الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجلموق

كمال عبود

2017 / 5 / 12
الادب والفن


الجلموق (* )
-1-

في قريةٍ على أطراف البادية ،قرب سبخةِ ماء واسعه ، نمتْ حولها أشجارٌ بريّه وأدغال قصبٍ وفي حارة القريه القبْليّه ، يعيش ميهوب ، وميهوب هذا قليلُ القَدْرِ في تفكيره ومجلسهِ وسلوكهِ .. مُهملٌ لِنفسهِ وقليل المرؤه واتكاليُ على الآخرين .. قليل العطاء ، يُكثرُ التجوال عند ذاكَ وذاك كي يظفِر بشيء ما ، ... ويظنُ أَنَّهُ ذو شأنٍ كبير ..
هو ميهوب الذي يُعرف من بعيدٍ بمشيتِهِ ،حيث يبدوا وكأنّهُ يضرب الهواء بيديهِ ... حين يسير يرفع يدهُ اليمنى عالياً ويهبط بها سريعاً على جانبه كأنَّما يَضْرِب بها ، ثُمَّ يرفع اليسر ى ويصفع الهواء بها ، ....
ميهوب هذا لا يتقن عملاً سوى صيد العصافير ب( النقيفه)*_ و( الدبق) .. أيام الربيع يخرجُ إلى الحقول ويأتي بصيدٍ وفير من العصافير التي يعرف اشكالها وأسمائها ، ويبيعها مزهواً : لا تكلّفني أي ليره .. تجارتي ما بدها مصاري ولا دكان ..
لكنَّ الصيد يقِلُ كثيراً في الفصول التأليه ، والسيّد ميهوب الذي صار شاباً يتحسسُ جيوبه فيراها فارغةً لا نقود بها ،فينزوي في مكانٍ ما وحقلٍ ما ..
ظلّ هكذا سنوات إلى أن جاء يوماً قال له رفيقه أحمد : روح يا ميهوب نتطوع في سرايا النضال ...
قال ميهوب : شو يعني سرايا النضال ...؟
قال أحمد : يعني منصير عساكر .. نأكل ونشرب ونلبس .. وناخد مصاري كتييير كل شهر .

وتطوّعَ ميهوب ... غاب أشهراً ستّه ورجع إلى القريه نشيطاً لابساً ثياباً عسكريه ، .. رجع وما زال يخبط الهواء بيديه حين يمشي .. صار يشترى من دكان علي العيس كثيراً من الحاجات والأغراض ويمشي بها مزهوّاً ومختالاً ويُغني بأعلى صوتهِ كي يُرى الآخرون.. ماذا اشترى وكيف أصبح حاله ..
أنهى إجازتهُ الأولى وغادر القريه ... وبعد أشهرٍ أُخرى عاد في إجازه وقرّرَ الزواج .. وتزوّجَ في إجازته الثالثه مِصرٌاً أن تكون بذلة العرس هي بذلتهُ العسكرية ، في رحلة العودة مع العروس ألى حيث منطقة عمله تأبّطَ بذراعه الطويلة كتف العروس وسار بخيلاء إلى الكراج. حيثُ باص ( الهوب هوب )*
امتلأ الباص وكان جلوسه مع العروس في المقاعد الأخيره ..
وظنَّ السيُّد ميهوب أنَّ كل من الباص ينتظر قدومهُ وينظرون إليهِ وإلى عروسه ء....... لكنَّ أحداً لم يلتفتْ إليه ....
صار يحكي مع ( جميله ) بصوتٍ عالٍ عن البيت والأهل ولكنّ هدير محرك الباص الذي انطلق طغى على صوت ميهوب ... ولم يلتفت إليه أحداً ...
أغتاظ ميهوب في داخلهِ .. لماذا لم يعره أحد أهتماماً ... ألا يعرفون أَنَّهُ تزوج وهذه - جميله- معه ، ..؟ ألا يعرفون أَنَّهُ يأخذ راتباً كبيراً مثلهم .. ألا يعرفون أنّ لَهُ في بيتهِ برٌاداً وتلفزيوناً ..؟
لكنّ أحداً لم يلتفتْ إليه

تأوّه .. تنهنه .. سعلَ .. تحرّك بين المقاعد .. في الممر داخل الباص جيئةً وذهاباً ، .... كل واحد في الباص مُهتمٌ بنفسه..
أخيراً قرّر ميهوب أن يُلفتَ النظر اليهِ .. .. مشى من آخر الباصِ إلى أوّلهِ ، عند السائق .. أدار وجهه صوب الركاب .. لملم نفسه وصاح بأعلى صوته كي يسمع الجميع :
جميله .... يا جميله .. بدّك خلّي السائق يوقف الباص منشان تبولي .. إذا بدك تشخي قولي ، ..؟ شو ...؟
بعض الركاب ابتسم في سرَّه والبعض الآخر صار يتمم بكلام غير مفهوم
.........

بعد عشرين عاماً صار المساعد أوّل ميهوب .، آمراً ناهياً في مكان ما من هذا الوطن ويقول أحدهم أنّ ( الجلموق) صار أميراً مُلتحياً لأحد الجماعات المسلحه في الحرب ... وصار ثريّاً أيضا
وربما مفاوضاً يملي كتابة دستور جديد ،
*****

-2-

وهذا الأزرق الجميل ... العميق المهيب .. تجلسُ على صخرةٍ عاليةٍ عند شاطئه مُتأمِلاً نقطةً على صفحتهِ ، تُحدّقُ فيها ... تغوص نظرتُكَ .. تتماهى نفسكَ مع هذا الغامقُ في زرقته ، وتستأنِس نفسك وأنتَ تسحب رؤيتك إلى خطٌّ التلاقي، حيث يلتقي الأزرقين ، البحر والسماء ، تعود إلى منزلكَ وقد شبعتْ .. وامتلأت هدوءاً وراحةَ بال .
تعودُ كرّةً أخرى إلى حيثُ قمّةَ جبلٍ أعتدتَ عليه ،فيسحرُك هذا الأخضر الغامق والموشّى بلون الذهب ، .. تُمعن في ذوائبُ الأشجار وهي تنحدرُ إلى الوادي البعيد ثُمَّ يصعدالأخضرُ الى جبلٍ آخر .. تقضي ساعةً من الزمن هي .. هي ساعةٌ جَنَتْ فيها النفس وقطفتْ فاكهتها فأسرّتْ وسُرَّتْ .
وعلى سطح منزلك تنظر مساءً لذاك الأجوانيُ الممتد في الأفق ،وبرتقالة السماء تضحكً وتبتسم ، - أما رأيتَ الشمسَ تبتسم في أفق الوطن .. أما رأيتَ برتقالة السماء وذاك الطيف الورديُ صباحاً ومساءً .. وراء تلك السهوب الواسعة في أرضٍ يُقال لها بلاد الشام ..
نحن كنّا وما نزال أثرياء بجمال الكون ، أغنياء بهذا المتنوّع في الطبيعة ، ونحن لنا الكتاب الخاص واللحن الخاص والرؤية الخاصة للكون والإنسان ..
-------

فيما مضى كانت حياتنا بسيطه ،هادئه ، عفويه متسامحة ،،تتناغم مع ما هو ممكن ، مع الأصيل في الثقافة والاخلاق ، ونعمل للأجمل والجديد.. نتناغم مع الأزرق والأخضر والوردي ... مع الأحلام .
ما أقلقَ حياتنا ، ما ازال عنها بعض شفافيتها.. وسلاستها وطيبتها .. هو أمثال هذا ( الجلموق ) - فادي ع - وحكايته أنٌه كان يعيشُ في اسرةٍ فقيره ، عيشَ الكفاف ، أحتضنه الكرام من بيت جدّه الفقير ، لملموا شعث الأولاد ، في غرفةٍ واحده ، ثمّ عاشوا في غرفةٍ في مدجنةِ طيور الدجاج ، ثمّ كغيرهم في بيتٍ متواضع ..
كبرت الأسره وكبر فارس ولم يفلح في دراسته وخرج الى العمل ، وساعده أحد أقرباء أمه الذي يعمل في جهازٍ أمنيّ، لكنّ فارس لم يقتنع بفشله في الدراسة ولم يرَ نفسه إِلَّا ندّاً للآخرين ، ولكي يثبتَ قناعته اتبع كل دنيء مستغلاً عمله .. سرق ونهب ونصب حتى صار ذَا مالٍ ، ... اشترى سيّارةًٍ تّضاهي غيرها ، اشترى محالاً تجاريّه واراضي .. صار غنياً وتزوّج واشترى بيتاً ،
لم يستطع عقله أن يتحمل وأن يكون لجاره في البناء المجاور بلكوناً أوسع من بلكون شقتهِ ... كيف ..؟ هل يُعقل ..أنا صاحب هذا الثراء ... لا .. لا .. ؟
. لم يستوعب أنّ أحداً في الحي يضاهي فرش بيتهِ وتجهيزه أو بلكونه فقرر الانتقام، ليهدم بلكون جاره الذي تجاوز قليلاً في البناء ،
بعضهم قال : هذه تربية المؤسسه التي عمل بها ، والآخر قال إنّه سيرضي زوجته المتعجرفة ، وآخر قال هذا هو طبعه وفطرة الشر عنده ،هناك من يساعده ... مافيات كثيره ... في كل مرفق مافيات .. كبيره وصغيره ،تعمل في السر والعلنْ .
قلتُ لجاري : ما رأيك ..؟
قال : إنّه زمن الفساد . إسمع يا صاحبي ...
عمل أحد عملاء مخابراتٍ دولةٍ عظمى في دولة معاديه سنوات طويله .. عشرون عاماً ومهمته واحده : كان يضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب.. ... وكان عمله وأثره التخريبي للدولة والمجتمع من أحد أسباب سقوط وتدهور هذه الدولة ..
وقال جار آخر : في الزمن المعكوس كل شيء رهن الغطرسه ، غطرسةُ القوّه وأصحاب الربح عن طريق القوّه .. حتى الشهاداتْ الجامعيه تُشترى بالمال ، ...
المناصب تُشترى أيضا ، حتى الذمم ..والأخلاق .. لا تستغرب ... حتى بعض السياسيين و( المثقفين ) باعوا الوطن للخارج ، الحذر يا صاحبي من هؤلاء الذين ظهروا كالفطور السامّه ، الذين بنوا القصور ... أسسّوا لعصابات تقطع الطرق على الشرفاء . ...بنوا أمجاداً زائفه وهم في الأصل ( جلاميق ).
------
لا تبيعوا ولا تشتروا من أمثال هذا الجلموق

*****
-------
* الجلموق : كلمه أظنها تركية تعني قليل الشهامه والمكانة
* هوب هوب : باصات نقل عام بين المحافظات قديمه وبطيئة
* النقيفه عود خشبي له في رأسه فلقتان يربط بهما قطعتا مطاط متصلتان ترمي بها احجار صغرى لصيد العصافير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع