الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لغة واحدة ، أم لغتان ؟ ( ج3 )

عضيد جواد الخميسي

2017 / 6 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الألواح والرقم الأثرية العربية الشمالية
تشير المصادر التأريخية الى تحالف الأمير العربي " جندب " لـ " هدد عزيز" ملك دمشق الآرامي لمواجهة الملك الآشوري " شلمناصر الثالث في الحرب التي شنها الملك الآشوري 851 ق.م شمالي حماه في موقعة " القرقار". وقد أشار علماء الأثريات الى الرُقم التأريخية التي ظهرت نتيجة التنقيبات في المواقع العربية الأثارية الى العلاقات المتداخلة ، ومما يؤيد حجم العلاقة بين العرب والآراميين .
فهذه قبائل ثمود وما حولها في شمال الحجاز ، حيث لاحظ خبراء اللغات السامية أن خطوطها وتعابيرها كانت مستعملة عند قبائل عربية أخرى , كبلاد نجد وهضاب طور سيناء , ولا يُعلم هل انتقل هذا الخط من الثموديين الى تلك المناطق أو القبائل ؟ أو أن الثموديين أخذوا منهم ؟ . ومهما يكن الأمر فالمهم هي وجودها لا أماكنه .

وأهم رقيم من الرُقم الثمودية ، وتأريخه سنة 156 م ، كان مزيجاً من الكلمات العربية والآرامية . و حسبما ما ذكره عالم اللغات الألماني "اينو لتمان "
والذي فكّ رموزه ، والنص كالتالي:
(( دنه قبور صنعه كعبو برحرتب للقص برث عبد منوتي أمه دو هلكت في الحجر شنة ماه وشتين وترين بيرج تموز ، ولعن مرى علما من يشنا القبور ومن يفتحه حشى يلده ، ولعن من يغير دا على منه )) .
وترجمته الى العربية :
(( هذا القبر صنعه كعب بن حارثة للقيط بنت عبد مناة أمه التي هلكت في الحجر سنة مئة واثنتين وستين من شهر تموز ، ولعن رب العالمين من غيّر هذا القبر ، ومن فتحه يمس بأولاده ولعن من غيّر الذي كتبه اعلاه ...)) .
في هذا الرقيم ثمان وثلاثون كلمة ، عشر كلمات منها آرامية صرفة ، والبقية عربية وثمودية .
فالكلمات " بر ، برث ، شنة ، شتين ، ترين ، بيرح ، شنا ، وحشى " كلها كلمات آرامية ، وما عدا ذلك ففي هذا النص ورد عدد السنين بالاسلوب الآرامي وهو تقديم العدد الكبير على الصغير كقوله ( شتين وترين ) ، وعن الآرامية أخذت العربية هذا الاسلوب في العدد واستعمله العرب القدماء كثيراً .
ولدى تأمل بسـيط في هذا الرقيم نجد العربية والآرامية متّحدين فيه كأنهما لغة واحدة . وقد نجد رُقماً أخرى غيره قد أخذت هذا المنحى ، وربما نفس الشيء ينطبق على اللغة العبرية ، فمزج بين اللغات الثلاث العربية والآرامية والعبرية . ولكن مما لا شك فيه أنه في القرن الرابع الميلادي كانت اللغة الأدبية لم تزل اللغة الآرامية.

وهنالك في منطقة بين جبل الدروز وتلول أرض الصفا ( تسمى الحرة ) وُجدت كتابات عربية كثيرة اتفق علماء الساميات على ان يصطلحوا عليها ( الكتابات الصفوية ) نسبةً الى الصفا حيث عمل الكثير من المستشرقين فجمعوا قسماً كبيراً من هذه الكتابات وعرفوا أبجديتها ، ولكنها بقيت غامضة الى أن زارها العالم ( ليتمان ) وجمع منها أكثر من الف وأربعمائة كتابة ، وعاد الى بلاده المانيا ودرسها ، فتوصل الى نتائج هامة عجز عنها غيره ، فحلّ جميع رموزها وفك طلاسم أبجديتها التي تتألف من ثمانية وعشرين حرفاً كما هي في العربية . ويعتقد ليتمان ان هذه الكتابات ترجع الى القرون الثلاثة الاولى بعد الميلاد ، وعرف ان أصحابها كان لهم اتصال بالحضارات المعاصرة لأنهم يؤرخون بحوادث مشهورة كحروب النبط ، أو حرب الفرس مع الروم ، أو تاريخ بصرى.
ان الكتابات الصفوية هذه هي بلا شك كتابات عربية الا أنها تحوي كلمات آرامية كثيرة ، وتذكر آلهة آرامية واصطلاحات آرامية لا عهد للعربية بها .
ففي أحد النقوش الصفوية مثلاً كلمة ( داد ) معناها ( عم ) وهذه مادة آرامية قديمة .
وكذلك هناك في نقش آخر اسماء آلهة آرامية مثل ( بعل شمين ، اوشر دسر و وشيع القوم ) . ومعنى ( بعل شمين : آلهة السـموات ) و ( أوشر دسر : حارس المزروعات ) ، و ( شيع القوم ) من آلهة الأنباط وهو لا يشرب الخمر ( دى لاشتا حمر ) . وقد اختلف المستشرقون في معنى هاتين الكلمتين ، فذهب ( ليتمان ) الى أن الأولى ( آرامية ) والثانية ( عربية ) . وقال غيره أنهما عربيتان .
والملاحظ ان ليتمان وجد في هذه النقوش مادة آرامية لا تمت الى العربية بصلة ، وهذا ما يؤيد تلاقي اللغتين العربية والآرامية في هذه المنطقة أيضاً شأنها في غيرها . وان ليتمان وجد في تحرياته الكثيرة للهجة الصفوية هذه مادة غزيرة غير مألوفة في العربية ، أخذت من الآرامية والعبرية ، ولاحظ أسماء أعلام كثيرة غير معروفة في العربية . كما وجد أفعالاً غريبة عن العربية ، وأساليب أعجمية كلها استمدت من الآرامية او العبرية أحياناً.

اكتشف الأثريان فريدريك ماكلير Fredric Macler ورينيه دوسو Rene Dussaud نقشاً مهماً آخر في منطقة الحرة نفسها ، في وادي الشام بالنمارة ،وذلك في الرابع من نيسان سنة 1901 ، وهذا النقش بالأبجدية النبطية وباللغة العربية تتخلله بعض كلمات آرامية ، حيث جاء فيه :
1 – تي نفس مر القيس بر وملك العرب كله ذو أسر التاج .
2 – وملك الأسدين ونزارو وملوكهم وهرب مذ حجو عكدي وجاء .
3 – بزجاى في حبج نجران مدينت شمر وملك معدو ويمن بنيه .
5 – عكدي هلك نة 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده .
و ترجمته الى العربية :
1 – هذا قبر امرىء القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي عقد له التاج .
2 – واخضع الأسدين ونزاراً وملوكهم وهزم مزجج و ( منعه أو عطلّه أو صدّه ) وجاء .
3 – شتت ( بزج ) وأسقط نجران مدينة شمر واخضع معداً وسلّط بنيه .
4 – ( على ) الشعوب فسموا الى العلى فلم يبلغ ملك مبلغه .
5 – وذريته وهلك سنة 322 في اليوم السابع من شهر كسلول ( كانون الاول ) . فليسعد الذين خلفهم ( فليسعد ولده ) .

الألواح والرقم الأثرية العربية الجنوبية
اذا تقدّمنا صوب الجنوب ، اي في ارض الجزيرة العربية ، نجد هناك مدينة كاملة آرامية وعربية هي مدينة الأنباط التي ظهرت في شبه جزيرة طور سيناء على أنقاض المملكة الآدومية ، وكانت عاصمتها ( سلع ) وهذه كلمة آرامية وعبرية معناها " الصخرة الناتئة ". واصطلح عليها الاغريق " بترا " كما عرفها العرب بـ ( البتراء ) ، حيث توسعت مملكة الانباط ( او النبط او النبيط ) فانحدرت الى بلاد الحجاز من جهة ، ثم صعدت شمالاً حتى بلغت الصحراء السورية وشملت دمشق ووصلت الى أطراف نهر الفرات .
تاسست هذه المملكة ما بين القرنين الرابع والخامس ق. م وأجهز عليها الرومان سنة 106 م ، حيث لعبت أدواراً هامة في التاريخ العربي .
يعتقد علماء الساميات ان النبط خليط من اقوام آرامية وعربية . لانتشارهم في بلاد عربية واسعة حتى عرفت مملكتهم في طور سيناء باسم "بتراو العربية" .
ولأن لغتهم الآرامية تتخللها ألفاظ عربية كثيرة ، ولوجود أعلام كثيرة شبيهة بالعربية في تاريخهم ، وكذلك أسماء الأصنام العربية .
أما لغة حضارتها فهي الآرامية رغم تغلب العناصر العربية على العناصر الآرامية المؤسسة لهذه الدولة في أيامها الأخيرة ، واذا أضيفت الى كل أسماء الأعلام المستمدة من العربية : كأذينة ، وعبده ، وأوس ، وأسد ، ومعن ، وجزيمة ، وأوس ، وعمرو ، وعمر ، وعميرة ، وبرغوث , وبكر ، وحنضل ، ورجب ، ولظم ، وكعب ، و وهب . (وقد ذكرها جميعاً ليتمان في بحثه في الأعلام النبطية بالاضافة الى جملة أعلام مستمدة من مصادر يونانية ورومانية وفارسية ) .
لذا يمكن القول بأن اللغة العربية سارت مع الآرامية في هذه المملكة جنباً الى جنب كل تلك المدة الطويلة ، وتأثرت كل منهما بالأخرى ، وانها لألفة طويلة المدى استطاعت أن تقدم للتاريخ مدينة خاصة آرامية عربية أو عربية آرامية .
وقد قررعلماء الساميات أن لغة النبط الآرامية والأبجدية الآرامية واتصالها بالعرب اتصالاً مباشراً أثّرت تاثيراً واضحاً في الحضارة العربية الوثنية القديمة ، وأفادت منها اللغة العربية فوائد جمّة في شمال الجزيرة .
ووجدت آثار اللغة النبطية ( الآرامية والعربية ) في جميع المناطق التي تبوأتها هذه الدولة ، وظهر بعضها في منطقة بصرى الشام ، وبعضها في منطقة البتراء نفسها ، وبعضها الآخر في منطقة العلى بالحجاز ، وهي آثار متشابهة الاّ ان الرُقُم المكتشفة في بصرى تمتاز عن بقية الرُقُم بظهور مسحة رومانية عليها ، وهذا لا يشوه كيانها الخاص الآرامي العربي . ويستدل من هذه الآثار على أن اللغة الآرامية ، وان تخللتها عناصر عربية هامة قد حافظت على كيانها ، بل طبعت العناصر العربية بطابعها الخاص . مما أدى الى إمداد العربية بمادة آرامية غزيرة . واقدم الرُقُم النبطية يعود تاريخه الى سنة 33 ق. م . وأحدثها بعد زوال الدولة سنة 106 م .

درس " ليتمان " آثار النبط دراسة دقيقة ، وخرج بنتائج هامة تاريخية ولغوية ، ومن هذه الآثار :

رُقيم فهر وجزيمة :
يتكون هذا الرقيم من ثلاثة أسطر قصيرة . وقد وُجد في " أم الجمال " في شرقي الاردن ، وذهب ليتمان الى أنه دوّن في عهد غير بعيد من العهد الذي دُوّن فيه رُقيم النمارة ، وقريء في الأصل وترجمته كالتالي :
الأصل وترجمته
1 – دنه نفشو فهرو .......... 1 – هذا قبر فهر .
2 – برسلّي ربو جزيمة . ....... 2 – ابن المحارب العظيم
3 – ملك تنوخ .........3 – ملك تنوخ .


وهنالك لون جديد آخر من أنماط اللغة في المدينة الآرامية العربية ، وكما يظهر في آثار مدينة تدمر ، وهي احدث عهداً من المدينة النبطية ، فان نقوشها الأثرية لا تتجاوز القرن الأول قبل الميلاد ويمتد تاريخها الى القرن الثالث الميلادي .
ان كلمة “ تدمر أو تدمور " آرامية معناها " الأعجوبة " ، وهي من المدن القديمة جداً ، وكانت روما سيدة العالم القديم آنذاك تهاب جانبها فمنحتها حقوقاً خاصة لم تمنحها لغيرها من مدن الشرق الخاضعة لسلطانها .
وقد كانت القبائل التدمرية من العنصر الآرامي امتزجت به بعض العناصر العربية ، وهو ما أبقى من لهجتها الآرامية آثاراً عربية بيّنة ، كما اثّرت لغتها الآرامية باللغة العربية تاثيراً مهماً .
ظهرت معظم الآثار التدمرية في منطقة تدمر ، ووجدت نقوش تدمرية في افريقيا ، روما ، المجر وانكلترا ، لأن كثير من التدمريين تطوعوا وانضّموا الى صفوف الجيش الروماني .
ومما تجدر الاشارة اليه أن الباحث البريطاني " ولفنسون " ذهب الى أن لغة تدمر " تشبه اللهجات الغربية الآرامية على أن الفاظاً كثيرة كانت في نطقها قريبة من النطق المألوف في الآرامية الشرقية " .
ان لغة تدمر الاولى ، وان كانت خالية من الالفاظ العربية ، بعكس اللغة النبطية , لكن هناك اعتقادا بان عناصر عربية دخلتها بعد امتزاج العناصر العربية بقبائلها الآرامية ، وعلى الأخص بعد سنة 272 م حينما انتهت سيادة المدينة بأسر ملكتها " الزباء " ، اذ كثرت العناصر العربية رويداً رويداً ، وتحوّل الشيء الكثير فيها الى اللون العربي . ومن الطبيعي ان تتأثر اللغتان الآرامية والعربية بهذا التمازج العنصري الشديد .
وقد درس علماء الساميات لغة تدمر الآرامية دراسة وافية ، واستنتجوا منها عناصر لغوية وتاريخية هامة ، وأشهر الذين درسوها ونشروها " ليدزبارسكي "، " وكلير" و "مونكانو " ، و " وود " الذي نشر رُقماً تدمرية هامة , و " دي فوغويه " ، وغيرهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص