الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


افول الماركسية - التناقض الجدلي و اللا تناقض (1)

موسى راكان موسى

2017 / 6 / 25
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية




التناقض في الذهن و التقابل في الخارج (ص 101ـ111) :


لا توجد تناقضات واقعية أو في الخارج ، حتى و إن أصرت الماركسية على عكس ذلك ، أي ليس هناك وقائع متناقضة فيما بينها أو (( تناقضات )) موضوعية . فالتناقض لا يكون إلا منطقيا حصرا ، أي تناقضا في الفكر . أما الحديث عن واقع (( ذاتي ـ التناقض )) فلا معنى له ، و كذلك الحديث عن (( تناقضات )) في المجتمع أو في الطبيعة . غير أن ذلك لا يعني بالتأكيد أن الواقع لا يحمل المتقابل و المتنافر . فالمتقابلات موجودة و كيف لا ! و لكن المقصود هنا ما يسميه كانط (( بالتقابل في الخارج )) أي التضاد ، علينا إذن أن نميّز بين (( التقابل المنطقي )) و (( التقابل الواقعي )) ، و أن نعي أن التمايز بين هذين الشكلين من التقابل يرتكز بالفعل إلى حضور التناقض في أحدهما و غيابه في الآخر .


التقابل (( المنطقي )) هو (( تقابل بالتناقض )) Durch den Widers Pruch و هو لذلك تناقض منطقي (في الذهن) . أما التقابل الواقعي فهو على العكس (( بدون تناقض )) Ohne Widers Pruch ، و ها هنا كما نرى لاحقا إختلاف جوهري . و لعله من المفيد قبل أن نتقدم في التحليل ، أن نرجع إلى بعض النصوص نقارن بها أحكامنا . لنأخذ نيقولاي هارتيمان ، (( هيغل و جدل الواقع )) : لا يخرج التناقض من حيث ماهيته عن نطاق الأفكار و المفاهيم . فلكي ننفي قولا لابد أن نقول به أولا . و في المنطق السليم يفترض النفي الحكم أولا . يمكن للمفاهيم و الأحكام أن تتقابل تقابل التناقض أو السلب و الإيجاب [...] ما لا يمكن أن يحصل في نطاق العلاقات في الخارج [...] و ما نسميه بالمعنى الشائع تناقضا في الحياة و الواقع ليس أبدا تناقضا بل إنه في حقيقة الأمر صراع إختلاف أو مغايرة Conflit . فالقوى و الميول و السنن المتنافرة تتصادم بعنف في العديد من ميادين الواقع إن لم يكن في مجملها [...] مثل هذا الصراع هو التضاد في الخارج ، و قد يتخذ شكل الوقعة الحربية أو الصراع المفتوح . غير أنه لا يمت للتناقض بأية صلة ، ذلك أن التضاد لا يقابل بين (( أ )) و (( لا أ )) ، أي لا يضع عنصرا إيجابيا مقابل عنصر سلبي : بل إنه يضع الإيجابي مقابل الإيجابي .


يؤكد هارتمان ، إذن ، وجهة نظر كانط . إذ ما يسميه تضادا أو تنابذا واقعيا هو ما يسميه كانط بالتقابل في الخارج . فها هنا علاقة تقابل و ليس تناقض . فما يزال ثابتا إذن هو أن الحديث عن تناقضات في الواقع لغو ... فالتناقض لا يوجد إلا في الذهن ، إنه منطقي فحسب ؛ و في (( التناقض المنطقي )) تتقابل (( أ )) مع (( لا أ )) .


أما في التضاد ، أو التقابل في الخارج ، فالعكس صحيح إذ كل من المتقابلين إيجابي حتى و إن اعتبر أحيانا سلبيا .


إن هذا ما سبق لكانط أن أكده عام 1763 في (( محاولة إدخال مفهوم المقادير السلبية في نطاق الفلسفة )) . و كذلك في Beweisgrund : (( لا يمكن للطرف السالب في التضاد أن يكون النقيض السلبي للطرف الآخر إذ أن التقابل يصبح في هذه الحال في الذهن [...] فلابد حين يقع التقابل في الخارج أن يكون كِلا المحمولين إيجابيين [...] و هكذا فالشيئان اللذان يكون أحدهما سلبا للآخر لا يخلو أن يكونا بذاتهما إيجابيين )) .


و لابد لتقريب الفهم من مثلين يلحظ أولهما (( التناقض في الذهن )) و الثاني (( التضاد في الواقع )) .


إن التناقض في الذهن هو الإيجاب و السلب اللذان يطالان المحمول في نفس الآن و أثر هذه الرابطة المنطقية يبقى معدوما بالنسبة لكانط ، (( فالجسم المتحرك هو شيء ما )) .


و الجسم الذي لا يكون متحركا هو شيء ما أيضا (( و لكن الجسم الذي يتحرك و لا يتحرك في آن معا هو لا شيء )) .


(( أما (( التضاد الواقعي )) فهو ، على العكس من ذلك ، تقابل بين محمولين لشيء واحد و هو يختلف عن تقابل التناقض . ذلك أن نتيجة التقابل هنا هي شيء ما ، على الرغم من أن أحد المحمولين يلغي ، هنا أيضا ، الآخر . أن قوة معيّنة تدفع جسما بإتجاه ما و قوة أخرى معادلة تدفعه بالإتجاه المعاكس ، هاتان القوتان لا تتناقضان ، و قد تكونان محمولين لجسم واحد . و النتاج هنا هو السكون و هو ليس لا شيء ، بل شيء ما يمكن أن نتصوره ، فها هنا إذن تقابل حقيقي . و ما يحمله إتجاه من الإتجاهين في حال وُجِد بمفرده ، يلغيه الآخر . و هذان الإتجاهان هما محمولان حقيقيان لشيء واحد ، أي يحملان عليه في آن واحد . فهنا أيضا يكون الناتج لا شيء و لكن بمعنى يختلف عما كان عليه في حال التناقض )) ، إذ العدم في هذه الحال هو ، كما يقول كانط ، كسلب الملكة ، قابل للتصور : أي أنه شيء ما . كالسكون في علم الميكانيكا أو الصفر في علم الأرطماتيكا .


أما في الحال الأولى فالعدم (( سلب غير قابل للتصور )) . إنه عدم مطلق لا يتصوره الذهن ...


لا يخلو التقابل في الخارج إذن ، من السّلوب و الإعدام غير أنها من نوع يختلف تماما عن التناقض ، السلب في التناقض المنطقي هو (( لا )) (( أ )) : عدم بذاته و لذاته و هو يعبّر فقط عن الرفض ، الذي يقابل الفكر به ما تؤكده (( أ )) . أما كِلا المتقابلين في الواقع فهما على العكس من ذلك إيجابيان . (( في هذه الحال ، كما يقول كانط فإن كِلا المحمولين (( أ )) و (( ب )) إيجابيان )) أما السلب الذي يتقابلان به فهو في أن الواحد منهما يلغي أثر الآخر . و بإختصار فإن كلا ً من طرفي التضاد إيجابي حتى حين يُعرّف أحدهما بأنه النقيض السلبي للآخر .


يعطي كانط العديد من الأمثلة عن التضاد أو (( التقابل الواقعي )) : النوم و اليقظة ، التقدم و التراجع ، التسلق و الوقوع ، الدائن و المدين ... و كذلك ، كما رأينا القوى المتقابلة في الميكانيكا .


غير أنه يشدد على الكميات السلبية و الإيجابية في الرياضيات أي المقادير التي تحمل شارة الإيجاب (+) و شارة السلب (-) .


أما الخلاصة التي يصل إليها فهي نفسها في جميع هذه الحالات و هي إننا حتى و إن تحدثنا في حقل الرياضيات عن كميات (( سلبية )) و إن كنا نستطيع ، حين نتبع سبل الرياضيين ، أن نسمي الرجوع (( تقدم سلبي )) ، الهبوط (( صعود سلبي )) و الديون (( رساميل سلبية )) : يبقى كما يقول كانط : (( إن الهبوط لا يتميّز عن الصعود كما تتميّز (( لا )) (( أ )) عن (( أ )) ، بل إن العكس هو الصحيح إذ الهبوط إيجابي بقدر الصعود و إن تتضمن بذاته علة السلب فالسلب لا ينفك هنا عن فعل الصعود )) .


فها هنا إذن إستنتاج مهم . و هو أنه لا توجد أشياء سلبية من حيث ذاتها ، أي سلوب بالمعنى العام و بالتالي لا ـ موجودات و ذلك من حيث تكوينها الذي لا ينفك عنها ، فما ينفي أو يلغي آثار شيء ما ، لا بد أن يكون ، هو نفسه ، (( علة إيجابية )) .


و ليست الكميات السلبية سلبا للكمية ، أي لا ـ كمية و بالتالي لا ـ وجود أو العدم المطلق . فالأشياء و الموضوعات و المعطيات هي دائما إيجابية أي إنها موجودة و واقعية ، و ما نسميه في الرياضيات كميات سلبية هي أيضا من حيث ذاتها ، كميات إيجابية حتى و لو حملت شارة السلب (-) ، و إثبات ذلك هو في أنها قابلة للجمع فيما بينها ، فنحن نقول مثلا : -4 -5 = -9 .


و إني أعود فيما بعد إلى هذه الحجة . ذلك أنه لا بد هنا من وقفة لتدعيم و استكمال ما توصلنا إليه من نتائج . و الدقيقة الهامة التي يجب المحافظة عليها هي ما أشرت إليه في البداية : و هو أنه لا وجود (( لتناقض واقعي )) أو لتناقضات (( في الواقع )) أو (( في الخارج )) .


فمن يتكلم إذن عن تناقضات في المجتمع أو حتى في الطبيعة ، على غرار الماركسية ، يقع في العبث أو الخلف . كما أن الحديث عن واقعة متناقضة بذاتها يخلو من أي معنى . إنه يلغي جذريا مبدأ عدم إجتماع النقيضين ، و بالتالي إمكانية أي خطاب ذي معنى .


أما الشواهد التي يمكن أن نقدمها لتدعيم هذه القضية فكثيرة ، نكتفي هنا بإثنين منها : إيرفينغ كوبي ، مقدمة في المنطق :

(( لقد إنتقد مبدأ عدم إجتماع النقيضين خاصة من قبل بعض الهيغليين و علماء الدلالة و الماركسيين على أساس أنه يوجد فعلا تناقضات أو وضعيات حيث تتفاعل قوى متناقضة أو متقابلة . و نحن لا ننفي وجود قوى متقابلة في بعض الحالات فالتقابل يصح في ميدان الميكانيكا كما في ميدان الإجتماع و الإقتصاد . أما القول بأن هذه القوى المتصارعة قوى (( متناقضة )) فقول غير دقيق أو رديء من حيث المصداقية .



الغاز الذي يتعرض لحرارة تُمدده حتى حافة الإنفجار ، و الإناء الذي يمنع تمدده ، هما ضدان ، مثلهما مثل القوى المتقابلة المتصارعة و ليسا نقيضين تقوم علاقة السلب فيما بينهما أي علاقة ينفي من خلالها واحدهما الآخر .



إن مالك مصنع كبير يتطلب تشغيله آلاف العمال ، يمكن أن يواجه نقابة العمال ، و كما يمكن أن تواجهه أيضا ؛ [...] غير أنه لا يمكن أن نقول أن المالك هو سالب النقابة أو أن النقابة هي نقيض المالك ... )) ثم أن كوبي يخلص إلى القول (( بأن (( مبدأ عدم إجتماع النقيضين )) صحيح متى أخذ على مأخذه المخصوص و هو دقيق لا يمكن نقضه )) .



فها هنا إذن ، و كما نلحظ ، ترداد للأطروحات التي وجدناها عند كانط و نيقولاي هارتمان . إن التناقض هو منطقي فقط ، أما الكلام _الذي يسوقه الهيغليون و الماركسيون_ عن تناقضات واقعية فخُلف و محال . لا شك أن الواقع _أي المجتمع و الطبيعة_ يحمل متقابلات و صراعات غير أن هذه المتقابلات لا تمت للتناقض بأية صلة . فطرفا المتقابلين في الخارج ليسا متناقضين . و كذلك القوة التي تكون ضد قوة أخرى لا ترتبط بها كما ترتبط (( أ )) بـ(( لا أ )) .


أي إن القوة المضادة ليست بذاتها و لذاتها سلبا أو نفيا ، بل إنها شيء إيجابي و واقعي . فالواقع لا يغتصب مبدأ عدم إجتماع النقيضين كما يفترض به أن يفعل في حال سيادة (( التناقضات الواقعية )) . فهذا المبدأ هو كما يقول كوبي صحيح تماما و لا يقبل النقض .



و هاكم الآن نص آخر استخدمته في مناسبة سابقة . إنه نص من (( Abriss der Logik )) للمنطقي البولوني كازيمير أجدوكيويز : (( يمتنع إنطلاقا من مبدأ عدم إجتماع النقيضين أن تصدق قضيتان متناقضتان ـ متضادتان في آن معا . أي إن المبدأ يلزم منه عدم إجتماع معطيات متناقضة في الخارج : كأن يكون شيء ما على هذا النحو أو ذاك و أن لا يكون )) . فالكلام عن (( تناقضات واقعية )) مرده القصور في اللغة .



و غالبا ما نقصده بهذه العبارة لا يكون تناقضا ما بل (( مجرد ميول و سبل متضادة أو قوى ذات آثار و مفاعيل متعارضة )) . فالرابط بين الفعل و ردة الفعل الأثر و الأثر المضاد مختلف عن الرابط الذي يقوم بين وجود و لا وجود شيء ما . كما أن الأثر المعاكس لا يعني عدم وجود الأثر .



بل على العكس تماما : (( فإذا كان الفعل و الأثر قوتين ، فكذلك ردة الفعل و الأثر المضاد هما أيضا قوتان و ليسا مجرد (( لا ـ وجود )) القوة التي تقابلانها )) .


و يؤكد هذا الإحتجاج في هذه الحال أيضا ، تفكير كانط .


فما يقوله أدجوكويز جيدا حول الفعل و رد الفعل و الأثر و الأثر المضاد يعيد حرفيا ما شرحه كانط ، في (( محاولات )) 1763 حول الصعود و السقوط ، النوم و الإستفاقة ...


و مجمل الكميات التي تسمى سالبة : (( لا يتميز السقوط عن الصعود ، كما يشير كانط ، مثلما تتميّز (( لا )) (( أ )) عن (( أ )) . بل إنه إيجابي تماما كما أن الصعود إيجابي )) (( و الكميات السلبية ليست سلوبا للكمية )) أي لا ـ كميات و بالتالي لا ـ موجودات أو معدومات بل إنها كميات إيجابية هي أيضا .


و ها إننا نعود إلى مشكلة كنا قد لامسناها سابقا : و هي أنه يمتنع بالنسبة لكانط وجود واقع سلبي ، أي أنه يستبعد أي إمكانية تجعل من اللا ـ وجود أو النفي و السلب (و لنتفكر هنا بالرأي المعاكس الذي يبديه هيغل في هذا المقام) شيئا في وعاء الواقع .


يعتبر كانط أن جميع الأشياء ، المحسوسات ، و المعطيات و المضامين هي دائما إيجابية أو بعبارة أخرى موجودة و واقعية . و لما كانت هذه المسألة ، كما يأتي بيانه ، أم المساءل و أصلها ، وجب التوقف عندها .


أبدأ بلفت الإنتباه إلى نقطة لا يمكن التغاضي عنها على الرغم من كونها بديهية و هي أن التمايز الذي يقيمه كانط بين (( التقابل المنطقي )) و (( التقابل الواقعي )) (الأول تقابل بالتناقض ، أما الثاني فلا) يفترض تمايزا آخر أشد عمومية يقود إليه : و هو التقابل بين (( الفكر )) و (( الوجود )) بين المنطق و الواقع . (الذهن و الخارج) . و قد تكون هذه المسألة المحور الذي يدور حوله (( نقد التعقل الخالص )) . و يعبر كانط عن هذه المسألة أيضا من خلال التمييز بين (( الإمكان المنطقي )) و (( الإمكان الواقعي )) . (الإمكان في الذهن و الإمكان في الخارج) ، Causa eognoxendi et causa essendi إن الشروط التي تجعل شيئا ما موجودا مختلفة عن الشروط المنطقية التي تجعل شيئا ما في الذهن . فأن نتفكّر بشيء ما ليس كأن نكوّنه أو نجعله موجودا و بتعبير آخر فإن حدسنا فرع و ليس أصلا . أما (( الحدس التفكري )) المزعوم أو (( التفكر الحدسي )) الذي يخلق الأشياء حين يدرك أو يقرن العلم بالخلق فيفوق طاقة البشر .


يبدو أننا هنا أمام واقعية خجولة : واقعية كانطية على الرغم من ظواهرية كانط المعروفة و التي تتعرض بالنقد لجذور الواقعية . غير إن ما يؤكد وجود واقعية ما عند كانط هو على ما يبدو (( صياغته للنظرية على الحقيقة )) .


فهذه النظرية هي كما يلاحظ هايدغر بدقة ، في كتابه الوجود و الزمان نفس نظرية أرسطو : إنها نظرية التوافق أو التطابق بين الفكر و الوجود . أما الكانطية ـ المحدثة التي هزأت دائما من نظرية (( المعرفة كتطابق )) معتبرة إنها ما ورائية و دوغمائية فقد إنحرفت هنا _و ليس هنا فقط_ عن التعاليم الأصلية التي يحملها (( النقد )) (( Critique )) .


و لنعد إلى المسألة التي تهمنا . فقد قلت أن التمييز بين التقابل في الذهن و التقابل في الخارج يفترض التمايز _الذي يسميه كانط واقعي أو إستعلائية_ بين الوجود و الفكر . إلا أن هذا التمييز الأخير يقودنا إلى أطروحة أخرى ، تعتبر من أصول الفلسفة الكانطية : و هي أن الوجود لا يستوعب في المنطق ، إذ الوجود بالنسبة لكانط ليس محمولا واقعيا في الخارج .


كما إنه ليس مفهوما (أو وحدة منطقية) يضاف إلى مفهوم آخر . أي أن الوجود هو ما وراء المفهوم و خارج المنطق . و لنتذكر هنا الحجة الشهيرة حول (( Cent Thalers )) و خاصة النقد المدمر المعتمد على البرهان الأنطولوجي إلا أنه يمكننا أن نستخدم هنا أيضا آراء دافيد هيوم .


غير أن كل هذه الأمور تعيدنا إلى ما يمكن أن نسميه _لنستعيد عبارة غالية على قلب (( دلّا فلوب )) Della Vlope_ المفهوم الإيجابي للوجود الإحساسي . هذا (( الوجود الإحساسي )) يبقى غير واضح المعالم في فكر كانط ، إذ أن نظرته هذه تصطدم (( بالظواهرية )) التي تكلمنا عنها . و لكنها تبرز على الرغم من ذلك بقوة في مناظرته ضد ليبنتز .


و بعض ما نقرأ في التعليقة على المقطع السابع من (( الأنتروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية )) هو أن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه مدرسة ليبنتز ـ ولف هو في أنها اعتبرت الإحساس في نطاق التطورات غير المتشخصة و التفكّر في التصورات المتشخصة ، أي في إنها لم تجد بينهما سوى تمايزا شكليا في الذهن و ليس تمايز واقعي (نفسي) لا يتعلق بالشكل فقط بل بمضامين الفكر . و هكذا فقد عرّف الإحساسي كغياب (غياب الوضوح عن الإدراكات الجزئية) أي بغياب التمايز في حين عُرّف القصور الذهني بأنه نفس هذا التمايز .


و معلوم أن الإحساسي شيء في غاية الإيجابية و يشكل ملحقا لا ينفك عن تصور الذهن في عملية إنتاج المعرفة . إن ليبنتز هو المذنب الحقيقي ، كونه قال أسير بالأفلاطونية ، بالحدس الذهني الصافي ، أو (( بالمُثل )) التي تحجبها غواشي الذهن و التي متى أُنيرت بالتنبه ، و انجلت ، أدت إلى معرفة الأشياء كما هي بذاتها .


يعتبر هذا النص من الأصول الفلسفية ، و لا بد أن نبدأ ، كي نغنيه ببعض التفسيرات و الهوامش ، من الشواهد القطعية التي يتضمنها . ينطلق ليبنتز من (( الأفكار الفطرية )) معتبرا أن العلم لا بداية لتشكله .


و هو لا يتعرض _و ذلك على العكس من كانط_ لمسألة نشوء التعقل كإشكال يتطلب حلا ، و بالتالي فإنه لا يطرح إمكانية التحكم بالمعارف أو إمكانية نقدها . و تلعب بذلك فطرويته ، فيما يتعلق بالعنصر الإحساسي دور (( الموِزّن )) لنظرته السلبية .


فليس للإحساس برأي ليبنتز أي إسهام مخصوص بعملية المعرفة التي يعتبرها المحصلة الناتجة عن ـ تركيب عناصرها المتنافرة ، أي من الشكل / الصورة ـ الذهنية ، و المادة / المضمون في الخارج . و هكذا لا يقيم ليبنتز بين الحس و الإدراك إلا تمايزا شكليا أو تمايزا منطقيا . إن الإحساسي هو المعقول نفسه (الإتحاد بين الموجود و المعقول) غير أنه ما يزال غامضا تشوبه الغواشي . و بتعبير آخر فليس للعنصر المحسوس _في_ الخارج حقيقة مخصوصة : فهو ليس شيئا إيجابيا يقوم بذاته ، و ليس بذاته و لذاته إلا مجرد غياب (غياب للوجود !) ، إنه نقص في واقعية الشيء أو (( ظاهر )) يحجب الفكرة الفطرية التي هي بدورها فكر و واقع في آن (و هي تستحضر بحد ذاتها شروط الوجود و شروط الفكر) و يصبح العنصر الإحساسي _في_ الخارج ، على أساس هذه الرؤية ، ما يتم إستبعاده أو حذفه من خلال التحليل ، حتى تستطيع الفكرة أن تنجلي من جديد : هذه الفكرة التي تعتبر الأصل الحقيقي الواقعي الذي يقوم الإحساسي به أو عليه . (الفكرة كأصل أو (( أقنوم ))) .


و بعيدا عن أن يشكل (كما هي الحال عند كانط) (( شيئا بالغ الإيجابية )) و (( رابطة ضرورية )) بالنسبة للتعقل كي ينتج معرفة معينة ، يبدو العنصر الإحساسي _في_ الخارج ، هنا ، مجرد معطى سلبي ، و بهذا المعنى فلقد ورث ليبنتز ، بالنسبة لكانط ، جوهر المنظور الأفلاطوني ، الذي يعتبر الوجود الحسي _في_ الخارج وجودا سلبيا ، أي منظور أفلاطون الذي يجعل المادة بمثابة لا ـ وجود . و يمكننا أن نلحظ مدى إبتعاد كانط في (( النقد )) عن جميع هذه الإعتبارات و خاصة في (( الملاحظة حول _إبهام_ مفاهيم التفكر )) حيث يعاود في سياق نقده (( مبدأ المحجوبات )) (Principe des Indissernables) عند ليبنتز الحديث عن الفرق بين التقابل في الخارج و التناقض في الذهن .


و تظهر في هذه الصفحات إيجابية الإحساسي بقوة حيث لا يؤكده كانط فقط ، أن الحدث الإحساسي (أو المشاهدة) يحتوي على شيء ما يفتقده المفهوم ، بل أن هذا الشيء الإضافي الذي يقدمه (( الحدث _في_ الخارج )) هو الذي يؤمن الأصل / الأساس الذي يؤصّل المعرفة (لنلحظ هنا طابع المفرد الأرسطي الأساسي Substrat) .


و لنوجز القول ها هنا قبل متابعة الكشف عن الموقف الكانطي : فيظهر المنظور الإيجابي الذي يميز موقف كانط من الوجود (( الإحساسي _في_ الخارج )) (حتى في حدود الظواهرية التي أشرت إليها) من خلال الطبيعة الأصلية التي لا تنفك عنه و هي مختلفة عن طبيعة العنصر الذهني ـ المنطقي أو المفهومي أي إن كانط يعتبر الإحساسي عاملا مغايرا للفكر لا يرد إليه ، و هو و إن لم يكن مستقلا عن الإنّية الإنسانية فهو مستقل بالنسبة للإدراك و التعقل . فالإحساسي شيء يقوم لذاته و بقوته المخصوصة : أو إنه بعبارة أخرى هذا الإيجابي الذي يؤمن قاعدة التصديق و الحكم . و ها هنا إستنتاجات ثلاث مما تقدم . الأول و هو أن الوجود ليس محمولا أو مفهوما بل أصلا و طبيعة لا يطويهما المنطق . الثاني و هو أن الفكر و الوجود كونهما متغايرين متنافرين فإنه لا بد من التمييز بين (( التقابل المنطقي )) و التقابل في الخارج . و الأخير و هو أن الموجود في الخارج أو في وعاء الواقع لا يمكنه أن يكون سلبيا و بالتالي فإن ما يظهر في (( التقابل الواقعي )) كقطب سلبي في ذاته و لذاته انّما شيء إيجابي .


إن كل شيء يقوم هنا كما نلحظ على قاعدة المنظور الإيجابي للإحساسي . فإذا كان (( السلبي )) المتضمن في التضاد الواقعي لا يتحد مع النفي المنطقي ، أي مع المتناقض و النقيض (كـالـ(( لا )) أبيض ، بالنسبة للأبيض) بل يبقى متقابلا أو ضدا في وعاء الواقع (كالأبيض بالنسبة للأسود) فلأن الضد إيجابي في حد ذاته . أما لو صح إعتبار الواقع بمثابة السلب أو الـ(( لا )) وجود لسقط التمايز بين الصنفين من التقابل (تقابل الضد و تقابل السلب و الإيجاب و أحدهما بالآخر) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نصيحة
فاخر فاخر ( 2017 / 6 / 25 - 15:10 )
نصيحتي لمجندي البورجوازية الوضيعة أن يهاجموا الماركسية من غير سبب قوتها وهو القانون العام للحركة في الطبيعة أو المادية الديالكتيكية

اخر الافلام

.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ