الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في (كُنتَ الوقت ) للشاعرة هيام الأسد (السودان)

كامل حسن الدليمي

2017 / 6 / 8
الادب والفن


قراءة في (كُنتَ الوقت ) للشاعرة هيام الأسد (السودان)
كامل حسن الدليمي
لاشك أن لغة الشعر عند المرأة في أحيان كثيرة هي أقرب للنفس وأكثر تأثيرا ذلك أن الأنثى وبحكم دورها في الحياة وما هبها الخالق من عاطفة نقية تفوق عاطفة الرجل بإمكانها الغور بعيدا في خلجات النفس وأن تعبر عن انفعالاتها بدقة ومصداقية .
وفي استعراض سريع ويسير لشعر المرأة عبر العصور الأدبية المختلفة لا نجد شعرا يوازي شعر الرجل في كل الأغراض إلا في مطلع القرن العشرين حين عبرت من خلاله المرأة حاجز الخوف بعض الشيء وتخطت السائد في التنقل بين الأغراض الشعرية إلا ان الخطوات كانت مشوبة بالحذر ومحفوفة بالمخاطر رغم فسحة الحرية ورغم تغير التضاريس الاجتماعية الصعبة في الوقت الذي انحسر قولها للشعر في العصور السابقة على الندب والرثاء وشعر الحرب حين ترتجز وبعض من شعر الحكمة ولم تكسر الشاعرة كصوت جماعي حاجز الخوف كليا ، لعدم وجود ما تستند عليه لمنافسة الرجال في ميدان الشعر لان شعرها ظل يعاني من حبسة المنع زمنا طويلا . كانت المنظومة الثقافية طوال تلك العهود قد احكمت دائرتها مغيبة دور المرأة على العموم ألا بعض الشاعرات المتمردات على الواقع ومع كل ذلك فالتمرد شكل حالات انفرادية سجلت نجاحا نسبيا لكنها لم تأخذ حقها من حزم الضوء المسلطة على فنون وآداب الأمة
وان تطور هذا الفرض لدى شاعرات هذا الزمن ليصبح نزوعا مأساويا ومزاجا سوداويا، كما حدث مع نازك الملائكة وقبلها مي زيادة وباحثة البادية – ملك حفني ناصيف – وغيرهن. لنتذكر ان باحثة البادية كرست جزءا كبيرا من شعرها في رثاء ابنتها وأقاربها، وان شعرها الغزل وعلى وجه الخصوص المكتوب بالمصرية المحكية أصبح ضمن تراث الأغاني الشعبية، ونسى الناس نسبته إليها.
أما وردة اليازجي التي تقربت من شعر الطبيعة في صباها، فلم يكن أمامها بمرور الوقت سوى ان تتحول نادبة لكل من مات من أهلها ومعارفه
هذه صورة سريعة وموجزة لمسيرة الشعر النسوي العربي مناسبتها معرفتي لشاعرة عربية في مقتبل عمرها حضرت وقرأت في مهرجان الاسكندرية الدولي الثاني المنعقد في الاسكندرية في القاهرة المعمورة والمنعقد للفترة من 1- 4/ نيسان /2017م.
لم أكن في الحقيقة أتوقع أن اسمع شعرا نسويا لدرجة الإبهار والدهشة وحسن السبك وجلال المعنى ورشاقة اللفظ ، نعم لو لم اسمعه من امرأة لقلت هذا شعر فارس عاشق من شعراء العرب في عصر من عصور ازدهار الشعر.
هيام الأسد شاعرة سودانية سمراء بليغة ومعجمها العربي في منتهى الرشاقة فيه من المخزون اللفظي ما يؤهلها لان تكون شاعرة يشار لها بالبنان في مختلف أغراض الشعر وعلى رأس هذه الأغراض ( الغزل) وهنا لابد أن اشير الى ان هيام الاسد ذكرتني بالشاعرة الكبيرة (عنان) وهي في مقدمة من تغزلن بالرجل فجاء شعرها موازيا لغزل الذكر وفي بعض الأحيان يفوقه .
حين اعتلت (هيام) منصة القراءة لم تقل غزلا بل تلت قصيدة في الوطن وعرجت فيه على معظم أرجاءه عن السودان ومصر وفلسطين والعراق والشام فلفتت انتباه الحضور وشدت الأسماع لها وأول ما ترجلت عن المنصة قابلها سيل من جمل الإعجاب وصفق لها الحاضرون بحرارة ولما انفضت الجلسة سألتها بإعجاب كبير هل لك منتج شعري فاهدتني نسخة من مجموعتها الموسومة(كنت الوقت) وقبل الخوض في تفصيلات قصائدها أقول :
لازم الشكل التقليدي القصيدة العربية عموما من خلال البناء الشكلي وفق قيود الخليل التي وضعها باستثناء بعض حالات الزحاف والعلل على المستوى البنيوي والمجزوء والموشح على المستوى الشكلي ، ومع كل ذلك بقيت القصيدة محافظة على الشرطين ( الصدر ، والعجز) وهذا ما نطلق عليه (عمود الشعر).
ألا أن شعر التفعيلة الذي وضعت هيام الأسد معظم نصوصها بموجبه جاء زاخرا بالصور الشعرية متقيدا بضوابط هذا النوع من أنواع الشعر ساحرا رقيقا ذكيا وصلت من خلاله إلى تحقيق أهدافها وامتزجت بالهم الإنساني وحين تستمع أو تقرأ نصا لها لا تلتفت كمتلقٍ على بحر نسجت ولا يهمك الشكل الخارجي ( موسيقى خلابة واسترسال غير متكلف ومفردة عذبة )
تقول هيام :
في ذلك المساء كنت رائعاً
ومترعاً بالحب والحنين
ودافئا كالشمس – شمس موطني-
وزاهيا كزهر ياسمين
ومغريا بالحب يا وحيد أحرفي
وسيدا على جميع العاشقين
وكنت مفرحا كلحظة الميلاد بعد لوعة انتظار
ومدهشا كدهشة الصغير عندما يرى عينيه في المرآة بانبهار
ومقلقا ومربكا مفاجئا... ص11-12
شعر التفعيلة أو قصيدة التفعيلة هي ( نص أدبي مجزأ إلى وحدات هي الأبيات ) كما عرفها الكاتب مصطفى حركات في مؤلفه ( الشعر الحر : أسسه وقواعده) وهو اتجاه جديد في الشعر العربي جاء كاختيار ثالث بين الشعر العمودي والشعر غير الموزون أي ما يسمى بقصيدة النثر التي لا تخضع لأي وزن شعري .أما شعر التفعيلة فإنه يخضع في الواقع لقيود الشعر ويسير الشعراء في نظم أبياته على بحور الشعر ولكن ليس بنفس الطريقة المألوفة كما نتلمس ذلك في المقطع أعلاه .
وهنا لابد من القول أن هيام الاسد سكبت الشعرية في هذا النص بإحساس لا يقاوم تركت الحرية لمشاعرها تسطر ملحمة شعرية بصرف النظر عن الشكل الذي جاءت عليه القصيدة والفارق كبير بين تطبيق قواعد الخليل بطريقة متصنعة وبين ان ينزف الشاعر الأحاسيس بكل أريحية ويطلق لمخيلته العنان لتأتي بروائع الصور الشعرية .
(كنت رائعا ومترعا بالحب والحنين) صورة شعرية ذات موسيقى منسجمة لا تنفر المتلقي ولا تدخله في متاهة البحث عن المقصد .
توصيف آخر عبرت فيه حدود المباشرة وجاءت بصورة أخاذة أخرى (ومدهشا كدهشة الصغير عندما يرى عينيه في المرآة بانبهار ) صورة غير متكلفة يسيرة لكنها حققت إدهاش القاريء فالطفل في حقيقة الأمر ينبهر إذا حدق للمرة الأولى في المرآة .
ولننتقل لنص آخر فيه بعض المغايرة تقول الشاعرة :
غني امرأة لكني لن أتوسل كي لا ترحل
أنا لن استجدي ، لا ابكي
لن استعطف ، لن أتذلل
أحببتك من قلبي حقا واحبك حتى الآن اجل
لكن قيودك تخنقني وغرورك يزداد ويكبر
أأصون عهودك أحفظها وتخون عهودي تتنكر...ص51
هذه الموسيقى الخلابة والمفردة اليسيرة على الفهم تجتمع مع موضوع اجتماعي يحدث كل يوم في مختلف الأوساط بين الذكر والأنثى خصوصا في عالمنا العربي الذي يتسم بالذكورة الطاغية ليس فيه حق للمرأة ان تعبر عن خلجاتها في مثل هذه الأحوال التي تذل المرأة وعواطفها اما تسلط الرجل واستبداده حتى في مشاعره ، قالتها هيام الأسد بكل شفافية ووضوح ( لكن قيودك تخنقني ) بمعنى أن الحب في عالمنا العربي امتهان واستحواذ وأثرة على حساب مشاعر المرأة ان هذا من الجرأة ما يجعل النص يفرض نفسه على المتلقي لا لشيء سوى لأنه لامس الواقع ومنح الرجل فرصة الالتفات لنفسه وتقويم روح الهيمنة الطاغية على تصرفه في الحب.
وفي نص آخر تقول الشاعرة :
لو كنت معي
ما كنت تركت نوافذ قلبي مشرعة
حتى يتسلل برد الحزن ويملؤني
ما كنت بكيت
لو كنت معي
ما كان الليل امتد سنينا ثم انزاح
لتشرق أيضا فوضى الليل
ونملأ وجعا كل البيت ... ص55
لاشك ان التمني من الإنشاء الطلبي ، وهو طلب أمر مرغوب فيه لكن لا يرجى حصوله لأنه مستحيل ، أو ممكن لكن لا يطمع في نيله ، والحرف الموضوع للتمني أصلا هو "ليت " ويمكن التمني بغيره كاستعمال : هل ، لو ، لعلّ لغرض أدبي هو إبراز المعنى في صورة الممكن القريب الحصول لعظيم العناية به و التوق إليه .
بدأ النص ( بالتمني ) باستعمال (لو) أي ان الأمر أما مستحيل أو ممكن الحدوث ولكن الموانع كثيرة وفي هذه الحالة فان الشاعرة على وعي في استخدام صيغة التمني الذي اكسب النص جمالية في تحصيل المعنى النهائي .
ويستمر استخدام (لو ) التمني إلى نهاية النص كلازمة تكمل المعنى المراد الوصول اليه وإيصاله للقارئ الذكي وهو الأمنية بحضوره معها .
في الوقت الذي يجد فيه الكثيرين أن تجاوز نظام الخليل يمثل خرقا للقواعد الشعرية وتجاوزا على الموروث الشعري بقوالبه التقليدية ، ولم يلتفت لنصوص غاية في الروعة والإدهاش يستطيع الشاعر من خلالها سلب لب المتلقي ليقول كلمته ويوصل رسالته وليس من الممكن ان يتوقف الزمن مع أسمى اعتبارنا للموروث فأن الشعر في كل الأحوال رسالة سامية تهتم برصد الهم الإنساني والتعبير عنه وتبقى المشكلة المعقدة في فن التوصيل فقد لا تصل الرسالة في سبعين بيتا من العمود بينما تصل بثلاثة جمل في نص نثري .
بقي أن أقول وذا رأيي ( متى صفق المتلقي بقلبه لموضوعة نص شعري فهذا دليل وصوله إلى قلبه بصرف النظر عن الطريقة التي جاء عليها الشعر )
ولنقلب نص آخر تقول الشاعرة :
الرجل الجالس في ظل الأشياء
نسي – عمدا- عيني بعينيه وغاب
فاهتزت ارض الروح حنينا .ص71
واتسم هذا النص بجرأة وتحدي من الشاعرة فالمعتاد في عالمنا ان ليس من حق المرأة التصريح بحبها للرجل بينما هيام قالت ذلك وبصريح العبارة ( نسي – عمدا- عيني بعينيه وغاب) غاب جسدا وبقي في عينيها خياله حاضر فلغة العيون هي ابلغ لغة بين المحبين وإذا كان قد عجز عن البوح فقد بادرته هي بما تشعر به وهذا موضع الجرأة الذي يمنح الشاعرة برأيي جواز المرور لعالم الشكر وكما أسلفنا يخرجها مما اعتادت عليه من أغراض تختص بالمرأة .
هيام الأسد شاعرة متمكنة من أدوات الشعر لدرجة الإدهاش نصوصها جريئة تحاول كسر الرتابة في الشعر النسوي العربي وتؤسس لها أسلوبا مغايرا في القابل من الأيام خصوصا وأن اهتمامها بالتجريب الشعري واضح في معظم نصوص هذه المجموعة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع