الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عشرون شتاءً.. زمن الذاكرة العادية

ساطع راجي

2017 / 6 / 27
الادب والفن


في الظروف والتجارب الاستثنائية يمكن للجميع أن يسجلوا مذكراتهم كشهود وربما كضحايا، وللعراقيين ميزة او مصيبة عيشهم في ظروف استثنائية دائمة مثل اطول حرب واطول حصار و...، ولذلك يمكنهم تسجيل ونشر مذكراتهم وزمننا هو زمن الذاكرة العادية اذ تتوفر الوسائل والفرص للجميع كي يسجلوا تفاصيل حياتهم واراءهم فيما عاشوه وعرفوه، هذا زمن التدوين الاكبر..زمن الكتابة اللامحدودة التي تأتي المذكرات في مقدمتها، واذا كان التدوين المنفلت مهددا بالتجاهل بسبب السيل العارم من الكتب والمقالات والبوستات والتغريدات فإن أهميته تبقى في توفيره وثائق هائلة نوعا وكما عن الامزجة والاراء والتجارب الخاصة والحياة اليومية وهو ما سيكون وثائق للدراسات الاجتماعية والتاريخية ولكتاب الرواية، نحن مقبلون على زمن الذاكرة العادية والتاريخ العادي وهما سيهددان سلطة كتابة التاريخ النخبوية سواء لنخبة السلطة او لنخبة المعرفة، تدوين الذاكرة العادية للفرد سيحطم الاساطير المدعمة بالنخبوبية، سنعرف اشياء اخرى عن الحرب حينما يكتب الجندي العادي مذكراته غير تلك التي يقولها اعلام الوطن واعلام العدو او اعلام السلطة واعلام المعارضة، غير ما يقوله الضحايا والمنتصرون على حد سواء، ولهذا أفرح بكل كتاب مذكرات يقدم الحياة العادية او تجارب الناس العاديين الذين ما كنا لنعرفهم لولا مذكراتهم ومنهم الضابط الطبيب حمودي نشمي الذي قدم شهادته العادية عن تجربة الهجرة في كتابه (عشرون شتاءً).
المقارنة بين زمنين أو الحكم على ما نعتبره نتائج نهائية لمرحلة ما هو أخطر ما يهدد الذاكرة الجمعية، لذلك تسقط الكثير من الذكريات والمواقف بذريعة ان الحاضر ليس افضل من الماضي وهو تبرير لتجاهل الآلام السابقة، ولا أفضل من سلاح التدوين الفردي للمذكرات لمواجهة هذا الخطر، المقارنة والحكم حيل سياسية واعلامية تتورط بها المجتمعات عندما تفتقد لمعايير ثابتة تعتمدها في تقييم الصالح والطالح، عندما تقارن بين موتين وهجرتين وظلمين وتفضل احدهما على الآخر بحسب درجة الغضب او المصلحة، وشتاءات حمودي نشمي العشرون تعطينا صورا عن الحياة او عن تجربة الهجرة في تسعينيات القرن الماضي أكثر مما تعطينا احكاما وهي تؤدي وظيفة (التذكير) بموجة هجرة سابقة للعراقيين، هجرة بسبب الجوع وهي الموجة التي غرست حلم الهجرة واهوالها في الذاكرة الشعبية، ويمنحنا الكاتب ذاكرته التي تنافس ضغط الزمن الراهن ليقول ان موجة هجرة سابقة عاشها عراقيون كثر كانت شديدة الخطورة تنكرها السلطة آنذاك وبغياب اهتمام الدول الاخرى والمنظمات الانسانية وانعدام لتقنيات الاتصال، موجة هجرة فقد المئات فيها حياتهم دون انشغال اعلامي وبلا تدوين حقيقي، واذا كانت هجرة العراقيين بعد 2003 كانت في غالبها هربا من الموت فإن الهجرة قبلها كانت هربا من الجوع، لكن شهادة حمودي نشمي وشهادات اخرى تؤكد ان المهاجرين العراقيين يتحملون المخاطرة ليس فقط هربا من الموت او الجوع وانما بالاصل بحثا عن ما يعتبرونه "حياة حقيقية" فيها كل ملذات الحياة.
تراكم المذكرات العادية هو ما يمنحها اهميتها، الشهادة المفردة لن تكفي لبناء الصورة العامة لكنها تهدد الاسطورة ومن بين الاساطير التي يفتح حمودي نشمي الطريق لاعادة النظر فيها هي "صورة المؤسسة العسكرية" في التسعينيات، اذ يكشف في مذكراته عن الفساد والفوضى داخل الجيش مسجلا انتشار الرشوة والتزوير والتذمر بين الجنود والضباط، القصص التي يسردها (عشرون شتاءً) نسمع مثلها الكثير يوميا منذ سنوات طويلة لكنها لم تكتب الا نادرا بل ان الشائع في الاعلام والكتب هو العكس تماما ويوميا نستمع لاشخاص يصرخون باساطير عن الجيش نعرف جميعا انها غير حقيقية ليس في الجيش العراقي ايام التسعينيات فحسب بل ولا في اي جيش ولا في اي زمن، لكن من يتقدم ليدلي بشهادته الشخصية؟!!.
يقول احد زملاء الكاتب (ما الذي يمكن ان تفعله أكثر من أن تكون ضابطا وطبيبا كي تعيش بكرامة؟؟)، هذا العبارة مفتاحية لفهم حياة التسعينيات او العيش تحت الحصار، من عاش تلك الظروف قد لا يحتاج للعبارة الا اذا اصيبت ذاكرته او ضميره بالعطب لكن اجيالا لاحقة او بشرا آخرين لم يعيشوا في عراق التسعينات سيحتاجون لدليل او صورة للتعريف بتلك المحنة ولفهمها، اذ تسجل العبارة انهيار فهم وتقييم مجتمع لحياته، هو فقدان مفاجئ للبوصلة ولمعرفة كيفية البقاء حيا ومحترما، وتسجيل لفقدان القدرة على فهم ما يجري.
كتاب حمودي نشمي رغم صغره يقدم الكثير من الحكايات المؤلمة والشيقة عن اساليب العراقيين في الهجرة وعيشهم في بلدان قريبة وبعيدة والحيل التي يغوصون فيها سريعا من اجل النجاة بحياتهم فلا يترددون في الكذب والتزوير والخداع والمخاطرة وهو ما قد يفعله معظم البشر عندما يتعرضون للخطر، ويحكي الكتاب عن انواع عديدة من الشخصيات وهي تتصرف على سجيتها، هذه العادية في السلوك البشري تفتت التصورات الوهمية عن الذات وتهدم الاحكام العامة الجاهزة عن المهن والشهادات الجامعية والمجتمعات.
يقدم (عشرون شتاءً) رحلة شيقة لمهاجرين غير شرعيين يتنقلون بين العراق وايران واليمن والاردن وسوريا وماليزيا واندونيسيا واستراليا، ويمكن استعارة صيغة الدعاية للافلام لنقول انها رحلة التملص من مصاعب الطبيعة (من اهوار الناصرية والحويزة الى امواج المحيط الهندي) وشرطة الحدود واجراءات المطارات ومعسكرات اللجوء والجوع والمرض، الكتاب يعرض الاحلام والاوهام، الخيبات والنجاحات، الانكسار والصمود، الصداقة في امتحاناتها الكبرى والجشع في اقسى الظروف.
هذه المذكرات- الشهادة تدعو كثيرين لتسجيل تجاربهم مهما بدت عادية وغير مهمة، فهي شهادات تؤرخ حياة البشر العاديين وتمنع السلطات السياسية والمعرفية من تشويه التاريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة