الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشخصية في مسرح الطفل

أحمد اسماعيل اسماعيل

2006 / 2 / 2
حقوق الاطفال والشبيبة


لاشك في أن استمرارية تغير وتبدل ونمو عوامل وظروف حياتية عديدة: اجتماعية وتاريخية –خاصة وعامة- تجد أفضل انعكاس لها في الكائن البشري، الذي يختزل كيانه الوجود والتاريخ البشري على مر الأزمان، ولعل هذه الخاصة هي التي حررت الإنسان من القولبة والثبات، وجعلت من تحديد مفهوم ناجز للشخصية أمراً غير مجْمع عليه.
بيد أن هذا الأمر لم يمنع اللغويين والسيكولوجيين من صياغة مفهوم معين للشخصية؛ يحدد سماتها، ويبرز معالمها بغية تعرفها ومن ثم دراستها.
وتعرّف الشخصية بأنها (تكامل الصفات الجسدية والخلقية المميزة لفرد ما، بما في ذلك بناؤه الجسدي وسلوكه واهتماماته ومواقفه وقدراته وكفاءاته، كليَّة الشخصي كما يراها الآخرون)(1)، وقد عرّف "واطسن" الشخصية بأنها: النتاج النهائي لمجموعة العادات التي تميز الفرد(2). كما عرفها "البورت" بأنها (ذلك التنظيم الدينامي الكامن في الفرد الذي يتضمن مختلف النظم النفسية التي تحدد خصائصه السلوكية وتفكيره)(3). ومن جانبه حدد فرويد مفهوم الشخصية بوحدة وتفاعل وتماسك الـ هو والـ أنا و الأنا الأعلى(4) التي يتألف كل جانب منها من صفات وسمات خاصة به.
ولعل ما يميز هذا المفهوم هو اشتماله على الفردية والخصوصية والوعي الذاتي والفعالية الاجتماعية.. وسمات وجوانب أخرى عديدة، تتضح في علاقة الفرد مع وسطه الاجتماعي، جعلت –هذه السمات- البعضَ يُقصِر هذا المفهوم على الإنسان الراشد فقط، والراشد المكتمل والسوي دون غيره ممن أساءت الظروف القاهرة إلى شخصيته؛ كالإنسان المقهور والمتخلف والفقير، كما يستثني هذا البعض الطفلَ أيضاً فلا يجد في الطفل شخصية اعتبارية، يمتاز بمقومات وصفات وسمات الشخصية، أو مفهوم الشخصية. فإذا كانت سياسة القهر وتربية التدجين والتهميش المتبعة في غالبية البلدان والمجتمعات المتخلفة والقمعية، قد استلبت شخصية شرائح وفئات واسعة من المقهورين، فقضت على سلامتها وسويتها إلى درجة ذوبان شخصية المقهور في شخصية القاهر وتبني هويته –كراهية أو طواعية- فإن انتزاع وسلب مفهوم الشخصية عن كيان هذه الفئة يعتبر نوعاً أو شكلاً آخر من القهر، الأمر الذي ينقلنا إلى موضوع الطفل، المستثنى الثاني من مفهوم الشخصية، باعتباره –حسب وجهة نظر أصحاب هذا المفهوم- عجينة لينة، أو صفحة بيضاء، أو رجلاً صغيراً، وذلك انطلاقاً من واقع بعديه أو جانبيه؛ البيولوجي والاجتماعي، غير المكتملين والثابتين.
بيد أن الحقيقة هي أن للطفل شخصيتَه الخاصة والتي تمتلك خصائص وسمات فردية مميزة كشخصية الراشد، بل تمتاز عنها بخاصية النمائية التي توفر للطفل فرصة معايشة نماذج مختلفة من الشخصيات، وذلك من خلال المراحل العمرية المختلفة التي يعايشها ويجتازها، بدءاً من مرحلة ما قبل المدرسة.. وانتهاء بمرحلة المراهقة، على اعتبار أن كل مرحلة عمرية تجسد أو تمثل شخصية لها ملامحها وسماتها بهذا القدر أو ذاك، تفكيراً وسلوكاً ودوافعَ، وبناءً جسدياً إلى حد ما، فما يضفي على شخصية الطفل في مسارها التكويني خصائص المرونة والتنوع والثراء.
ما يهم في هذه الدراسة المقتضبة هو التأكيد على التوجه نحو الطفل –تربية وإبداعاً- انطلاقاً من الفهم الصحيح والواعي لشخصيته في مراحلها العمرية المختلفة، وتفهماً متعاطفاً لاحتياجاتها الأساسية، ونبذ النظرة التقليدية لها، التي تتجسد في نظرتنا وتعاملنا مع الطفل انطلاقاً من اعتباره رجلاً صغيراً أو دمية في البيت، أو بنك معلومات في المدرسة، أو كائناً متمرداً في الشارع، أو كائناً مغفلاً أو ساذجاً في الأدب والفن، وهي نظرة أو رؤية ننبذها قولاً ونمارسها فعلاً، هذه الازدواجية التي وسمت حياتنا، لأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية، نجد لها أفضل تجسيد في حياتنا التربوية خاصة، إلى درجة ينطبق علينا القول المأثور: كلنا مربون إلا على أطفالنا.
ويحتاج تجاوز هذا الواقع إلى أدوات ووسائل قوية وفعالة، سياسية وتربوية واجتماعية. ويعتبر مسرح الطفل أحد هذه الأدوات الفعالة، وفعالية تربوية غير هينة، شريطة ربطه فنياً وفكرياً ببيئة الطفل وبناه النفسية والعقلية، في المرحلة العمرية الواحدة التي يتوجه إليها المسرح –نصاً وعرضاً- وفي مجمل المراحل العمرية المكونة لشخصية الطفل. ويتطلب هذا الاهتمام بشخصية الطفل المتلقي في المسرح اهتماماً مماثلاً بالشخصية المسرحية؛ حيث تشكل الروابط العاطفية القائمة بينهما في النص أو العرض المسرحي جوهر الفاعلية المطلوبة، والتي تتجلى أو تتمظهر في ظاهرة التقمص أو التماثل، ومن هنا تتأتى أهمية الشخصية المسرحية، في مسرح الطفل خاصة، كعنصر مركزي لا يمكن تهميشه أو تجاوزه، كما حدث ويحدث لهذا العنصر في مسرح الراشدين منذ قرابة قرن من الزمن. كانت البداية الحقيقية لهذا التقوض مع شخصية (أوبو) لالفريد جاري المجردة من سماتها الفردية وخصوصيتها الإنسانية الذي كان أشبه بالمسمار الأول في نعش الشخصية المسرحية.
الشخصية المسرحية: تختلف الشخصية الإبداعية في المسرح أو الرواية أو القصة عن الشخصية الحقيقية في الحياة، بوجودها غير المادي، الخيالي والوهمي، وبمصيرها وبنائها المختلف. فإذا كانت الشخصية الحقيقية المكونة من لحم ودم تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت، فإن الشخصية الإبداعية المكونة من علامات لغوية تبدأ حياتها بالقراءة وتنتهي وتموت بانتهائها، وهي شخصية منمذجة تستقي كثيراً من سمات الشخصيات التي تعيش في الواقع. وتختلف الشخصيات الإبداعية بعضها عن بعض؛ فهي في القصة غيرها في المسرح، وفي الرواية وغيرها في نص إبداعي آخر، على الرغم من انتمائها إلى الجذر الخيالي نفسه، وإلى الكينونة الورقية ذاتها، حسب رولان بارت.
والشخصية المسرحية (كائن بشري يشار إليه بعلامات لغوية يتقمصه ممثل من لحم ودم على خشبة المسرح، من خلال علامات غير لغوية، تبنى فوق العلامات السابقة)(5) وهي كباقي الشخصيات الإبداعية تحيا بالقراءة أو بالعرض المسرحي، وتنتهي أو تموت بانتهائهما. ولقد تعرض هذا الكائن، منذ ولادته في المسرح الإغريقي –وربما في مسارح شعوب أخرى- إلى تبدلات وتحولات عديدة. هي التبدلات والتحولات ذاتها التي تعرضت لها الشخصية الحقيقية في هذه البيئة أو تلك، وفي هذا الزمن أو ذاك، مما يدل على الارتباط الموضوعي بين الشخصيتين –الحقيقية والمسرحية- وعلى التفاعل الدائم بينهما. وقد تجسد هذا الارتباط والتفاعل في شخصيات مسرحية خالدة كـ هاملت وأوديب وفاوست وطرطوف ونورا.. وغيرها من الشخصيات المسرحية التي أجاد المبدع في رسم أبعادها النفسية والجسدية والاجتماعية المميزة للفرد الإنساني، بما ينسجم مع حياتها الاجتماعية والتاريخية، أو يعبر عنها من خلال علاقة الشخصية مع الأشخاص الآخرين والمحيط أو البيئة المحيطة، هذا الأمر الذي أفاد الفكر الإنساني وأغناه، أكد في الوقت نفسه على الأهمية الفنية للشخصية المسرحية، إلى جانب أهميتها الفكرية، كركن أساسي من أركان المسرح الثلاثة –الممثل والمتفرج والشخصية- إلى درجة لا يمكن فيها تخيل عمل مسرحي دون شخصية مسرحية. ولقد زادت التجربة المسرحية على مدى قرون عديدة هذا العنصر غنى وثراء، حيث يمن لأي متتبع ذكر أنواع عديدة للشخصية المسرحية من: نامية أو مدورة، سطحية أو نمطية، كما يمكن ذكر تصنيفات مختلفة له من: شخصية رئيسية وشخصية ثانوية وشخصية عرضية وأخرى صامتة. ومن المعروف أن المسرحية الفرنسية قد تم تقسيمها أو تقسيم فصولها إلى مشاهد حسب دخول وخروج الشخصيات، وترتيبها –ترتيب الشخصيات- حسب معيار الغياب والحضور، وحسب الأقوال أو عدد المشاهد التي تمثلها أو عدد السطور التي تشكلها.
بيد أن هذا العنصر بدأ يفقد أهميته، وتقوضت مركزيته مع بداية القرن الفائت حين حوّل الفريد جاري شخصيته المسرحية (اوبو) إلى مجرد قناع أو دمية، في ثلاثيته (اوبو عبداً، اوبو ملكاً، واوبو زوجاً) واختزلها مسرح العبث إلى حرف. كما بدأ المسرح التجريبي المعاصر بطردها من المسرح كله. ويطول شرح أسباب أزمة الشخصية المسرحية والتي يمكن اختصارها بأزمة الشخصية الحقيقية في مسرح الحياة. غير أن هذه الأزمة التي يعاني منها مسرح الراشدين لم تلق بظلالها على مسرح الأطفال، الذي يحتفظ للشخصية المسرحية بالدور المركزي دون تهميش أو إغفال باقي العناصر المسرحية الأخرى، بل يسعى دائماً -كشرط من شروط نجاحه- إلى تحقيق الانسجام بين جميع عناصر اللعبة المسرحية في مسرح الأطفال.
ويمكن إرجاع هذا الاستثناء إلى طبيعة وعي الطفل، ذلك الوعي القاصر عن الإحاطة بأبعاد وأزمات ومشكلات العصر والحياة، وإلى عدم وعي الطفل المقهور لأزمته، كما يعود إلى حداثة أدب الأطفال ومسرح الطفل خاصة، وإلى غياب نقاد ومذاهب نقدية في مجال مسرح الطفل. بيد أن السبب الجوهري والأساسي يعود إلى الهدف التربوي والجمالي الذي من أجله بُني مسرح الطفل، حيث لا يمكن تحقيق هذا الهدف في مسرح الأطفال، وربما أي هدف آخر في حال غياب أو تغييب الشخصية المسرحية، أو مسخها أو اختزالها، الأمر الذي يلغي فعاليتها وبالتالي يلغي عملية التماثل.
الشخصية في مسرح الطفل:
تعتبر الحكايات الشعبية والخرافية والخيالات والأحداث والشخصيات التاريخية والوقائع اليومية مادة خصبة ينهل منها مسرح الطفل، هذا الثراء يشمل العناصر المسرحية كلها، من لغة وأحداث وديكور وموسيقى وشخصيات، الأمر أن الشخصية المسرحية بالذات هي أكثر هذه العناصر استفادة من هذه السمة، الأمر الذي يكسبها المرونة والغنى والقدرة على تجاوز حدودها الإنسانية المعروفة. بل إن هذا المسرح يسمح بشخصنة أو أنسنة كائنات وظواهر حياتية وطبيعية؛ ديك، ذئب، نهر، شجرة..الخ وخيالية أو وهمية؛ جني عفريت، شبح..الخ تدعيماً للجانب الجمالي في المسرحية، ودون الإساءة إلى الجانب الفكري، بل لتمرير مقولة أو فكرة معينة من خلال قالب فني ممتع، يسهل على وعي الطفل تقبلها وتمثلها، ويتطلب تحقيق هذا الهدف، فكرياً وجمالياً، توفر شروط وسمات معينة في الشخصية المسرحية يمكن إجمالها في:
- التمايز، وخاصة في المسرحية الواحدة، بحيث تحقق الشخصية المسرحية الواحدة قدراً كبيراً من الحيوية والتفرد.
- الوضوح في الشكل والمضمون، من خلال أفعالها وزيها وإلقائها.
- الاختصار على العدد القليل منها، ويفضل التركيز على شخصية رئيسية ليتمكن الطفل من متابعتها واتخاذ الموقف المناسب منها.
- تقديم الشخصيات التي تجسد الخصال النبيلة، كالشجاعة والصدق والشهادة، كما يفضل قدر الإمكان عدم نسيان الشخصيات القادرة على الإضحاك(6).
وهذه السمات تجعل من الشخصية المسرحية شخصية حية ومقنعة وقادرة على التأثير يرتبط بها الطفل المتفرج ويتفاعل معها في علاقة تقمص مميزة، تختلف عن عمليتي التماهي والتقليد، العمليتين اللتين يقع الراشد والطفل غير السويين ضحية لهما، باعتبار التقمص عملية إيجابية يقوم بها الطفل السوي كحاجة أو ضرورة نفسية تسهم في تطوير شخصيته، وتتم هذه العملية وفق عمليات مترابطة يمكن إيجازها بأربع عمليات:
1- إدراك التماثل بين الطفل والنموذج.
2- تجربة التأثير بالنموذج، حين يشعر الطفل بشعور يلائم النموذج.
3- الرغبة باكتشاف صفات النموذج الجذابة.
4- تقليد النموذج، يحاول الطفل من خلاله أن يتبنى المعتقدات والقيم وسلوك النموذج(7).
وتحدث هذه العملية بين الطفل وبين الشخصية التي يعتبرها الطفل نموذجاً يحتذى به في الواقع مثل: الوالد، المعلم، أحد القادة، أحد الرياضيين..الخ. كما تحدث في المسرح من خلال عملية التماثل التي تتم (بتقمص عاطفي مع الشخصية على المسرح ناشئة عن علاقة إدراكية ما بين تلك الشخصية والذات)(8)، مما يستدعي من المبدع إلماماً بسمات شخصية الطفل العامة والخاصة بكل مرحلة عمرية على حدة، من أجل أن يحقق المسرح غايته الجمالية والتربوية.
ففي المرحلة العمرية الأولى(9) –من 3سنوات وحتى 5 سنوات- وهي الفئة الأصغر سناً، يمكن أن يقدَّم لها المسرح، وفي الوقت نفسه تعتبر الفئة الأكثر إهمالاً وغبناً، ليس مسرحياً فحسب، بل تربوياً وأدبياً وفنياً. يغلب على أطفال هذه المرحلة حب الاستطلاع والرغبة في التعرف إلى موجودات المحيط من كائنات وأشياء، هي موجودات عالمه المحصور في البيت والشارع والتلفزيون إلى حد ما. وعلى الرغم من سيادة حالة التركيز على الذات في هذه المرحلة، حيث يعتبر الطفل نفسه مركز المحيط، فإنه –وفي نهاية هذه المرحلة تقريباً- يبدأ أولى محاولات تجاوز العلاقة الثنائية مع الأم، والثلاثية مع الأب، ثم باقي أفراد أسرته إلى علاقة أكثر رحابة واتساعاً، تشمل شخصيات أخرى من محيطه أو من عالم الخيال والتاريخ والحكايات، وهي الحالة التي يمكن للمسرح استثمارها وتوظيفها بدراية ووعي، وخاصة حين يدرك هذا المسرح ولَعَ الطفل بالحكايات والقصص الوهمية، وتلك التي أبطالها من الحيوانات، إضافة إلى الحكايات الواقعية أو سيَر الشخصيات المعروفة له، شريطة الابتعاد عن تنميط الشخصيات قدر المستطاع، مع تغليب عامل القوة عل عامل الضعف، دون مبالغة أو استهتار مع الحرص على التوازن في الصراع بين الشخصيات السلبية التي تجسد جانب الشر، والشخصيات الإيجابية التي تمثل جانب الخير، كي يتحقق التواصل الأمثل بين الشخصيتين –المسرحية والطفلية- ويتم دمج التجربة المسرحية مع ذات الطفل، في عملية تفاعل تحقق التماثل المطلوب.
أما المحلة العمرية الثانية –من سن 6 سنوات وحتى 9سنوات- فإن الطفل يتعرض فيها إلى أولى صدماته في الحياة، وهي صدمة الانتقال أو الانتزاع من المحيط الأسروي الصغير الذي تحكمه روابط وعلاقات عاطفية يكون هو بمثابة المركز والدخول إلى محيط مجتمع المدرسة الذي تحكمه علاقات وروابط غير عاطفية، بل تنظيمية، رفاقية، قلما تنهج مدارسنا في ممارستها؛ الأمر الذي يورث أطفالنا معاناة أو حالة من الغبن ترافقهم زمناً طويلاً. غير أنها في جميع الحالات تلعب دوراً كبيراً في صياغة شخصية الطفل، حيث يبدأ التعليم باحتلال مساحات واسعة من وعي ونشاط الطفل على حساب اللعب. كما تدخل شخصيات نموذجية أخرى –غير الأم والأب والأخ- مجال وعيه ونفسيته، كالمعلم والزميل وشخصيات واقعية أخرى، أو تاريخية قدمها له المنهاج المدرسي. كما توفر المدرسة قيماً وعادات جديدة؛ كالتعاون والانضباط والصداقة والألعاب والنشاطات المنظمة والهادفة، في بيئة تربوية صحية، لا تستلب شخصية الوافد الصغير، ولا تقهرها بتعاملها معه ككائن متمرد يلزمه التدجين أو الترويض، أو كبنك معلومات يودع المعلم فيه المعلومات بالقسر، الأمر الذي يحول المعلم إلى سجان والمدرسة إلى سجن، والقيم والعادات الخاصة بها إلى مجرد أوامر ونواهي، والمعلومات والمعارف إلى أعباء ينبذها ما إن ينتهي الدوام المدرسي، أو يتحرر من جدران المدرسة.
في هذه المرحلة تتوسع مدارك الطفل، وتكبر مقدرته على التعبير والكشف عما يجول في خاطره، كما تبدأ قدرته على التمييز بين ما هو جيد وما هو سيئ، بين ما هو خير وما هو شر، ويتماثل الطفل في هذه المرحلة بشكل أكثر فاعلية مع الشخصية المسرحية كتماثله مع الشخصيات الواقعية التي يكن لها الإعجاب والتقدير، والشخصيات البطولية التي تجسد قيم الخير والعدل والشجاعة، والشخصيات الخيالية التي تحلق به عالياً وشخصيات أخرى إيجابية؛ ذكية أو قوية أو خيرة، واقعية أو خيالية أو تاريخية، يستطيع المسرح أن يقدمها بأسلوب بسيط ومقنع وجميل، بالتركيز على الإيجابية منها، أو الجوانب الإيجابية فيها، وعدم إهمال الجوانب السلبية، والحذر من تجميل شخصيات يفترض أن تكون إيجابية أو مثالية، فأسيء إليها واقعياً، كشخصية المعلم أو الطبيب أو الشرطي أو غيرها، التي خبرها الطفل عن فرب، أو تبنى خبرة الآخرين بها.. أو سيخبرها قريباً، ورسم الشخصيات بدقة وتحديد اتجاهاتها يمنح الطفل فرصة إعادة تكوين اتجاهاته وتعديل أنماط سلوكه من خلال عملية التوحد، أو التماثل التي تحدث بينه وبين هذه الشخصيات(10). وما يقال عن المسرح يمكن قوله عن القصص والتمثيليات التلفزيونية خاصة، التي قلما تكترث بالشخصيات التي تقدمها للصغار والكبار.
تتميز المراحل الانتقالية عادة (التاريخية، الاجتماعية، السياسية، ..الخ) بخواص وسمات قلما تتوافر في المراحل الأخرى، السابقة عليها أو اللاحقة، وذلك بسبب اشتمالها على ما هو قديم وما هو جديد في رحم واحد، الأمر الذي نجد ما يماثله في شخصية الطفل في مرحلته العمرية الثالثة، المحددة بسب –10 إلى 13 سنة-، ففيها تجتمع خواص وسمات نفسية وسلوكية وجسدية مختلفة، كالبساطة والعفوية وصغر حجم الجسم والتفكير المحسوس وعدم تأكيد الاستقلالية التي تعود إلى مرحلة سابقة، إلى جانب المظاهر الأولى للتفكير المجرد والبلوغ والنمو الجسدي المتسارع والقلق في مرحلته العمرية الحالية، فتورثه حالات نفسية وإدراكية غير مستقرة، تتمظهر اجتماعياً أو سلوكياً في عدم تواؤمه الاجتماعي في محيطه الأسروي والرفاقي، إضافة إلى عدم تقبل الطفل لذاته بسبب غياب الجو المناسب لإثباتها. في هذه المرحلة تظهر حاجة الطفل إلى قصص وحكايات البطولة، عن أبطال وشخصيات فذة حققت ذواتها من خلال تجاوزها نقاط ضعفها، واستثمارها نقاطها الإيجابية.
والمسرح الذي يقدم للطفل شخصية نموذجية؛ أدبية، علمية، تاريخية، واقعية، ينبغي أن يحسن اختيارها بما يناسب أبناء هذه المرحلة، على المستويات كافة، حتى يسهل من عملية تماثلهم معها، فتزيد من ثقة الطفل بنفسه، تساعده على تخطي حالة التردد والقلق وعدم الثبات، دون إخفاء عيوب وسلبيات الشخصية النموذج أو الوقوع في مطب التأليه أو التقديس. ومن المفيد أيضاً إتقان أسلوب تقديم هذه الشخصية على المسرح، حواراً وإلقاء وحركة..الخ.
غير أن هذه الخصوصية تتضاءل بعض الشيء أمام خصوصية المرحلة العمرية التالية على المستويين أو الشخصيتين –الحقيقية والمسرحية- والمحددة بسن 14 إلى 18 سنة، وهي مرحلة يبلغ فيها الطفل سن المراهقة التي تبدأ بالبلوغ وتنتهي بالوصول إلى سن الرشد(11)، وهي مرحلة تتسم بتغيرات شديدة تشمل الجوانب الفيزيولوجية والنفسية والاجتماعية، الأمر الذي ينعكس سلباً أو إيجاباً على مسار حياه وحياة محيطيه بشكل يختلف عن المراحل السابقة بسبب سعي المراهق الحثيث إلى تأكيد شخصيته المستقلة، وأداء الدور الفاعل في المجتمع وفق قناعات جديدة وطرائق وأساليب تفتقر إلى النضوج المناسب. مما يستدعي –مسرحياً- تقديم الشخصية النموذجية غير المحنطة أو المقدسة، والتي لها عيوبها وأخطاؤها ونواقصها التي تجاوزتها بما امتلكت من قدرات وإمكانيات فردية أحسنت استثمارها. ويمكن للمراهق فعل ذلك بقليل أو كثير من الجهد. ولعل توسل الأسلوب الفني غير المباشر أو الوعظي سيسهم في تحقيق التفاعل المنشود بين شخصية المراهق والشخصية المسرحية النموذجية.
إن تحديد الشخصيات المسرحية النموذجية لكل مرحلة عمرية ليس سوى معاينة افتراضية انطلقت من طبيعة كل مرحلة عمرية من الطفولة من خلال المقاربة السريعة.
بقي أن نشير إلى مفهوم خاطئ يتداوله بعض بحسن نية أو سوء نية، يحدد سلامة الشخصية بمدى ملاءمتها لمنطق المجتمع، أو دوام الدوران في فلكه، وهو مفهوم قد يصبح تطبيقه في ظروف معينة وعلى أفراد معينين شواذ أو غير أسوياء، بغية حمايتها من الزلل، وصيانة المجتمع من التفتت والانحراف، غير أنه لا يمكن أن يطبق على الشخصيات المبدعة والسوية والناشئة، كيلا يعيق نموها النفسي والعقلي، ويسيء إلى تفتح ملكاتها وإبداعها، كما يسيء إلى المجتمع نفسه حين يحرمه من فرصة التقدم والتطور، الأمر الذي يحدث في المجتمعات المتخلفة التي تعاني حالة عدم الانسجام والتوافق وفقدان الهوية وضياع الذات على المستويات كافة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القسام تنشر فيديو أسير إسرائيلي يندد بتعامل نتنياهو مع ملف ا


.. احتجاجات واعتقالات في جامعات أمريكية على خلفية احتجاجات طلاب




.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - ألمانيا تعلن استئناف التعاون مع


.. بدور حسن باحثة في منظمة العفو الدولية: يستمر عقاب الفلسطينيي




.. تدهور الوضع الإنساني في غزة وسط تقارير بشأن عملية برية مرتقب