الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة على حافة الهاوية

منير ابراهيم تايه

2017 / 4 / 23
الادب والفن


"أوقفني في الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات ورأيت الخوف يتحكم في الرجاء ورأيت الغنى قد صار ناراً ولحق بالنار ورأيت الفقر خصماً يحتج ورأيت كل شيء لا يقدر على شيء ورأيت الملْك غروراً ورأيت الملكوت خداعاً، وناديت يا عِلم فلم يجبني وناديت يا معرفة فلم تجبني، ورأيت كل شيء قد أسلمني ورأيت كل خليقة قد هرب مني وبقيت وحدي"
النفري في مؤلفه الشهير "المواقف والمخاطبات"
قليلة هي الكتب التي تترك أثرا يشابه أثر فرناندو بيسوا ، فهو الاكثر غموضا وغرابة، شخص قلِق، لا مطمئن صادق جدا، يحادث النفس بسهولة وإن كانت لغته فلسفية خاصة إلا أنه يصل لمن يبحثون عن هذه النوعية من المناجاة وحديث الآخرين كحديث النفس... مشبع بالأفكار الوجودية، يمزج الشعر بالفكر، مليء بمقاطع السيرة والتأملية والتقدية، انها كتابة مغرية لها نكهتها تدفع الى التأمل والتفكير فضلا عن جماليتها وسطوتها الشعرية التي لا تنكر.. بيسوا شاعر عاش وهو يحلم وكتب بلغة الحلم التي كان يمليها عليه شخوصه الوهميون.. انه احد أكثر الشعراء العالميين تعبيرا عن نفسية الشاعر الحديث القلقة.. شخوصه لا ينتهون بل يتناسلون إلى الأبد...
قد يكون كتاب "اللاطمأنينة" الوحيد الذي كتبه بيسوا باسمه الشخصي وليس باسم أي من أنداده أو أقرانه المختلقين، انه نثر كتب بلغة شاعرية يحمل الكثير من الصدق والحراره، يناقش دقائق الحياة الإنسانية النفسية، يشرح حالة "اللاطمأنينة" بدقه كبيرة ليكشف عن اعمق مستويات الروح الانسانية، مقاطع او شذرات اطلق عليها بيسوا الوضع الراهن للكينونه يحمل عنوانا صادما ومزلزلا، يصدمك ليفاجئك وليس العكس، ما الذي اراد ان يلفت انتباهنا اليه، انه يستفز ذكاء القارئ ويلفت انتباهه وكأنه يبث اليه رسائله بعدم الاطمئنان الى شيء، انه يصدمك ليبث حالة من عدم الاستقرار لدى المتلقي لذلك لم يبتعد عن مصيدة العنوان المزلزل... أليست وظيفة المبدع فتح ابواب التساؤل أمام قرّائه..؟‏ انك كلما بحثت وراء لغز العنوان تمكنت اكثر من الولوج في صميم فكرهم لتمتلك مفاتيح فهم النص...
واذا كان بيسوا فيلسوفا يسعى لفهم كل شيء في عصر قلبت فيه كل قواعد الحياة ليزول اليقين الذي كانت تمنحه المعتقدات ويسود الشك الذي قوض النظم المجتمعية عوضا عنه.. ذلك انّ القلق الوجودي هو محرّك وركيزة لدى الكثير من الأدباء والمفكّرين الذين تركوا أعمالا خالدة على مرّ العصور لعلّ أشهرهم الكاتب البرتغالي فيرناندو بيسوا في كتابه "اللاّطمأنينة"، ويقول في مستهله: "عندما جاء الجيل الذي انتمي اليه الى الوجود لم يجد اي سند عقلي او روحي ذلك ان العمل الهدام الذي قامت به الاجيال السابقة لنا جعل العالم الذي ولدنا فيه مفتقرا الى الامان الديني والى الدعم الاخلاقي والى الاستقرار السياسي، لقد ولدنا في اوج القلق الميتافيزيقي، في اوج القلق الروحي، وفي اوج اللاطمأنينه السياسية..."
فرناندو بيسوا في كتابه "اللاطمأنينة" بأفكاره التي لا منطق فيها ولا شيء يربطها إلا العبث يجعل كلّ شيء أقل حدّة. وحين يتحدث عن تفضيله للأحلام الكبرى، شبه المستحيلة، لأنّ عدم تحقيقها لن يدفع بمقترفها إلى خيبة الأمل، على الأحلام التي يمكن لها أن تتحقق وبالتالي يمكن لمقترفها أن يندم ويخيب أمله، وعندما يتحدث عن ضرورة إطفاء الرتابة على الوجود حتى لا يكون رتيبا، بحجّة أن التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفارق لن تكون قادرة على صنع الفارق إلا إذا كانت وسط موجودات جامدة، رتيبة، موسومة بالكآبة، وأن الجديد اذا ما هو ظل يتدفق تباعا فلا جديد فيه. أيضا عندما يتحدث عن عشقه للقراءة قبل أن يشرع، في الصفحة التالية تماما، في الحديث عن مقته لها، وعندما يتحدث حزنه على فقدانه ما ليس يملك، ورغبته في الحصول على ما ليس يعرف، عندما يتحدث عن ذلك فانك تعيش حالة أكثر ألقا من الضيق، من العزلة، من اللاطمأنينة
أنا لست ذا شأن
ولن أكون ذا شأن
ولا أستطيع أن أكون ذا شأن
عدا ذلك، أحمل في نفسي كلّ أحلام العالم...

فلسفته غير مفهومة ولا مقبولة، فلماذا كان يقول دائما بأنه ليس ذا شأن؟
ربما لأنه لم ينشر في حياته سوى جزء بسيط من أعماله التي عثر عليها بعد وفاته ونشرت آنذاك..
أما لماذا لم ينشر شيئا؟
فإنه يجيب عن ذلك السؤال بإحدى شذراته: حتى واقعة أني سأنشر كتابا ستبدل حياتي، لن أعود أبدا كاتبا لم ينشر له - سأفقد شيئا إذا..

وهذه بعض من شذراته:
"الحالمون بالممكن، والمنطقي القريب يثيرون شفقتي أكثر من الحالمين بالبعيد والغريب
الحالمون بالكبير، إما مجانين يؤمنون بما يحملون محققين بذلك سعادتهم الخاصة، وإما هذيانيون بسطاء ممن يمثل الهذيان بالنسبة إليهم موسيقى روحية تهدهدهم بدون أن تقول لهم شيئاً
لكن من يحلم بالممكن لديه دوماً الإمكانية الواقعية لخيبة الأمل الحقيقية
لا يمكن أن يؤثر في كثيراً لو تخليت عن أن أكون إمبراطوراً رومانياً، لكن يمكن أن يؤلمني عدم قدرتي على محادثة الخياطة التي تجتاز حوالي الساعة التاسعة صباحاً الزاوية اليمنى من الشارع
الحلم الذي يعدنا بالمستحيل يحرمنا منه بمجرد الإستسلام للحلم. لكن الحلم الذي يعدنا بالممكن يندرج في الحياة الفعلية ويفوض لها إمكانية تحققه، الأول يحيا منفصلاً ومستقلاً الثاني خاضعاً لاحتمالات الحدث" فرناندو بيسوا "اللاطمأنينة"
*دائما عندما يحدثني احدهم عن احلامه افكر فيما لو لم يكن قد فعل شيئا غير الحلم!
*كوني لا احد في العالم هو الميتا فيزيقا برمتها
*"انا" بحجم ما اراه... لا بحجم قامتي..
*علي ان احس دائما مثل الملاعين الكبار، ان للتفكير افضلية دائمة على العيش
*ان الطيبة هي محض نزوة مزاجية.. لا يحق لنا ان نجعل من الاخرين ضحايا لنزواتنا
* أجل، أحلم بأن أكون، على سبيل المثال، في الوقت عينه وبشكل مستقل، وبدون ارتباك، بأن أكون رجلا وامرأة في نزهة، يتنزهان على ضفة النهر
* أمرّ وأبقى هنا، تماما مثل الكون
* متى سينتهي هذا الليل الداخلي، متى سينتهي هذا الكون، وأنا وروحي. متى سأرى نهاري، متى سأنتبه أنني استيقظت
* أجدني في حالة من القلق والكرب الثقافي لا يمكن لكم أن تتخيلوها
* أمضيت الشهور الأخيرة، وأنا أمضي الشهور الأخيرة. لا يوجد هنا إلا حائط الضجر الذي تعلوه كسور الغضب الكبيرة
* أنا في واحد من هذه الأيام التي لم أعرف فيها أي مستقبل. لا شيء سوى حاضر ثابت محاط بجدار من القلق
* على الرغم من أني كنت قارئا نهما ومتقدا، إلا أنني لا أذكر أيا من الكتب التي قرأتها، قياسا إلى أن قراءتي كانت انعكاسا لفكري، لأحلامي، أو بالأحرى تحريضا على الحلم
* العيش مع الآخرين، بالنسبة إلي، هو العذاب. وكل الآخرين موجودين داخلي. حتى لو كنت بعيداً عنهم، أنا مضطر للعيش معهم. وحدي، تطوقني الحشود. لا أعرف أين أهرب، على الأقل لأهرب من نفسي أنا..
‏كتاب يحمل من التأمل ما يمضي بالافكار الى حافاتها القصوى، يقول بيسوا في تقديمه لكتابه: واحدة من مآسي الروح الكبرى أن تنفذ عملا ثم تدرك، حين تنتهي منه، أنه ليس من الجودة في شيء، تكبر المأساة خصوصا عندما يدرك المرء أن هذا العمل هو قصارى ما يستطيع بذله، ولكن، أن تكتب عملا، وأنت تعرف مسبقا أنه مختل وناقص، وأنت تكتبه، مختلا وناقصا فهذه ذروة العذاب والذل الروحيين، لست راضيا عن القصائد التي أكتبها الآن فحسب؛ بل أعرف إني لن أرضى أيضا عن القصائد التي سأكتبها في المستقبل، أعرف هذا فلسفيا وبلحم جسدي، من استشراف ضبابي لا أدرى من أين استقيته، فإذن، لماذا أستمر بالكتابة؟ لأني لم أتعلم بعد المزاولة التامة للتخلي الذي أعظ به، لم أتمكن بعد من التخلي عن ميلي إلى الشعر والنثر، عليّ بالكتابة، وكأنني أنفذ عقوبة ما، والعقوبة القصوى هي أن أعرف أن كل ما أكتبه عديم الجدوى، ناقص ويفتقد إلى اليقين
انه يكتب ليس من اجل الكتابة، ولا من اجل الشهرة، انه يكتب من اجل اظهار وابراز كل ما هو داخله من افكار وحيرة وقلق وشك، حين تقرأ هذا الكتاب ستصعد روحك وفكرك الى اعلى قمم الفكر والتأمل وستعيش حالة من اللاطمأنينه ومن الكآبه ومن الحيره ولكنك ستكتشف الكثير مما بداخلك... يحلق بيسوا بأفاق فكره وذاته وتأملاته بدون قيود، وربما سيرهق الفكر بسبب الاسلوب السودوى بعض الشئ الذى كتب به ولكن من المؤكد انه حاله قليلا من سيعيشها بصدق
في " اللاطمأنينة" نجد ذات دون ملامح شخصية، واستمرارية في اللا استمرارية، وطمأنينة في اللاطمأنينة، انه يرسي تناقضين، تناقضه الأزلي بين الذات والذات وبين الذات وخارجها، إن بيسوا مجموعة من التحولات تتعاصر في داخله، كم هائل من الفلسفات التي يرفضها أو يقبلها، لكنها تتعايش في داخله لأنها تمثل "أناه"، متاهة من الأفكار والتناقضات والاعتقادات، لكنه سيعثر أخيرا على شخصيته: "الوضع الدائم للاكينونة".
بيسوا يجعلك بقراءته مشكّكا في كل شيء، تنظر إلى الأشياء نظرة المتخوّف، يقول في احدى كتاباته: " من نفس المكان يضجر الناس، وأنا من وجودي في ذاتي أليس خليقا بيِ أن أضجر! " ، الكتاب يخلو من الطمأنينة لكنه ممتع جدا للراغبين في التأمل.
يقول ألبير كامو ان التجربة الأشد خطورة، ألا نشبه شيئا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا