد المسيح عليه السلام، ثم اقتياده ومثوله أمام هيئة القضاة لمحاكمته بتهمة التجديف في الدين(!)، بعدما أوشى به تلميذُه الخائن يهوذا الإسخريوطي، فحُكم عليه، ظلمًا، بالتعليق بالمسامير الغلاظ على الصليب الخشبي صباح اليوم التالي: "الجمعة العظيمة"، لينزفَ حتى الموت؛ وهنا تتشعّبُ روايتان. وفق أدبياتنا الإسلامية؛ لم يمُت السيد المسيح، إنما رُفع بأمر الله للسماء حيًّا نبيًّا عزيزًا، واستُبدل به الخائنُ يهوذا، ليُصلَب ويموت جزاءَ خيانته سيده. بينما تقول الأدبياتُ المسيحية إنه نزف دمَه الطاهر حتى الموت على الصليب، من أجل أن يفتدي البشريةَ ويحمل عنها خطاياها؛ ثم دُفن، في القبر، وقام من مواته بعد ثلاثة أيام ليصعد إلى السماء، عزيزًا طاهرًا، وفق الإيمان المسيحي.
في ليلة الخميس تلك، قبل محاكمته عليه السلام بساعاتٍ قليلة، تناول السيد المسيح العشاءَ الأخير مع تلاميذه الثلاثة عشرة، ثم قام بغسل أقدام تلاميذه جميعًا، ومن بينهم يهوذا، حتى يعطيهم درسًا فلسفيًّا مقدّسًا في التواضع وقتل الكِبر في النفس. حيث هو المقدّسُ الأعلى يغسل أقدام من هُم دونه قيمةً ومقامًا ومجدًا وعلمًا.
في مصر، في عصور قديمة، كان حكامُ الدولة المسلمون يحتفلون بهذا اليوم العظيم مع أشقائهم المسيحيين من أقباط مصر، فيصكّون عملاتٍ تذكاريةً من فئات مختلفة، من الذهب الخالص، تُوزّع على رموز الدولة، تخليدًا لهذا اليوم. كذلك في الفاتيكان، احتفل البابا فرنسيس بذكرى ذلك اليوم، الخميس الماضي، بتطبيق نفس الطقس الفلسفيّ الأعظم الذي فعله السيدُ المسيح عليه السلام مع تلاميذه. حيث وقع اختيارٌ عشوائي على اثني عشر لاجئًا من جنسيات وديانات مختلفة، ثم قام البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان الكاثوليكي، بغسل أقدامهم وتقبيلها بكل تواضع ومحبة، من أجل أن يُعطي للعالم رسالةً ناصعةً في وجوب شيوع المحبة والتبجيل بين كل أبناء البشرية على هذا الكوكب، مهما اختلفت الألوانُ والمعتقداتُ والأعراقُ والطبقاتُ الاجتماعية. من بين من قام البابا بغسل أقدامهم، ثلاثةٌ من المسلمين، وغيرهم من الهنودس والمسيحيين من طوائف ومذهبيات وأعراق مختلفة.
لماذا قبّل البابا أقدامَ بشر لا ينتمون إليه لا بالقرابة ولا بالنسب ولا بالعقيدة ولا بالعِرق ولا بالهوية؟ لماذا، وهو الرجل ذو المكانة القدسية والسياسية الرفيعة التي تجعل أبناءَ عقيدته يُقبّلون يديه وينحنون أمامه، يقبَلُ أن يخفضَ رأسه عن تواضع وينحني بهامته حتى مستوى أقدام لاجئين بسطاء، قد يراهم البعضُ مشردين أذلاء، لا وطن لهم، بعدما هُجّروا قسرًا من ديارهم تحت تهديد القتل أو التعذيب؟ وأنا أشاهد ذلك الفيديو رحتُ أتأمل ذلك المشهد الهائل وأحاول أن أصل إلى طرح أبعد من مجرد محاكاة البابا للسيد المسيح والاقتداء بأفعاله القدسية المبجّلة. للحق كنتُ أرى البابا وهو يغسل أقدام المشرّدين ويقبّلها، كأنما كان يُقبّل صنيعةَ الله ويُمجّد ثمرةَ يديه تعالى. الإنسانُ، كل إنسانٍ، هو صنعُ الله وثمرةُ يديه الربوبيتين. فحين تتأملُ زهرةً مشرقةً، وحين تستنشقُ شذاها، وحين تراقبُ فراشةً جميلة تخفق بجناحيها فوق الزهر، وحين تشخصُ في وهج الشمس البرتقالي أو ضوء القمر الفضيّ أو تلألؤ النجوم الماسيّ أو سريان الغيم في السماء، فكأنما أنت تُمجّد صنع الله الإعجازي وتقول: “سبحان ربيّ العظيم، ما أبدعَ صنعك!” وحين تُقبّل طفلا فكأنما تقول بفعلك: “سبحان الله العظيم ما أجمل ما قدّمت للأرض خليفةً لك، ليُعمّر الكون ويُحسن إلى غيره من الناس!". ولكن، حين تقوم بتقبيل أسفل ما في الإنسان، قدميه، فالرسالةُ تكون أبلغَ وأعمق. كأنما تقول: “ها أنا يا ربُّ أنحني بجبهتي، وأنا صنعتُك الكريمة، حتى تمسَّ هامتي أحطَّ وأسفلَ ما في صنعتك الكريمة: قدم إنسان آخر.” لهذا تُعلّمنا الأديانُ كافّةٌ أن الكِبر والغرور من سمات التصدّع الروحي وفقر الإيمان في الإنسان. المؤمن الحقُّ لا يكون إلا متواضعًا وهو عزيزٌ، مهما اعتدّ بنفسه ومهما اعتزّ بكرامته. فالاعتدادُ بالنفس والكرامة، لا يتناقض مطلقًا مع التواضع، إنما يؤكده ويُكرسّه ويسانده. فكأنما أراد البابا الحكيم أن يقول لأولئك البسطاء، لا تصدقوا أنك مشردون لاجئون أذلاءُ مطرودون من أوطانكم. فأنتم غالون عند الله، لأنكم صنيعة يديه. كأنما أراد البابا المثقف أن يقول لأوئلك الحزانى: لا يعنيني أيَّ المعتقدات تعتقدون، ولا من أي أعراقٍ تنسلّون، إنما أنا أحبكم واحترمكم وأُجلّ حتى أقدامكم، لكونكم: "إنسانًا". والإنسانُ قيمةٌ عليا في ذاته، مهما اعتقد، ومهما انتمى، ومهما كان ظرفه السياسي أو الاجتماعي. قبل عامين، غسل بابا الفاتيكان أقدام السجناء، ليقدّم رسالة روحية تقول إن حتى الخطاة المذنبين لهم قدرٌ ومكانةٌ في منظومة الإنسانية. في كلمته هذا العام، قال الباب للبشرية: “نحن جميعًا سواءٌ متساون، مسلمون ومسيحيون وهندوس، جميعنا أبناءُ الله. وأما الحروب والاقتتالات التي تحدث في العالم، فليس من صانع لها إلا تجار السلاح الذين يودون أن يزدادوا ثراء على جثامين البشر، وإن فنى العالم. فدعونا ننشر السلام والمحبة بين الناس. لأن الله هكذا يريد.”
لشدّ ما نحتاجُ جميعًا أن نتأمل ذلك المشهد المتحضّر في مجتمعاتنا العربية، فنحبُّ بعضُنا بعضًا، ونتواضعُ أمام بعضنا البعض. فالدينُ لله، والمحبة والاحترام والإنسانية للجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طقس غسل الأقدام
شاكر شكور ( 2017 / 4 / 20 - 06:36 )
كنتِ افضل مترجمة لما فعله البابا في طقس غسل الأقدام يا استاذة فاطمة ، لقد تفوقتِ بحكمة وأعطيتِ الحدث حقه في شرح فضيلة التواضع الأرادي التي هي قوة وليست ضعف ، امنياتي ان يحل السلام على الأرض وتعم المسّرة والأخاء والمحبة في قلوب الناس ، وبهذه المناسبة اقترح على شيوخ الإسلام إستبدال بعض اسماء الله الحسنى كأسمي المتكبر والمتعالي بأسمي المتواضع والوديع لأن الله متواضع وليس متكبر ومحب لبني البشر وليس متعالي فالمتكبر صفة مكروهة تعلم الناس على الكبرياء والمتكبرون منبوذون من المجتمع ، تحياتي للجميع

اخر الافلام

.. استهداف فلسطينيين أثناء تجمعهم حول نقطة للإنترنت في غزة


.. طلبة في تونس يرفعون شعارات مناصرة لفلسطين خلال امتحان البكال




.. الخارجية القطرية: هناك إساءة في استخدام الوساطة وتوظيفها لتح


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يناقش خياري إيران ورفح.. أيهما العاجل




.. سيارة كهربائية تهاجر من بكين إلى واشنطن.. لماذا يخشاها ترمب