الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغربال

كمال عبود

2017 / 4 / 23
الادب والفن


-1-
أنتَ يا الأخضر، أيُّها الجميل الريّان .. يا ذو الطلعةِ البهيّة، والجبين الواسع .. يا أخضرَ العينين .. كُنْ كما أنت .. كما عهدناك .. حليماً .. صبوراً .. متفائلاً .. أنت يا الأخضر، مشتاقٌ إليك .. كثيراً جداً .. ما لِوجهكَ شاحباً؟ لماذ تجرُ قدمك هكذا؟ ما الذي أصابك؟ مرّ زمنٌ طويل لم نلتقِ .. أنت يا الأخضر حدثني ما بكَ؟
حكَّ الأخضرُ صَدغَهُ وأجاب : تَذكرتُ شيئاً ..
: ما هو ...؟
: الغربال ..
قلتُ: الغربال ...؟
قال: يوم كنتُ طفلاً أرسلتني أمي إلى بيت عمي قاسم ، قالت لي : اذهب وقل لزوجة عمك : أمي تريد الغربال. قلتُ لها : ماهو الغربال .. ؟ قَالَتْ: إمرأةُ عمّك تعرفه ، وأنت أيضاً ستعرفه!
وأنا ذهبتُ فأعطتني المرأة إطاراً خشبياً رقيقاً وعريضاً .. دائرةٌ تُشبه الدولاب، في جانب من الدائرة خيوط متقاربة جداً متوازية تقطع الدائرة وفوقها أيضاً خيوطُ متوازية ومُتعامده مع الخيوط الاولى وكل الخيوط تنتهي بثبات إلى الدائرة الخشبيّه وتشكّل في تقاطعها فتحات صغيره جداً أو كما تسميها أمي عيون .. وأمي غربلتْ القمح ، وضعت حفناتٍ قليله وحرّكت بيديها الغربال حركاتٍ دائريّه ، انفصلَ قشٌّ وطاف إلى فوق .. ومن عيون الغربال تساقطت حبيباتُ تراب وحصى ناعمة وصغيره وحباتٌ كثيرة سوداء وصفراءَ، هي بذور لنباتات بريّه حُصدتْ مع سنابل القمح، وهكذا فصلت أمي الخبيرة، القشَ والزؤان وأبقت حباتَ القمح وحدها نظيفة .. واستمرّت حتى غدا كيس القمح ممتلئاً وجاهزاً للطحن ..
ثمّ ماذا يالأخضر .. ؟
قال الأخضرُ: من سنواتٍ لم نذهب مشواراً مع بعض، ما رأيك صوب البحر ..؟
قلتُ: حسناً .. وذهبنا ... هناك على صخرةٍ قرب الشاطيء الجميل جلسنا .. قلتُ لَهُ : مالذي جعلك تذكر الغربال ..؟
حدّق في البحر طويلاً .. ووقف فجأةً خلع قميصه الخارجي ثمّ الداخلي وأدار ظهرهُ لي قائلاً: ألا يُشبهُ ظهري الغربال ..؟
كانت آثار شظايا القنابل تملأ ظهره .. ندوبٌ عميقة محفورة إلى الداخل ، سوداء وبنيّة غامقة ، وثمّةَ ندبة واسعه بين فقرات عموده الفقري أشار اليها .. هنا السبب ، لهذا صرتُ أجرُّ قدمي جراً كما ترى .. وكشف عن رجلهِ فبانتْ ساقَهُ الخشبيّة ، وكان ظهره يُشبه فعلاً من كثرة الندوب غربالاً كبيراً.
حبستُ في مقلتيَّ دمعةً وقلتُ مُخففاً ومُواسياً: هذه اللعنه أقصد الحرب لم تترك أحداً دون أذيّه ومصابك أهون من غيرك ..
قال: قم نسير، وصار يقصُّ حكايته في القتال إلى أن أُصيب.
قلتُ ثُمَّ ماذا يا الأخضر ..؟
قال : أحزنتني المدرسة ...
قلتُ: كيف ..؟
قال: اخترق جدرانها الرصاص .. رصاصٌ كثير ، امتلأت بالثقوب السوداء كانت بيضاء .. صار كالغربال ، حتى مقاعد الدراسة وطابة اللعب، ودفاتر الأطفال صارت غرابيلا ، وربما ضحكاتهم أيضاً، وفجأةً صفعني بقفا يده الغليظة على وجهي: غداً أُكمِلُ لك قصة أخرى عن الغربال...
تركني ومشى وهو يُدندنُ أُغنيةً شائعة:
أَحِنُ إلى خبزِ أُمي ... وغربالِ أُمي

*******
-2-

أنت يا الأخضر ، أنتَ يا أخضرَ الأحلام .. يابن بلدي ، أيّها المجبول بحب الأرض والبشر .. برائحة الطيّون واليانسون .. أيها الطَّيِّب طيبةُ الأطفال ، أين ذهبت نضارة وجنتيك؟ أين هدوءك الداخلي ...؟ ياصاحب المقلتين الصافيتين ، أخبرني عن عالم القلق الذي تعيش .. أنا مثلكَ ، خفّفْ عنكَ الثِّقلْ.
نظر الأخضر نحو اليمين ونحو اليسار ، ثُمَّ نحو رجله الخشبيّه ، وأطلق تنهيدةً عميقةً تنمّ عن قهرٍ دفين ...
قلتُ متفذلكاً: ( أراكَ عصيّ الدمع شيمتُكَ الصبرُ .. أما للهوى نهيٌ عليكَ ولا أَمرُ)*
حكَّ الأخضرُ -كعادته- صَدغَهُ وقال: (بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعةٌ .. ولكنَّ مثلي لا يُذاعُ لَهُ سرُّ) *
قلتُ أيُّ سرٍّ هذا ..؟
قَالَ: سرُّ هذه .. وأشار إلى رجله الخشبيّه ..
قلتُ: أوضح ذلك.
قال: فقدتُها في الحرب المجنونه .. جاء السفلة وحاصرونا .. جاؤوا من أصقاع الأرض .. وجوه غريبه كأنّها مُزجت مع وجوه الشياطين .. جاء دراكولا *وزبانيته .. أضحت الأرض من جنونهم رماداً .. احترق كل شيء .. قاومنا بما نملك .. كنّا رجالاً .. وكان الحصار ضاغِطاً .. أوقعتني الشظايا أرضاً .. وهشّمتْ قنبلةٌ لعينة رجلي .. زحفت وزحفتُ .. كنتُ أنزفُ دماً .. لا أعرف أين انتهيت ولا كيف .. هكذا وجدتُ نفسي مبتور الساق ... في السجن ..
قلتُ مُستغرباً: في السجن ...؟
قال: نعم ، عقاباً لي لأَنِّي فقدتُ بندقيتي ..
قلتُ: ليس صحيحاً ما تقول .. إِنَّ ال...
قاطعني الأخضر ضارباً كرسيّه بقبضته ومزمجراً: أنت غبي .. أنت بليد ..
وأردفَ حانقاً: العقوبة الآن والمكافأةُ ساقٌ خشبيّة لك لاحِقاً ..
وكان يُحدّثُ نَفْسَهُ: اللعنه عليهم .. تُضحي من أجل ساقٍ خشبيّه ...! ما أقذرهم ..؟
هدأَ روع الأخضر وقال: قالوا إِنَّ البندقية أصبحت في يد الأعداء .. وسيقتلون بها رفاقي ..
ثُمَّ ماذا يا الأخضر ..
قال: غرفة السجن ضيّقة ومظلمه .. رائحةُ البول والعفن تملؤها .. أرض الغرفة نتوءاتٌ اسمنتيّةٌ كالمسامير الحادّه .. تنغرِس في الجسد خناجرَ داميةٍ كيفما تحرّك المرء ، إن جلس أو تقلّبَ .. يجفوك النوم وتطارد الكوابيس أحلام اليقظه ... وصراصير وقملٌ كثير يقرص جلدك كي لا يغمضُ لك جفنٌ .. قذارة ورطوبةٌ وجبال من الهموم .. وصخرة قاسية تطبق على الصدر .. والأفكار ألسنةُ دخانٍ أسودَ تلتفُّ وتختفي لتعود من جديد لِتلتفَّ حبالاً أكثرُ قتامةً ..
وحدَهُ الغربالُ كان أنيسي ...
قلتُ: الغربال ..؟
قال: نعم .. هناك على نافذة عاليةٍ ، كانت مُغلقةً بلوحٍ حديدي مثقوبٍ كالغربال .. يدخل منه الضوء ساعةً في النهار .. هي ساعةٌ تعرف منها أنَّ ثمّةَ ضوء وحياة هناك .. خارج الظلمة والموت .. هناك حركةُ ناسٍ ونبض بشرْ .. وهناك عصافيرٌ وطيور لا تُعاقَبُ إن فقدتْ حبّة قمحٍ بريّة .. الغربالُ يا سيدي هو المُنتظرْ .. هو السلوى .. ثقوبهُ الصغيره هي الأمل اليوميُ .. تعدّ الثقوب .. واحد .. اثنان .. تسعه .. تُخطيءُ كي تعدَّها مرّةً ومرّات .. والضوءٌ يُسعِدُكَ وهو يمرُّ منه يدخلُ إلى القلبِ فيُضيُء ساحةَ النفس المقهوره ، هو غربالٌ كغربالِ أمي .. عزيز وجميل ..

-3-
قال جاري : صدَقَ الأخضرُ .. أنا رأيتُ الغربال مرّتين: مرّةً منذُ ثلاثين عاماً ،و مرّةً منذ يومين ، ازداد السجن قذارةً وسوءاً ، وبقيت خيوطُ الضوء من الغربال كما هي مؤنسةً رائعةَ البهاءْ ، حقاً كان الغربال جميلاً ...
---------
* البيتان من الشعر للشاعر أبي فرأس الحمداني
* دراكولا هو مُصِّاص دم البشر في القصة المشهورة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا