الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (10)

موسى راكان موسى

2017 / 4 / 23
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية




الطابع التصنيفي للعلم (ص 52ـ61) :


هناك سمة أخرى من سمات هذا النقاش حول و ضد (( العقلنة )) المرتبطة بالمجتمع الصناعي الحديث ، هي تلك المتعلقة (( بالمفهوم الايديولوجي )) للعلم ، و الذي تأكد في مجرى السبعينات . حين تكلم عن (( فك السحر )) الذي مارسته هذه العقلنة على العالم ، بيّن ماكس فيبر في وقته بأن (( التناقض ـ التباعد بين حقل قيم (( للعلم )) و حقل الخلاص الديني غير قابل للتبسيط أو للحل )) . العلم هو (( القوة الغريبة تخصيصا عن الألوهية )) . و العالم الذي يكشف عنه العلم هو الأقل (( شكلا إنسانيا )) من كل ما نتخيله .


إنه عالم غريب عن (( المعاني )) و عن (( القيم )) التي هي في صميم الانسان ، إلى حد أن العلم لا يطرح على نفسه حتى مسألة (( إثبات )) أن واقعة الوجود بحد ذاته ، مجرد أن نكون ، لها بالنسبة للانسان (( مغزى و معنى )) . و قد كتب ماكس فيبر بأن (( العلم ليس في حل من وسائل الخلاص و من الرؤى و التجليات )) . و أضاف بأن (( القدر يفرض علينا أن نحيا في عصر دون إله و دون أنبياء )) . و بما أنه يعتبر من جهة (( بأن عدم القدرة على الاحتفاظ بنظره موجها نحو الوجه القاسي للقدر ، هو ضعف )) ، و بما أنه من جهة أخرى قد اختار العلم ، فإنه يختتم قائلا بأنه ينبغي (( مواجهة قدر عصرنا هذا برجولة و شجاعة )) .


إن نفس النظرية الفيبرية حول (( الأنماط المثالية )) سيتم تفسيرها (وفقا لملاحظة ملائمة تماما أدلى بها كارل لوويث) على ضوء هذا المنهاج ـ المحاولة . لقد كانت تفترض (( رجلا )) دون (( وهم )) على وجه التخصيص ، و هو لكونه موجود في عالم خال موضوعيا من المعنى (المغزى ـ الإشارة ـ الوجهة) ، متخلص من السحر (المفكوك سحره) ، و بهذا المعنى (( واقعي )) تماما ، مردود على نفسه و يجد نفسه إذن مضطرا إلى أن يعيد بنفسه (( معنى ـ وجهة و ترابط الأشياء )) .


هذه السمة المزدوجة ، المعطاة في آن معا (( للواقعية )) و (( للرواقية )) (مذهب أتباع زينون : كل شيء من الطبيعة إنما يقع بالعقل الكلي و يقبل مفاعيل القدر طوعا) ، نجدها لدى الكثير من العلماء و فلاسفة العلم المعاصرين .


و في كتاب برتراند راسل (( الرؤية العامة العلمية )) نجد حول هذا الموضوع صفحات جد جميلة . و كذلك الأمر في العديد من كتاباته الأخرى ...


إن التعارض بين عالم العلم و عالم (( الخلاص الديني )) ، و الذي سبق أن أشار إليه فيبر ، يعود إلى الظهور مع راسل كتعارض بين العلم و الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) ، بين العلم و الايديولوجيا . و يجري التعبير عن ذلك بلغة شعبية في كتابه (( محاولات ارتيابية )) و بهذه العبارات :

(( قبل كوبرنيكوس لم يكن هناك من حاجة لحجج فلسفية دقيقة لكي تُدعم النظرة (( المركزية البشرية )) للعالم . (مذهب أن الانسان هو حقيقة الكون المركزية) كانت السماوات تدور ظاهريا حول الأرض ، و على الأرض كان الانسان مسيطرا على الحيوانات . و لكن حين خسرت الأرض موقعها المركزي خُلع الانسان أيضا عن عرشه ، و أصبح من الضروري اختراع ميتافيزيقيا تصحح (( قساوة و وحشية )) العلم . و هذه المهمة أنجزها أولئك الذين أسميناهم (( المثاليين )) )) . و كان راسل قد لاحظ قبل ذلك بقليل بأن (( الكتلة الكبيرة من القناعات التي نبني عليها حياتنا اليومية ، ليست سوى تجسيد للرغبة (المصححة هنا و هناك ، في نقاط معزولة) بالمواجهة الحادة مع الواقع )) .


و هناك لهجات مشابهة ضد المفهوم المركزي البشري و المفهوم الانسانوي للواقع (أي ضد الرؤية التي لا ترى العالم إلا على مقاس و بناء على حاجاتنا و رغباتنا أو (( قيّمنا )) ، أي و أيضا متطلباتنا (( للأمان ))) نجدها في الصفحات التي ذكرناها سابقا لجاك مونود .


إن هذا الجهد الذي بذلته العلوم الطبيعية لوصف العالم ، و هي تحاول ما أمكنها ذلك تجاهل ذواتنا ، و ميولنا ، و رغباتنا ، يُشكل (و كما ذكّر بذلك أيضا ورنر هايزنبرغ) إحدى المحطات المركزية من تاريخ الفكر الحديث ، بدءا من (( الثورة العلمية )) للقرن السادس عشر . و قد أدى سريعا إلى التمييز بين واقع (( موضوعي )) و واقع (( ذاتي )) ، أو إلى التمييز بين صفات (( أولية )) و (( ثانوية )) ، حيث لا تكون الثانية بالضرورة مشتركة بين كل الناس ، فيما تفرض الأولى نفسها بنفس الطريقة على الجميع و في الخارج .


و الحال أن هذا الطابع الخاص بالعلم الحديث قد كان في سنوات ليست ببعيدة موضوعا لاهتمامات تارة إنذارية و تارة نقدية للغاية . فهذا ألكسندر كويري ، أحد أكبر مؤرخي العلم المعاصرين ، قد عبّر عن ذلك بوضوح كبير و في ختام الفصل الأول من كتابه (( دراسات نيوتنية )) ، فكتب يقول : (( هناك شيء يمكن اعتبار نيوتن (و ليس نيوتن وحده و إنما العلم الحديث بشكل عام) مسؤولا عنه و هو : شطر العالم إلى شطرين . لقد سبق أن قلت بأن العلم الحديث قد أزال الحواجز التي كانت تفصل السماء عن الأرض ، موحدا بذلك الكون و هذا صحيح . و لكنه حقق هذا التوحيد باستبداله عالمنا ، عالم الصفات و الإدراكات الحسية (العالم الذي هو مسرح حياتنا و عواطفنا و موتنا) ، بعالم الكمية ، عالم الهندسة الرياضية المجسدة كحقيقة ، و التي لا مكان فيها للانسان رغم احتوائها لأي شيء آخر . و هكذا يصبح عالم العلم ، العالم الحقيقي ، غريبا و يتميز بعمق عن عالم الحياة الذي لم يكن بوسع العلم تفسيره و لا حتى بتحديده و تعيينه كـ(( ذاتي )) )) .


و كان هذا بإختصار ، مضمون خطاب ـ هوسرل في كتاب (( الأفكار )) و (( المنطق الشكلي و المنطق الاستعلائي )) و خصوصا في (( أزمة العلوم الأوروبية )) (حيث يجري ذكر كويري و ليس ذلك صدفة) . و في نفس الوقت الذي كتب فيه هوسرل كلامه نجد نفس المعنى لدى هايدغر في (( الكائن و الزمن )) و لكن خصوصا في نصوصه المتتالية . لقد شطر العلم الحديث العالم شطرين ... من جهة كان هناك عالم (( الموضوعية )) : (( ريضنة الطبيعة )) (جعلها رياضية ـ حسابية) التي تطورت منذ غاليلي ، عالم (( الهندسة الرياضية المجسدة كحقيقة )) ، سيادة الكمية النقية الصافية . و من جهة أخرى عالم (( الذاتية )) أو الإدراكات الحسية ، و الصفات أو النوعيات ، و الحقل الذي تدور فيه الأحداث الأرضية الحقيقية ، (( عالم الحياة )) و أيضا (( الموت )) ، و لكن فقط كحقل تجاهله العلم و لم يكن لديه أي شيء يقوله حوله .


لقد كبر العلم الحديث على قاعدة هذه الثنائية الأساسية ، و هو قد طوّر (( حقيقة )) حيث فقط الأشياء ، مكانها ، و لكن ليس الانسان ، إلا إذا تحول الانسان إلى مجرد (( شيء )) بسيط . و من هنا استمدت (( البرّانية )) و التشيوء جذورها . و من هنا أي من الثنائية الأساسية بين (( الذات )) و (( الموضوع )) ، نشأت عدم قدرة العلم على تقديم تفسير كلي شامل كالذي يقدمه الدين و الميتافيزيقيا . أي معرفة تُقدم ، بإعادتها لوجود الانسان إلى مركز الكون ، علة الـ(( لماذا )) و تُفسر (( المعنى ـ المغزى )) و (( الغاية )) .


إن (( أزمة العلوم الأوروبية )) كانت موجودة في فقدان الشمولية هذا ، فقدان المعنى ـ الوجهة . و من أزمة العلوم هذه أخذت أزمة أوروبا مضمونها أي أزمة الانسانية الأوروبية .


لم يكن الخطاب جديدا ـ فالنضال المرير الذي خاضه غوته ، في كتابه (( نظرية الألوان )) ، ضد البصريات الفيزيائية لنيوتن ، قد أوحت به مبررات مشابهة : المطالبة بـ(( عالم الصفات )) ، و الإدراك الحسي ، ضد التخلي عن (( الحيوية )) و عن (( المباشرية )) اللتين وسمتا تقدم و انجازات العلم منذ القرن السابع عشر . كتب ورنر هايزنبرغ يقول أنه (( إذا كان باستطاعتنا انتقاد غوته على شيء فذلك فقط على أنه لم يصل إلى حد استخلاص النتائج الأخيرة : لم يكن ينبغي عليه محاربة أفكار نيوتن ، و إنما إعلان أن كل فيزياء نيوتن ، البصريات ، الميكانيك (الأوالة) ، قانون الجاذبية ، هي من عمل الشيطان . و بالعكس ، فإن الدأب الذي واصل به العلم المجرد سيره في نفس الإتجاه و رغم كل هذه الإعتراضات ، هو دليل واضح على قوته و على طابعه المنطقي الصميم )) .


و الحال أن ما لم يتجرأ غوته على قوله أصبح فيما بعد جرأة أظهرتها فلسفات ما سُمي (( بالردة المثالية ضد العلم )) ، و على الأخص لدى هوسرل و هايدغر .


فبالنسبة لفلسفة هذين الرجلين يصبح العلم الحديث بالفعل (( عملا من أعمال الشيطان )) . العلم هو بالنسبة لهما مسبب و في الآن نفسه نتيجة (( إنخلاع )) الانسان الحديث ، (( برّانيته )) في العالم ، و للتشيوء العام .


إن ماركوز و قد كان في شبابه تلميذا لهايدغر قد استعاد في (( الإنسان ذو البعد الواحد )) ليس فقط موضوعة أستاذه و إنما أيضا الموضوعات التي طرحها هوسرل في (( الأزمة )) و وايتهيد (و هو أيضا اسم له أهمية حاسمة) في (( العلم و العالم الحديث )) ، و هو كتاب استشهد كويري به في خاتمة المقطع المذكور سالفا و الذي استعار منه ماركوز تعبير و مفهوم (( الرفض الكبير )) .


و من جهة أخرى فإن فكرة (( المجتمع الصناعي المتقدم )) ذاتها ، (و قبل ماركوز بكثير) قد جرى تنظيرها ، في خطوطها الأساسية ، من قبل هايدغر . إن (( التخطيط الكوكبي )) (على مستوى كوكب الأرض) . و الـGestelt الوحشي ، و الاستعمال التقني ـ الصناعي على نطاق واسع للرجال و للطبيعة ، قد سبق أن أشار إليهم هايدغر (( الأخير )) على أنهم الرمز المشؤوم حيث قدر الغرب ، كارض للغروب ، يكون قيد الإنجاز .


إن (( الإنسان ذو البعد الواحد )) لم يفعل سوى إضافة خاتمة سياسية لكل هذه النصوص . فماركوز و قد أخذ كنقطة انطلاق (( العقل الحاسب )) ، الممقوت للغاية (العقل الحسابي الرياضي) و الذي تكلم عنه قبلا هوسرل و هايدغر ، أقام صلة أو إتصالا بين هذا (( العقل )) و بين روح السيطرة الذي كان يعتبره مفسدا لكل شيء في المجتمع في المرحلة الأخيرة من تطوره .


و بهذه الطريقة فإن نقد العلم الحديث و هو نقد تطور في الأصل انطلاقا من مواقف رجعية و رومنطيقية ، أصبح بإمكانه أن يكون سلاحا بيد اليسار الثوري . و كتب ماركوز حول ذلك قائلا : (( إن العقلانية العلمية تحبذ نوعا معينا من التنظيم للمجتمع لأنها تحتوي شكلا نقيا (أو مادة نقية : إن المصطلحات التي قد تكون في حالات أخرى متعارضة تتلاقى هنا) يمكن تكييفه مع أية غاية )) . و يضيف ماركوز قائلا بأن (( الملاحظة و التجربة ، التنظيم و التنسيق المنهجي للمعطيات ، المقدمات و النتائج ، لا تتقدم أبدا في مجال حيادي ، نظري ، و غير مركب )) . إن (( مبادئ العلم الحديث قد جرى تركيبها قبليا ، بغية التمكن من الخدمة كأدوات مفهومية لعالم من الرقابة المنتجة دخل في حالة الحركة بواسطة قوة دفعه الذاتية )) . و يختتم : (( إن المنهج العلمي الذي قاد إلى السيطرة (الأكثر فأكثر تأثيرا) على الطبيعة قد وصل هكذا إلى تقديم المفاهيم النقية و لكن أيضا الأدوات لسيطرة (أكثر فأكثر تأثيرا) الانسان على الانسان ، من خلال السيطرة على الطبيعة )) .


و عند هذه المرحلة من التحليل ، تكون الأوراق قد كشفت تماما . (( العلم )) و (( المجتمع الرأسمالي ـ الصناعي )) تماثلا ، تطابقا . لم يعد العلم يظهر على أنه الشكل الخصوصي للمعرفة (و من ثم ، إذا كان ينبغي فعلا استعمال هذا المصطلح ، على أنه شيء (( حيادي ))) و إنما على أنه ايديولوجية و ممارسة للسلطة ، أي على أنه الشكل الذي يتحقق من خلاله الاستغلال و السيطرة . و لكن لم يكن هذا كل شيء . في نهاية سنوات الستين وصل إلى إيطاليا كتاب يصعب فهم نجاحه الخارق للعادة في بلادنا كما في بقية أنحاء العالم . أنه كتاب (( بنية الثورات العلمية )) لتوماس كوون Kuhn . لقد صب هو أيضا الزيت على النار .


و إذا أعدناها إلى ما هو أساسي فيها ، فإن الأطروحة كانت بدائية . يقول كوون بأنه في ظروف عادية ، لا يكون العلم نشاطا إدراكيا (عروفيا) ، إنه ليس جهدا نقديا لنقاش و اختبار النظريات السائدة ، و (( النماذج )) المطبقة ، و إطار الفكر الذي نتحرك ضمنه . إن (( العلم المعياري )) ، على العكس هو فقط نشاط (( لحل أحجية مربكة )) ، أي نشاط مخصص لحل (( ألعاب معقدة )) (فيها تكسير رأس بالعامية) مشتقة من (( النموذج )) الذي يسيطر في الوسط العلمي لذلك الوقت . إن القيمة الإدرامية ـ العروفية لهكذا نشاط هي معدومة . ففي سياق هذا النشاط ، لا يتم أبدا مناقشة (( النموذج )) فعليا أو وضعه موضع الاختبار . إن من يجازف بالقيام بذلك سيكون موضع عداء الوسط العلمي . إن غائية النشاط هي فقط عملية . إنها تفيد في وضع لياقة الباحث في الدفاع عن المبادئ السائدة و إذن النموذج المعتمد موضع اختبار ، بهدف إكتساب أعضاء جدد للوسط العلمي . و بعد تحديد إطار العلم المسمى (( معياري قياسي )) وفق المصطلحات التي وصفتها ، انتقل كوون إلى دراسة مراحل (( الثورة )) . و تغيّر النص حينذاك بشكل جذري . إن الثورات في العلم ، لا تسجل فقط لحظات استثنائية ، و إنما هي (و لنشدد على ذلك) ذات منشأ لا عملي ، من خارج العلم . لقد كان للنموذج الجديد منشأه في الرؤى الميتافيزيقية و الدينية . كان يناضل لتثبيت نفسه ، بالتغلب على الآخر ، و بعد ذلك ، و بعد فرض نفسه ، يصبح هو الآخر (( عقيدة )) ، و تفتتح مرحلة جديدة من (( العلم المعياري ـ القياسي )) .


و كما نستطيع أن نرى بسهولة فإن ما كان واضحا بالخصوص في كتاب (( كوون )) هو شحنة الظلامية التي كان مطبوعا بها . و بالنسبة للكاتب فإن التجديدات النظرية كانت تُنتج فقط خارج العلم . إن الفكر النقدي يعيش فقط في لحظات المواجهة الميتافيزيقية الكبرى التي تطبع عصور الثورات و حالما كان (( العلم المعياري ـ القياسي )) يصل ، كان الفكر النقدي يختفي . لقد كان (( كوون )) يكرر حرفيا (و ربما دون أن يعرف) جملة رهيبة أطلقها هايدغر ؛ (( رسالة في النزعة الإنسانية )) حيث قال : (( ما أن يولد العلم حتى يختفي الفكر )) و ردد كوون ذلك قائلا : (( إن ما يسم عملية الانتقال إلى علم هو بالضبط التخلي عن الخطاب النقدي )) .


و لكن التحفظات النقدية ضد (( كوون )) لم تكن قليلة . و رغم أن ذلك تم وسط جو من التقدير و التثمين العالي ، فإن أطروحته قد ناقشها بوبر و واتكينز ، و لاكاتوس و غيره . لقد لاحظ لاكاتوس على سبيل المثال أن (( التغيّر العلمي )) من (( أنموذج )) إلى آخر ـ هو بالنسبة لكوون ، عملية تحول صوفية ليست و لا يمكن أن تكون خاضعة لقوانين عقلانية و هي تنتمي بالكامل إلى مجال علم النفس (الاجتماعي) الاكتشاف . إن التغيّر العلمي هو نوع من التحول الديني (الانتقال من دين إلى دين) .


و قد أضاف لاكاتوس إلى ذلك أيضا بأن كوون (( يستثني كل إمكانية إعادة بناء عقلانية لتقدم العلم )) . (( لا يوجد سبب عقلاني مخصوص لظهور أزمة كوونية (نسبة إلى كوون) )) . و يختتم لاكاتوس قائلا : (( هكذا إذن ، و حسب مفهوم كوون ، فإن الثورة العلمية هي لا عقلانية )) و قد قدم واتكينز ملاحظات أكثر قسوة .


و لكن أطروحة (( كوون )) حول العلم النابع من الايديولوجية ، قد لقيت ترحيبا عجولا في إيطاليا و خصوصا في أوساط أقصى اليسار الذي لم يكن يملك لا الوقت و لا الوسائل للتصرف بصراحة (أو بلا إلتواء) . لقد كان مطلوبا هنا و بشكل طارئ البرهنة على أن العلم كل شريك (( رأس المال )) ، و أنه كان فقط ايديولوجية للسلطة ، و أن المصالح الطبقية قد احتوته أو هيمنت عليه كليا . و كان بالإمكان استخدام مواقف ماركوز و مدرسة فرنكفورت من جهة ، و مواقف كوون من جهة أخرى لتدعيم هذا التحليل .


و هكذا ، فإن هذه المواقف النظرية التي كانت رائجة منذ بضع سنوات ، استطاعت أخيرا أن تخرج للعلن في ربيع 1976 . ذلك أن مجموعة من الأساتذة الجامعيين في الفيزياء ، و المنتمين إلى أقصى اليسار (و البعض منهم كان قد فقد منذ زمن طويل حتى مذاق مهنته ، في حين أن الآخرين لم يكونوا قد اكتسبوها بعد) نشروا كتابا ضحلا هو عبارة عن تجميع لمقالات و أبحاث حملت عنوان (( النحلة و المعماري : النموذج العلمي و المادية التاريخية )) لقد جرى التأكيد صراحة هنا على أطروحة (( الطبيعة الطبقية )) للعلم . و حسب المؤلفين فإن التكييف التاريخي و الاجتماعي للعلم ، و من ثم المصالح الطبقية الناتجة عن ذلك ، تمتد لتصل حتى إلى الهيكلية النظرية و النواة الصميمية للعلم ... و كما شرح ذلك مارسيللو تشيني في مقدمة الكتاب (التي أعادت التعريف بمختلف مراحل المسيرة المنجزة) فلنقد الاستخدام الرأسمالي للعلم ، ينبغي لنا السير إلى أبعد من ذلك و أن نفحص المسائل التي عليه حلها ، في تعريف الأولويات المطلوب مراعاته ، في صياغة تعود للانتاج الرأسمالي ، يكون العلم ينتج اليوم في وسطها .


لم يكن هكذا خطاب ليسمح بأي سوء فهم حول معناه . إن (( فرضية الموضوعية )) (و التي اعتبر جاك مونود قبل بضع سنوات إنها (( حجر الزاوية في الطريقة العلمية ))) قد جرى قلبها هنا بالكامل . إن علاقات الانتاج الرأسمالية تؤثر على العلم في أخص خصوصياته و أعمق أعماقه ... إنها تحدد له محتوياته و طرائقه ، مسائله و أدواته النظرية . إنها تجعل منه معرفة (( طبقية )) . إن (( العلم )) و (( الايديولوجيا )) يختلطان ، يتماهيان إذن .


بل الأنكى من ذلك أن العلم يظهر كأداة و كوسيلة للرأسمال إلى الحد الذي يسمح لتشيني بأن يقدم أطروحته القائلة بأن (( التقدم العلمي و التكنولوجي قد خدم النظام الرأسمالي ليس فقط للبقاء على قيد الحياة متجاوزا بذلك تناقضات سبق لماركس أن تنبأ بأنها متفجرة ، و إنما أيضا لكي يتدعم و يتطور بنشاط )) .


لقد واجهنا هنا ، حقيقة ، و لأول مرة ، الوجه الآخر للقمر ... فها هي الماركسية ، التي أرادت في الأصل أن تكون (( تحليلا علميا )) للرأسمالية ، تكتشف اليوم بأن العلم ، على العكس من ذلك ، كان ... ابن الرأسمالية .


و هكذا فإن (( التوقعات العلمية )) لكتاب (( رأس المال )) لم تتحقق ، بسبب ... (( أن التقدم العلمي )) قد لعب لمصلحة رأس المال و ضد ... علم ماركس . أن المفترض الضمني الكامن في هكذا نص كان واضحا صريحا ، و هو وحده كان بإمكانه إعطاء نوع من التماسك لهذه القطعة من الاشتطاط (استدلال زائف) ، فالمفترض كان أن هناك علمين : العلم (( البروليتاري )) ، و العلم (( البورجوازي )) ، و أنه كان يستحيل تمييز العلم عن الايديولوجية . لقد أنهت سنة 1976 إذن قفل الدائرة ، بإحتفالها بإنتصار ما كان النتاج الأنجح للمرحلة التي مرت منذ 1968 : أي الانسان الايديولوجي Homo ideologicus .


إن الايديولوجيا التي كانت قد رافقت الإيطالي في تلك المرحلة ، في كل مكان ذهب إليه ، حتى في سريره ، بين أغطيته (أو حتى حيث طلب منه إعلان تصريحات إيمان بالتحرر النسائي ـ النسوية) ، إن هذه الايديولوجيا تتكشف الآن أمامنا حتى في العلم ، و قريبا سنكتشفها حتى في الشوربة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر وتحية
إبتسام بوكسرة ( 2017 / 4 / 24 - 17:11 )
نشكر أسرة تحرير الحوار وعلى رأسهم السيد رزكار لأنهم يخضضون فضاء واسعاً لأعداء الشيوعية
وتحية للمثقف موسى راكان

اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي