الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قرصنة في جنح الظلام

أمير أمين

2017 / 6 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


في الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول عام 1977 كنت قد التحقت ومجموعة من أصدقائي بمركز تدريب المشاة في كركوك كجنود مكلفين لإداء الخدمة الاجبارية..بقيت بضعة شهور هنا ومن ثم تم نقلي الى محافظة ديالى في منصورية الجبل لصنف الدروع والتدريب على ناقلة بي أم بي وان وهي روسية الصنع صغيرة ولها فاعلية قتالية جيدة وقد إستخدمها الجيش السوفييتي في الانزال على جيكوسلوفاكيا عام 1968 , كانت المهام فيها تتوزع بين السائق والرامي والمخابر فتم تشخيصي للرماية وقد تعلمتها بالمدة المقررة ولكن قبل إنتهاء الدورة التدريبية تم طردي منها لأسباب سياسية بعد اللقاء بي من قبل ضابط التوجيه السياسي للوحدة العسكرية والحديث معي عن إنتمائي السابق حينما كنت مدنياً وتحريم ذلك في العسكرية ..الخ..ونقلت الى مدينة جلولاء لكي التحق بفصيل المقر كعنصر غير مسلح وكان يسمى حينذاك سلاح سز..! وفصيلنا كان يحتوي على أكثر من عشرين فرد فيهم عدد من فاقدي العين اليسرى أو اليمنى وشخص شبه مجنون وآخر يتكلم كلمة واحدة أو كلمتين في اليوم وتبين لي أن معي كان شيوعيان أحدهما من كربلاء والآخر من الحلة وأيضاً كان معي أحد عناصر حزب الدعوة وهو معنا من المغضوب عليهم وكان خريج كلية الهندسة وهو هاديء ومؤدب وطيب جداً وصار صديقي على الرغم من أننا نعرف توجه الآخر السياسي ..كان عملنا في هذا الفصيل هو أن نقوم منذ الصباح بخلط التبن مع التراب والماء ونضعه في قوالب خاصة ونعمل قطعاً كبيرة من الطابوق نضعها على الأرض بشكل قريب عن بعضها لكي تجف تحت أشعة الشمس ثم نقوم بعد عدة أيام بالعمل لبناء قاعة جديدة , ثم تسقط القاعة التي شيدناها بصعوبة في أول زخة مطر وعاصفة هواء حتى لو كانت صغيرة فنقوم في اليوم التالي بجمع القطع المتناثرة ونعمل بها قاعة أخرى بالاستعانة بقطع جديدة سبق وأن قمنا بعملها من خلال وضعها بالقوالب وتسقط القاعة وهكذا , أي أن عملنا كان كعمل سيزيف حينما كان يقوم بتصعيد الصخرة الى أعالي الجبل وحينما يبلغ الذروة تسقط الصخرة من بين يديه فيقوم بإعادتها ويصعد بها للجبل وتسقط ويعيدها وهكذا ..وكان نائب العريف وهو من أهالي الديوانية يتودد لنا ويلعن رئيس عرفاء الوحدة على الاعمال التي يطلبها من فصيلنا ويضعه كحارس علينا لحين تنفيذها بدقة وسرعة ..! كان هذا الشخص ضعيف البنية متوسط الطول يضع على متنه إشارة خضراء تدل على أنه نائب ضابط وقد تم ترفيعه حديثاً بعد أن كان برتبة رئيس عرفاء وهو أحول و بالكاد يعرف أن يكتب أسمائنا من خلال قلم رصاص صغير جداً كان يحمله بين أصابعه النحيلة ..وهو من اهالي الفرات الأوسط عربي الجنسية تم جلبه لجلولاء كجزء من سياسة تعريب المنطقة والتي كان يسكنها الاكراد والتركمان وأيضا العرب ولكنهم كانوا أقل من الاكراد . ومنح هذا الشخص قطعة ارض وسارع ببناء دار عليها وكان العمال هم الجنود الذين يقاضيهم بمنحهم إجازات إضافية , أما مواد البناء فأغلبها كان الجنود يسرقوها له أو تأتيه كهدايا من عدد منهم لغرض الإجازة وأن يبقى راضياً عنهم ....إستمريت في هذا الفصيل ومع نائب العريف صديقنا ومع رئيس عرفاء الوحدة الحرامي الأمي الذي أغدق بالإجازات على رفيقي غالب الذي كان يجلب له زنبيل مملوء بالرمان من بستانهم في كربلاء فأحسده على ذلك وكون بيتنا توجد به حديقة صغيرة فيها بضعة أشجار متناثرة لا تفي بالغرض فيضحك ويقول ..راح أخلص الرمان عليه لكي أرى زوجتي وبنتي حديثة الولادة ..وعند ظهيرة أحد الأيام استدعاني رئيس عرفاء الوحدة هذا لغرض ما ..! دخلت عليه ولم أتوقع شيء ولكني وجدته قد إستدعى خمسة جنود آخرين معي للحديث حول مهمة سرية جداً سنقوم بها هذه الليلة..علماً أننا كنّا من غير المسلحين فأية مهمة سنقوم بها يا ترى ..كلمت نفسي والحيرة سيطرت على مخيلتي ..! إبتدأ حديثه قائلاً . أنا إخترتكم يا أولاد الملحة لأنكم سباع وهناك مهمة شاقة شوية تنتظركم هذه الليلة وواصل كلامه قائلاً إذا نجحتم في تنفيذها وأنا متأكد من ذلك فسوف أعطي لكل واحد منكم إجازة لمدة أسبوع زائداً مساعدة الخميس والجمعة يعني لكل واحد منكم حوالي عشرة أيام يقضيها عند أهله ويرتاح ..! ثم أردف مكملاً كلامه , وأن نائب عريف فلان سوف يأخذكم للمكان المعين وإذا سمعتم نباح الكلاب فلا تهتموا لها وواصلوا عملكم بهمة ونشاط وسرعة .. وقال أن نائب العريف هو سائق سيارة الإيفا التي ستقلكم للمكان وكان هذا النائب عريف تابع للفصيل لكننا لا نحتك به لأن عمله خاص وغير مرتبط بعملنا اليومي وهو من الأكراد المطيعين خاصة لرئيس عرفاء الوحدة وأكيد أن الإجازات تنهال عليه كالمطر ..! صرت أتعجب من طبيعة المهمة وقلت لرئيس عرفاء الوحدة سيدي ممكن نعرف جزء من عملنا قبل الشروع به ..رد مسرعاً عبد الأمير لا تستعجل فأن نائب العريف فلان حينما تصعدون معه بالسيارة سيوضح لكم كل شيء ..لم يسأل البقية بعد أن طلب منّا الانصراف وعدم التكلم بما قاله لنا ..على أساس هذه أسرار عسكرية ! المهم عند الساعة الثانية فجراً جاء نائب العريف السائق وقام بإيقاظ الأسماء التي لديه من ولد الملحة , كنت في حالة من النعاس والتعب الشديد بالإضافة الى برد شهر نوفمبر من عام 1978..تجمعنا قرب سيارة الايفا العملاقة ونحن نرتجف من البرد فوزع علينا نائب العريف بعض الاغطية وقال ..إصعدوا في حوض السيارة وسيكون البرد شديد حينما ننطلق فضعوا هذه الأغطية فوقكم ..! وحاولت أن أستفسر منه عن طبيعة المهة لا سيما ونحن جميعاً لم نحمل سلاحاً ولم نحمل حتى سكاكين أو أي شيء نقاتل فيه أو نستخدمه للدفاع عن النفس ..! لم يلتفت لي نائب العريف لكنه بأدب قال لي إصعد أستاذ وبعدين تعرف ..كنت حينها أقوم بتدريس الجنود وضباط الصف دروس محو الأمية في الوحدة كل يوم عصراً حوالي ساعتين ..إنطلقت السيارة بسرعة جنونية وكدنا نموت من شدة البرد ولم تنفع معنا الأغطية البسيطة هذه بشيء وعند منتصف الطريق توقف السائق ونزل وتكلم معنا بإختصار عن المهمة العسكرية المكلفين بها ..! بعد أن عيل صبري وقلت له .. ما المهمة لا سيما ونحن معك هنا من دون أسلحة أو أي نوع من أنواع السلاح ..! تفرس بوجهي ببلاهة وقال ببساطة .. سوف نقوم فجراً أي بعد حوالي ساعتين وقبل حلول خيوط الصباح بملأ السيارة بالتبن وهو جاهز ومرتب ببالات كبيرة وكثيرة واعرف مكانه وسوف نسرقه من إحدى القرى وهو يوجد بمكان يقع قريباً جداً من حافة القرية ثم نعود بسرعة ونضعه قرب بيت رئيس عرفاء الوحدة لكي يستخدمه في إستكمال عملية بناء بيته ..!! حيث أنه يريد مزجه بالطين للسطح لكي يقوى ولا يسقط أبداً !!..فكرت قليلاً بأن هذه أسخف مهمة أقوم بها في حياتي وأخبرت صديقي غالب الذي شاركني إياها وعبرت له عن خجلي مما نقوم به ونسرق تعب وشقاء ناس مساكين وفقراء ..ضحك وقال شعلينا الذنب على رئيس العرفاء ونحن سوف نستلم منه الإجازة يوم الخميس ..! كان التنفيذ واجب عسكري الزامي ولا مجال للرفض أو حتى المناقشة خاصة ونحن على مشارف القرية وأعضاء أجسامنا ترتجف كلها من شدة البرد والناس في القرية يغطون في نوم عميق , لكن كلابهم نبحت علينا كثيراً ولم يستيقظ أحد ! ولم نسمع شيء سوى حفيف الأشجار وصفير الرياح في عتمة الليل القارص ..قمنا حسب توجيهات نائب العريف الكردي بالعمل سريعاً بنقل عشرات البالات الى جوف السيارة وطلب منّا ترتيبها بدقة وتناسق وحينما إنتهينا أمرنا بالصعود فوقها وأغلق الباب ثم إنطلق عائداً بنا قرب باب بيت رئيس عرفاء الوحدة الذي يوشك على الإنجاز والذي شيّد بالنهب وبعرق الجنود وعند شروق الشمس التقينا به وتناولنا الفطور وأبلغه نائب العريف بتنفيذ المهمة فإستبشر خيراً قائلاً ..عفية أولادي سوف أقوم بملأ الإجازات لكم اليوم بعد الدوام وتستطيعون النزول يوم الخميس...وحصلنا على إجازة لأيام معدودة لقاء هذا العمل الإجباري الوسخ والذي لم نستطع من رفض تنفيذه لأنه واجب عسكري الزامي كما قيل لنا !!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تعتزم فرض عقوبات على النظام المصرفي الصيني بدعوى دعمه


.. توقيف مسؤول في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس- لحساب الصين




.. حادثة «كالسو» الغامضة.. الانفجار في معسكر الحشد الشعبي نجم ع


.. الأوروبيون يستفزون بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال الق




.. الجيش الإسرائيلي ينشر تسجيلا يوثق عملية استهداف سيارة جنوب ل