الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحذاء

محمود يعقوب

2017 / 5 / 5
الادب والفن


الحذاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة محمود يعقــــــــــوب



« لا أجزم القول أنّني نجحت في تقصياتي عن دسائسه وحركاته المريبة ، إلّا أنّني أعرف ، بكل تأكيد ، أنه ماضٍ إلى قلب حياتي رأساً على عقب » .
« ألا يتضح لك أنّ أحاديثك محض خيال مسحور ؟ » .
« نعم ،إنّ الفظاعة والأهوال تجعل الحقيقة تبدو رسوماً من الخيال الشاطح بلا ريب ، ولكن ما أحدّثك به واقع حال يمكن أن تلمسه وتبصر به ، ومن ثم لك الحق أن تقول فيه أحكامك كما تشاء » ..
« ..................... » .
« إنّ ما يحدث الآن يلوح تافهاً في أوّله ، غير أنّه سرعان ما ينتفخ ويغدو أمراً خطيراً محدّقاً ..
عندما شغلت منصبي الحالي ، علا نجمي في سماء فسيحة لا تُزاحمني فيها كواكب ولا نجوم . استتبّ كل ركن من أركان حياتي ، ومضت حياتي تسير هوناً . غير أنّ ذلك لم يدم طويلاً ، فسرعان ما أخذ شيء يكدّرها ويناكدها .. شيء ما كان غامضاً أول وهلة ، ولكنّه اليوم تجلّـى عن خطب عظيم .
أنت تعلم يا صاحبي كيف كُنتُ معتاداً على أن أخلع على نفسي مظاهر الأناقة ومهابة القيافة ، أينما كنت ، وفي كل وقت . هذا هو طبعي ، كما خبرتني ، طيراً غُرّيد ، من طيور الحب مرقّـشاً بأبهى الألوان . ولكن في هذه الأيام القريبة راح شيء غامض يربك خفق جناحاي ، ويرهب تحليقي ، كما لو أنّـه صقر من صقور الشاهين .
ذات يوم ، وفيما كنت ماشياً في عرض الطريق ، على عادتي ، تفاجأت باختلال مسيري وتقلقله على حين غرّة . توقّـفت عن السير لأمسك بزمامي ، ومعرفة ما حلّ بي . غير أنني وجدت كل شيء على ما يرام ، كنت سليماً ، معافى . والحقيقية أنني ما شكوت في يوم من الأيام من أيّة علّـة .
ألقيت نظرة على ساقيّ ثم عاودت المسير ، إثر توقفي لدقيقتين من الوقت . رحت أمشي بثقة أكبر ، وقطعت جزءاً يسيراً من الطريق متوازناً . ولكن ساقيّ اهتزّتا بعد ذلك ، وارتجّت قدماي ، وكادتا توقعان بي أرضّاً . أوقفت سيّارة أجرة وقفلت عائداً إلى منزلي في الحال .

في مساء ذلك اليوم عرجت على عيادة طبيب ، ولم يتوان الرجل عن فحصي . وبعد سلسلة من المعاينات أكّـد أنّني صحيح البدن ، وليس ثمّة ما يدعو إلى القلق . إلّا أنّـه قبل أن ينتهي من فحصه ، حدّق ملياً في حذائي ، ثم نبّـهني بأنّني أحكم ربط شريط الحذاء بشدّة ؛ وقال مقترحاً علي ّ :
« أرخِ شريط حذائك ، أو فلتفتح العقدتين ، وانهضْ لتمضي ماشياً أمامي » .
فعلت ذلك ، ورحت أذرع العيادة ذهاباً وإياباً ، مستعرضاً مسيري أمام الطبيب .
بعد أن أرخيت شريطي الحذاء ، ومشيت به على هذا النحو ، أحسسّت بما يشبه سعة في حجمه ، وكانت الحالة ، على وجه الدقّـة ، تخصّ عقبيّ قدميّ ، اللذين راحا يتحركان حركةً حرّةً ، كما لو أنهما يريدان الانفلات خارجاً . وفي أثناء إحدى استداراتي ، وبينما الطبيب مركّـزاً جمّ تفكيره على مسيري ، انفلت عقب قدمي اليمنى وأصدر الحذاء صوتاً نشازاً يشبه صوت العفطة تماماً ! .
احمرّت ملامحي ، وارتجفت في السير ، وقد تفصّد العرق فوق جبيني وعنقي من فرط الحياء والارتباك . توقّـفت مشدوهاً ، أنظر إلى الحذاء تارةً ، وإلى الطبيب تارةً أخرى ، نظرة انكسار تفيض بالحرج . ولكن الطبيب رفع بصره إليّ وطلب مني مواصلة المشي ، متظاهراً بأنه لم يسمع ذلك الصوت .
منذ ذلك المساء عزمت على تحرير أقدامي من هذا الحذاء ، على الرغم من جمال صنعه ، وروعة منظره الجذّاب . إنّك تخبر جيداً ولعي بانتقاء الأحذية الأنيقة ، وكيف أبدو دقيقاً ، بل ومزعجاً في البحث عنها . لا أحد يمتلك موهبة الانتقاء مثلي ، أظل أبحث عنها ، وأنبش في الأسواق ، كما لو أن الأمر مسألة وجود ومصير . طالما أرى أناقتي وهيبتي لا تكتمل إلّا بأجمل الأحذية . إنّني أحصل عليها بلا تردّد ، مهما غلا ثمنها .
إنّ هذا الحذاء بالذات كان الأفضل بين أحذيتي ، وأقربها إلى ذوقي ومرادي ، فضلاً عن منظره البهي ، فإنّه مطواع في قدميّ ويخفّ بي مندفعاً ، في أثناء المسير . طالما غالبني الشعور بأّنّه هو من يحملني ويمشي بي من مكان لآخر . دع عنك جميل صفاته برمّتها ، ولكن سعره كان مصيبةً .. سعر باهظ لا يمكن أن يجازف بدفعه أحد غيري بحق حذاء ! .
حالما خرجت من عيادة الطبيب استحوذت عليّ فكرة التخلّص منه ورميه جانباً . بدأت أحسّ بأنه لم يعد مريحاً ولا مناسباً . وفي باحة البيت أرخيت شريطيه ، وخلعته سريعاً ، بحركة متشنّـجة وغاضبة ، لأرميه في صندوق من الورق المقوّى ، كانت العائلة تحفظ فيه أحذيتها المستعملة . ولينمو لعلمك يا صاحبي ، إنني في أثناء خلعي للحذاء بحركتي العجولة ، سمعته يصدر ذلك الصوت النشاز مرّة ثانيةً » .




♦♦♦♦

« بعد بضعة أيام من ذلك الحدث العرضي ، خرجت إلى المقهى عند وقت الأصيل ، كنت أضع قدمي في حذاء جديد ، من مجموعة أحذيتي الباذخة . وقطعت الطريق إلى المقهى سائراً ، لأكتشف ، من دون توقّـع ، أنّني أمشي برصانة وانتظام . لم يحدث أن أخطأت في المشي ، بل كنت متحكّـماً بالطريق تحكّـم من يقود مركبةً . في تلك الساعة أمسيت على يقين من أنّ السبب في علّـتي التي شغلتني أياماً ، وأحرجتني بين يدي الطبيب ، وجعلتني في موقف لا أحسد عليه ، إنما سببها ذلك الحذاء اللعين لا غيره .
كانت المقهى التي نزجي فيها بعض أوقات فراغنا من مقاهي الذوات والأكابر ، الذين عُرِفوا بمقامهم العالي . يُهيمن على مجالسها الوقار وتغمرها السكينة . دأبت ألتقي فيها مع بعض الأصدقاء ممن شغلوا مواقع حسّاسة مثلي ، وباتوا يتمتّعون بالاحترام والإجلال .
هل بالك وفكرك معي يا صاحبي ؟ » ..
« نعم ، بالتأكيد ، أنا أصغي إليك » .
« لقد مرّ ذلك المساء أمام ناظريّ كما يمرّ خيال غامض عبر الأفق ..
حينما اختلفت إلى المقهى ، واتخذّت الركن الذي اعتدّت الجلوس فيه، حانت مني التفاتة سريعة جانباً ، لأرى بعينيّ هاتين حذاءً أسودَ يجلس منبطحاً على أحد التخوت . لم يكن يحتسي الشاي فقط ، بل كان يدخن النرجيلة أيضاً ! . حدّقّـت فيه بدهشة شابها الخوف ، لأعرف في الحال أنه حذائي الذي رميت به جانباً . كان في غاية النظافة ، وصقل جلده كالمرآة ، وغرز وردةً بيضاء فوق الفردة اليسرى ؛ وقد تحرّر من الشريطين الأسودين ، فبانت ثقوبه مثل مجموعة من العيون التي كانت تخزر بيّ خزرات يتطاير منها الشرر . منذ أول نظرة أصابني دوّار الذعر . زعزعني مرآه المباغت ، وأشعرني بالحرج الشديد ، وجرى العرق فوق كل مكان من جسدي .
طفحت في سريرتي أسئلة مرتجفة : من الذي أتى به إلى هنا ؟ .. ما الذي يفعله في مقهى محترمة ؟ .. وهل خرج لتعقّـبي أينما مضيت ؟ ..
ولأجل أن أداري خوفي ، وارتباكي ، وحيرتي ، وأمسك بزمام نفسي ، تظاهرت بالانصراف عنه ، كما لو أنّه ليس موجوداً . أدرت له ظهري ، وانشغلت بتداول أطراف الحديث مع من كان يجلس قريباً مني .
في غمرة انغماسي في شجون الحديث ، وبينما كنت استغرق في إيضاح إشكالات عملي ومهامي الجسيمة ، شقّ فضاء المقهى الغافل ذلك الصوت النشاز ، مرّةً أخرى ، منبثقاً من فم الحذاء . ران الصمت المذهول ، المشحون حرجاً ، فجأةً ، على الجالسين ، الذين راحوا يلتفتون إلى بعضهم في حيرة واستفهام . كنت أنا الوحيد الذي يعلم بأن ذلك التعبير الفج ، المُرَطّب بأقذر لعاب ، كان يعنيني وحدي من دون سائرهم .
وما أن عدنا إلى أحاديثنا ثانيةً حتّى سارع ليقول :
« لو اطّـلع الناس على مؤامراته ، لو علموا إلى أية زوايا مظلمة كنت أمضي به ؟ » .
قال ذلك وهو يشزرني بمؤخرة عينيه ، وينفث دفق هائل من دخان النرجيلة .
إذن فالحذاء الذي كان عبداً في قدمي شقّ عصا الطاعة ، وأعلن الحرب ضدي .
ولكن لماذا ولماذا ؟ وأنا الذي أعطيت مقابله ثمناً باهظاً ، وبذلت له فائق عنايتي ؟ ..

وبانتظار ما سيؤول إليه أمر الحذاء ، وخشية ملاحقته لي ، توقّـفت عن الذهاب إلى المقهى ، والتمتع بلذّات تخوته . كان ينبغي أن أحترم نفسي وأصونها . ما لبثت أن اتصلت سرّاً بأحد عمّال المقهى ، أجزلت له الأعطيات الكريمة ، وأغريته بأحلى الوعود . أردت أن يكون لي عيناً ساهرة في المقهى . ينقل لي أدق التفاصيل عن أخبار الحذاء . صار هذا العامل يعرج على بيتي ما بين يوم وآخر ، فور إغلاق المقهى ليلاً .

وبعد ثلاثة أيام أقبل علي العامل والذعر يستشيط من بين شفتيه ليخبرني قائلاً : « أنّ الحذاء بات يقود طابوراً من الأحذية .. أحذية خطرة لم تعد عزلاء .. فرقة كثيرة العدد من كل أنواع الأحذية ، وألوانها ، وأحجامها ، وحتى الأحذية النسائية بكعوبها الواطئة وكعوبها العالية ، وعلى الرغم من تنوّعها لكنّـها تتشابه جميعاً بنظراتها الغادرة . عجّ المقهى بهم وضجّ . مُخيفون ، وصِداميون ، وجريئون ، إنما هم مستهترون ، يخشى المرء الوقوف بوجوههم .
إنهم يحيطون بحذائك المارق كما تحيط حاشية ضارية بملك من الملوك .
يجلس في وسطهم ، وقد تأنّـق بشكل يفوق التصوّر . يضع جنبه صحيفة مطوية بعناية ، ويقحم في أعلى الفردة اليمنى قلماً ذهبياً ، هل يقرأ حذاؤك ويكتب حقّـاً يا سيدي ؟ .. يجلس وقد غمر جلده بأذكى العطور الشذيّة ؛ يتمنطق في كلامه كما يتمنطق رجال السياسة والمثقفون ، غريب يا سيدي أمر هذا الحذاء ، كيف تسنّـى له معرفة كل هذا ؟ ..
لقد تقرّبت إليهم وجاملتهم ، من أجل عينيك يا سيدي لا أكثر . ومع ذلك لم أستطع تبيان ما كانوا يتهامسون به . إنّهم سرّانيون ، يشبهون فرقة باطنية ، وكان حذاؤك ذا سطوة عليهم ؛

حالما يدقّ الأرض بكعبيه مُنَبّهاً ، تُخرس جميع الأصوات الهاذية ، وتنشدّ الأذهان إليه . ويروح يلقي بتعاليمه إليهم ، ويزقّـهم بوعوده زقّـاً .
أرجو عفوك يا سيدي ، إذا أخبرتك بأنه يتشبّه بك ، ويحرص على تقليد كلّ شيء فيك . إن اسمك لا يسقط من لسانه ليل نهار . تأكّد لي أنّـه يترسّم خطاك ، ويحلم أن يكون كما تكون عليه اليوم » ..


♦♦♦♦



« تعاقب إقبال عامل المقهى على بيتي بوجهه النحس ، وهو لا يحمل لي سوى الشؤم ، وكنت أدفع له في كل مرّة عطاءً مجزياً ، وأشيّعه بوجه من ابتاع المصائب . وعصر هذا اليوم جاء على غير عادته ، بملامح أشدّ اكفهراراً من أي وقت مضى ؛ بل أن صفحة وجهه كانت زرقاء اللون حقيقة ً ، حتّـى يُخيل إليك أنّ عقرب رمل قد لدغه . وقبل أن يجلس ليلتقط أنفاسه ، بل قبل أن أقول له هاتِ ما في جعبتك من الأخبار ، ناح بأعلى صوته قائلاً :
« إنهم يتآمرون ضدّك يا سيدي ، حذاؤك مصرّ على الإطاحة بك ، إنه يروم أن يشغل موقعك اليوم قبل غدٍ ، من يجرؤ على التآمر للإطاحة بسيادتك غير حذاء حقير ؟ » ..
ثم هوى بين المقاعد منتحباً .
ها أنذا يا صاحبي بعد سنين من العز أصبحت أشعر بالخيفة والخيبة ، وهرعت إليك ألتمس النصح والحيلة للعبور من هذا النفق المعتم ، الذي أقحمت نفسي فيه غفلةً ، واغفرْ لي يا صاحبي إذا قلت لك أنّ من الأصلح للمرء أن يمضي حياته حافياً من أن يرافق هذا النوع من الأحذية » .
نظر صاحبي في وجهي بمزيد من الدهشة ، التي تبدو مضحكة أكثر من أي شيء آخر ، وكانت عيناه خاليةً من الضياء ، وقال لي بأحرف خائرة ، واهنة الإيمان :
« عن ماذا تسألني ؟ .. أرجو منك المعذرة إذا أخبرتك بأنّ هذا ما ليس بوسعي أن أعثر له على جواب يناسبه ، فما من أحدٍ منّـا بعد يقدم على الوقوف بوجه ثورة حذاء ! » .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا