الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاشقات سعد علي يمرحنَ في فردوسهِ المُتخيَّل

عدنان حسين أحمد

2017 / 6 / 19
الادب والفن


يمكن لأي متلقّي أن يستمتع بلوحة الفنان التشكيلي سعد علي، ولكنه لن يستطيع تفكيكها، وفهم تفاصيلها الدقيقة ما لم يعُد إلى بعض المرجعيات المُؤسِسة لنسيج عمله الفنيّ مهما كان صغيرًا أو متوسِطًا، أو كبير الحجم. ولعل أبرز المرجعيات في تجربة سعد علي الفنية هي الرسم التشخيصي Figurative Drawing المتلاقح بعمقٍ كبير مع تجربة الفنان الإيطالي أميديّو مودلياني، صاحب البصمة المميّزة التي لا ينساها أي مُتلقّي يُشاهد أعماله ولو لمرة واحدة، وهذه البصمة هي الوجوه والأعناق المستطيلة Elongated التي ألهمت سعد علي فعمّمها على كل أعضاء الجسد البشري وخاصة الأعين، وأصابع اليدين والقدمين، بل أنه مطّ الجذع ومعّجهُ حتى ليخاله الناظر خلوًّا من العظام. أما المرجعية الثانية فهي تراثية تُعيد المُشاهد إلى "ألف ليلة وليلة" بأجوائها الحُلُمية، ومناخاتها العجائبية التي يستدعيها الفنان من ذاكرته البَصَرية تارة، وخياله السمعي تارة أخرى ويجسِّدها في مشاريعه الفنية، وهذه ميزة ثالثة يتصف بها سعد علي، فهو لا يتنقّل من ثيمة إلى أخرى، وإنما يعمل لسنوات طوالا على بضعة مشاريع، فمذ عرفته في أواسط التسعينات من القرن الماضي وحتى الآن وهو منهمك بمشروعين كبيرين لا ثالث لهما وهما "صندوق الدنيا" الملئ بالمفاجآت والعجائب، و "أبواب الفرج والمحبة" التي يُطلّ من خلالها على فردوسه المُتخيّل، أو الجنّة الذاتية التي صنعها بنفسه، وأثّثها على مدى أربعة عقود أو يزيد. فسعد كان فنانًا مُنتجاً في الديوانية وفي بغداد قبل أن ينتقل إلى فلورنسا وبيروجا الإيطاليتين وينهل من معينهما الفني العديد من التقنيات الحديثة التي كانت تستجيب لرؤيته الفنية التي أخذت تتسع وتتشذّب يومًا بعد يوم. أفاد سعد علي من تنقلاته العديدة من بلد إلى آخر فقد عاش على مدى أربعة عقود وبضع سنوات في أربعة بلدان أوروبية وهي إيطاليا، هولندا، فرنسا وأسبانيا، بل أنه كان يتنقل من مدينة إلى أخرى في البلد الواحد الذي يقيم فيه عشر سنوات في أقل تقدير.
يبدو أن الفنان سعد علي قد وجد ضالته في مدينة فالنسيا الأسبانية وأحبّها فأقام فيها العديد من المعارض الشخصية والمشتركة وكان آخرها معرضه الشخصي الذي يحمل عنوان "النفس الطيبة" في مدينة ركينا Requena للفترة من 3 يونيو ولغاية الأول من يوليو القادم قبل أن ينتقل إلى فالنسيا. وقد ضمّ هذا المعرض 34 لوحة متوسطة وكبيرة الحجم مُنفّذة بوسائط مختلفة على الكانفاس والورق.
يتشظى مشروع "أبواب الفرج والمحبة" إلى ثيمات كثيرة لا تُستنفَد لعل أبرزها الحُب، والدَعّة، والسكينة، والألفة، ورغد العيش وما إلى ذلك. وثمة تقنية آسرة يستعين بها سعد علي لإغراء متلقّيه وكأنه يتسلل إلى فردوسه في عَتَمة الليل ويفتح باب المحبة خُلسة ليدعنا نرى من خلال عينيه المدهوشتين لقطاتٍ ومَشاهِدَ حميمة لا يراها الإنسان إلاّ في لحظات الوجد والتجلي والنشوة العاطفية التي ترتعش لها خلايا البدن مجتمعة كما في لوحة "حبيبتي" التي اخترناها لأن سعد علي استعمل فيها تقنية الاستطالة المُشار إليها سلفًا في العين والأنف وأصابع اليدين، كما أن "الحبيبة" في هذه اللقطة المُقرّبة تبدو رقيقةً، مُرهَفة وفي منتهى اللذة. لا تقتصر حميمية المرأة على الرجل في لوحات سعد علي وإنما تمتد إلى غالبية الحيوانات الأليفة والشرسة في بعض الأحيان وكأنه يشير من طرفٍ غير خفي بأن المرأة قادرة حتى على ترويض الحيوانات غير المدجَّنة كالأسود والنمور والطيور الجارحة. وبما أن اللقطات والمَشاهِد فرودسية فلاغرابة أن يكتظ بعض اللوحات بالفواكة المُغرية والثمار الناضجة التي لا تخفى دلالتها الرمزية على المتلقي الحصيف الذي يتوفر على رصيد بصري جيّد يؤهله لاستكناه معنى العمل الفني، والاستمتاع بلذته الجمالية.
تتكرّر شخصية "حبيبتي" نفسها في لوحة "الفردوس المُنتظَر" وفي بعض اللوحات الأخر التي تتحد فيها الحبيبة بعناصر الطبيعة من أزهار فوّاحة، وشجيرات نضرة، وفواكه لذيذة. وكما يبدو فإنّ الحُب الرومانسي هو عالم سعد علي المفضّل، وإذا أراد أن ينحرف عنه قليلاً فإن المشاعر والهواجس الداخلية هي التي تتلقفهُ كما في لوحة "أحاسيس وتردّد" التي تستدعي المُشاهِد لأن يغوص في أعماق هذه المعشوقة الآسرة الجمال التي تختبر مشاعرها على المحكّ العاطفي.
تشتبك الحبيبة والمحبوب في غالبية الأعمال الفنية لسعد علي بلحظات مُبهِجة ودافئة وسعيدة ولعل المرأة هي المُهيمنة على المشهد العاطفي كما في اللوحات الثلاث الآتية "اللقاء الأزلي" حيث تحمل المعشوقة قلبها الأحمر بين أصابعها الرَخصة الليّنة، و "اللقاء الأزلي" الذي تدنو فيه المرأة من الرجل وكأنها هي المُبادرة التي تمسك بزمام الأمور. أما اللوحة الثالثة فهي "نظرة الجمال" التي يبدو فيها الرجل مُنكفئًا، ومُنصرفًا إلى عالمه الداخلي بينما تنهمك المرأة في مداعبته بغية انتشاله من حيرته وشروده المؤقت.
إذا أراد المُشاهد أن يرى الأجواء العائلية فعليه أن يبحث عنها في لوحات سعد علي لأن معارضه لا تخلو من الثيمات الأسَريّة التي تعكس العلاقات الحميمة بين أفراد العائلة الواحدة من جهة، وبين الحيوانات الأليفة التي تكسر رتابة الحياة اليومية من جهة أخرى. وبما أن ثيمة المعرض تتحدث عن "النفس الطيبة" فلابد أن تتسيّد صور الفواكه وهي تتوسط الأحبّة كأشكال حيّة ناطقة تشارك الآخرين حبورهم وبهجتهم المُفرطة، ولم يصوّرها الفنان كطبيعة صامتة Still life أو كمفردات تشكيلية جامدة لا تسرّ الناظرين.
تتشذّب تقنيات سعد علي وتزداد خطوطه رهافة كلما تقدّم به السن، ويكفي أن نلفت عناية القارئ الكريم إلى بضع لوحات عنونها بـ "أبيض وأسود" وهي تكشف عن المناحي الجمالية المخبأة في الجسد الأنثوي تحديدًا، ناهيك عن الثيمات التي تتمحور على فكرة البحث عن شيء ضائع، وقد تداخلت بعض الأشكال البشرية بالحيوانية وكأنه يريد القول بأن بعض الحيوانات ينطوي على إنسانية من نوع ما، ولعل العكس صحيح أيضًا.
يُعنى سعد علي بالأشكال والمضامين في آنٍ معًا وحجتهُ في ذلك أن القصص التي يرويها، وهي في أعمّها الأغلب، سيرة ذاتية له تتكئ على ثيمات سردية يتآزر في المعنى والمبنى من دون إهمال للتقنيات التي تعلّمها من المدارس والتيارات الأوروبية في أثناء دراسته في إيطاليا، ثم بدأ بتطوير خبرته البصرية من خلال ارتياد المعارض والمتاحف، وقراءة الكتب لبعض الفنانين الذين أحبّ أساليبهم وتجاربهم ورؤاهم الفنية. ويجب ألا يغرب عن بال المتابعين أن الفنان سعد علي قد احتضنته كبرى المؤسسات الفنية الأوروبية مثل "كوبرا" الهولندية، و "إيرك براون" البرتغالية، ومؤسسة "فيرا آرت" للفنون العالمية. وكان غاليري "الصالون الأحمر" بأمستردام يحتفي بمعارض سعد علي الفنية، وهو ذات المكان الذي كان يعرض فيه الفنان الهولندي الشهير كارل أبل، أحد أبرز المؤسسين لجماعة "كوبرا" الفنية الطليعية.
ثمة إصرار واضح من قِبل الفنان سعد علي على تمجيد الحُب، واستحضار البهجة في أعماله الفنية التي يستوحيها من فردوسه الخاص، وأحلامه المتدفقة مثل ينبوع لا ينضب. وقد أثبت هذا الفنان الدؤوب بأنه لا يمل من ثلاثة أشياء وهي الانقطاع للرسم، والوقوع في الحُب، والاستغراق في الحُلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع