الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبو قطيط

كمال عبود

2017 / 6 / 11
الادب والفن


المدينةُ عروس تسندُ ظهرها إلى التلّ خلفها ، ترنو بعينيها إلى ألأزرق الجميل ... إلى الأفق الوردي ... تراقب النوارس والسفنَ والغيمةَ الماطرة الآتية من جهةِ الغرب .. هذا البحر يغسلُ قدميها وتلك حاراتها تمُدُّ ذراعيها إلى البساتين المجاوره .. بستان الصيداوي هنا وبستان الأزهري قربه وإلى اليسار بستان السمكه والحميمي وفي الشمال نبع وعين ماء ( أم ابراهيم ) .... رأس المدينة حيُ القلعة، في الجهة الشرقيّه حيث التل العالي المتطاول شمالاً وجنوباً ، تُنبئكَ حجارة منازله بتاريخه .. والدرج الحجري يصعد من الساحة المرصوفة إلى الأعلى وتتفرع منه ازقة الحي ... وفي أعلى التل بقايا لسور قلعة قديمة تهالك وتداعت حجرات القلعة ومعالمها وغطتها الأشواك والأعشاب البريّه ، ولكن الحي ما زال يحمل اسم حي القلعة .. خلف تل المدينه في الجهة الشرقيّة للتل تتموضع مقبرة المدينه . وليس بعيداً عنها بيت -أبو قطيط –

وأبو قطيط هذا رجل متوسط العمر ، أُصيب في صغره بمرضٍ جعل يدهُ اليمنى ورجله اليمنى أيضاً ضعيفتان لايستطيع أن يحمل بيده شيئاً ويجرُّ قدمه جراً حين يمشي ، يتعمد بشكلٍ مطلق على يده ورجله اليساريتين ، بيتُه غرفة خشبية صنعها لنفسه وبغرابه .. لها نافذه في السقف ويستطيع أن يحرّكها بكتفهِ ويجعل بابها تطل على السهل الواسع شرقي المدينه .. أو على المقبرة ، أو يُديرها نحو الشمال حين يخطر له ذلك .....

ابو قطيط عالمه غريب ... من يعرفه سابقاً يؤكّد نباهته فهو ذكي ويحفظ الشعر - والعتابا - يُحدّقُ في وجه أحدهم بطريقة مخيفة ويمضي ... يقلب عربة بائع خضار ويمضي ... يحمل كيساً أبيض اللون لا يفارق كتفه الأيسر، فيه بضعة حجارة صغيره .. يفتحه فجأةً ويرمي حجرةً أو اثنتين باتجاه احد ما ...

غرابةُ أبو طيب تكمن في مرافقة القطط ... عشرات القطط تموء وتلحقه ... في الشوارع .. في الحديقةِ .. حيثما حلّ في السوق ... وتنام معه في غرفته أيضاً . يخرج صباحاً نازلاً من حي القلعة ... يجرّ رجله اليمنى .. يمرُّ أمّام - كيدون الأرمن - وعند الكنيسة الأثريّة ينعطف الى اليسار .. إلى ( البازار) ترافقه جوقة الشرف - قططه-... يجلسُ على مقعد حجري اعتاد عليه .. تقفز هرتان على كتفيه وتستقر بضعة قطط في حضنه ، وتلحس بعض القطط قدميه والأخرى تدور حوله في مشهد يوحي بالألفة والتعلق بصاحبها .. وهو يبادلها نظرات الحب والعطف ... عالمٌ صار مألوفاً لمن يعرف أبو قطيط ، حيث يُرى وقد فتح كيسه وأخرج حفنةً من سمك السردين الصغيرة كعيدان الكبريت ، يطعمها لقططه، ثم يكرمها بحفنة أخرى والقطط تتقافز حوله .. تريد المزيد ثمّ تأكل وجبتها .. تموء وتهزّ أذيالها شاكرةً لَهُ .. وفي اليوم التالي يكون قد ذهب إلى بائع الدجاج وجمع قوائم الدجاج المرمية وقطعها في بيته قطعاً صغيرة وليمة لقططه التي يقول لها : كُلي حبيباتي .. كلي وأشبعي
هُنّ حبيباته إذن ، والكلب المرافق له كظله حبيبه أيضاً له وجبته اليوميه .. حارسه الذي لا يجرؤ أحداً الإقتراب من منزله أبداً ... الكلب الذي يفهم إشارة سيده .. بالشارع يقول له : نم ، فينام .... قُمْ فيقوم .. أجمع القطط فيجمهعا ويحرسها ريثما يعود اليها
لا أحد يعطيه عملاً لعاهته ... وقليل من يعرض كرمه عليه ، وهو عنده من كبرياء النفس ما يجعله يرفض العطف عليه ، يكنس بيده السليمه ساحة الجامع الجديد أو يرتب خضاراً فوق - طبالي- سوق الخضره ، أو يسوق خرافاً نحو السوق ويأخذ أجرةً بالكاد أن تسدّ رمقه ، يأخذ أجرة عمله نقوداً معدنية قليله ، يقبض عليها بيده اليسرى وبشدّه ثمّ يفتحها وينظر قيمتها ويرميها بعيداً بحنقٍ مكبوت وقهر وغصةٍ وشهقةٍ داخل الصدر أليمة .

كان يُشاهدُ أبو قطيط دوماً أمام محلٍ للشواء يُشوى به اللحم ، كان يجلس ساعات وساعات يراقب الداخلين والخارجين ويتنفس بعمق علَّ رائحة الشواء تدخل جوفه ويشبع ْ ، يتحسّسُ جيبه الفارغ ويلمس بلسانه شفتيه الجافتين .

في الشهر الكريم رمضان تزداد بعد الظهر الحركه وينشط السوق و..... تكثر رائحة الشواء والدخان الصاعد من البيوت قبيل الأفطار .. يسرع الناس مثقلين بأحمالهم .. بما لذّ وطاب إلى البيوت قبيل الغروب ، وأبو قطيط يجر قدمه متثاقلاً إلى حيث لا أحد ولا منزل يُجاوره ولا منزل بعده .. وحيداً ... متعباً .. مقهورا

جلس أبو قطيط عند الغروب... نظر من نافذته إلى السماء .. تأمُّل ملياً من باب الغرفة السهول الواسعه الى الشرق والجبال المكتسية قممها بلون الغروب الأحمر الوردي ... تحسس معدته واستقرت نظراته على السكين .. مدَ يده إلى قطّة كانت في حجره .. استلّ السكين .. ذبح القطه ... سلخ جلدها ... أشعل ناراً للشواء .. المرة الاولى في حياته يشوي لحماً في منزله ، أكل بسرعة وشراهة وخوف ... كان يرتجف من شيء مجهول ... كان نظرهُ مسمّراً على الباب مضطرباً .. ورعباً يملأُ صدره
لم ينم ابو قطيط ليلته تلك وعند الصباح سار مع ( حبيباته وحبيبه ) إلى السوق ، وهذه المرّه لم يقف أمام دكان الشواء ، ثمّ قفل راجعاً عند المساء وبدأ حفلة شواء قطة جديده . واستمر الحال أياماً كثيره .. كل يوم شواء جديد ودخان يصعد عند الغروب

في يوم جمعه كانت بعض الأسر تزور ضريح موتاها وإذ بكلب أبو قطيط يقطع طريق المقفره بنباحه وشراسته .. هناك رائحة جثةٍ بشرية كريهة تملأُ المكان .. استطلع بعض الرجال الامر واستنجدوا بالشرطة التي دخلت غرفة ابو قطيط ووجدوا جثته وقد انتفخت وفي ركن آخر بقايا فحمٍ اسود و بقايا هرة مشوية وقد احترقت وصارت فحماً ووجدوا أيضاً ورقة كتب عليها :
حبيباتي ، أنا آسف .. كنتُ جائعاً
****
القصة حقيقية حدثت في أربعينات القرن الماضي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته