الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أهل الحسيمة وظهير العسكرة:مقاربة تاريخية

عبد الرزاق العساوي

2017 / 6 / 29
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


عنوان المقالة: أهل الحسيمة وظهير العسكرة: مقاربة تاريخية
عبد الرزاق العساوي
خلقت منطقة الريف خاصة مدينة الحسيمة خلال الأونة الأخيرة الحدث بفعل حركتها الاحتجاجية، فقد أصبحت أخبارها مادة دسمة في المنابر الإعلامية المختلفة، المحلية، والوطنية، والدولية. وعلى الرغم من تباين مقاربة هذه المنابر الإعلامية للخبر، فإن هناك نوعا من الإجماع على مشروعية المطالب الاجتماعية والحقوقية للحركة الاحتجاجية بمنطقة الريف. بيد أن هناك نقاشا واسعا حول مطلب إلغاء ظهير العسكرة، وهو ظهير مؤرخ في 24-11-58، أصدرته الدولة المغربية عقب حرب الريف سنة 1958. وتفسر سخونة النقاش حول هذا الظهير بتضارب الآراء والمواقف حول استمرارية مفعول هذا الظهير من عدمها، في ظل غياب أي تصريح حكومي رسمي موثق أو اجتهاد قانوني أكاديمي حول مسألة العسكرة، فالنقاش في هذا الباب يبقى مفتوحا أمام الاجتهادات الشخصية من قبل المسؤولين الحكوميين والفاعليين السياسيين ونشطاء الحراك والصحفيين، يفتقر أغلبهم للتكوين القانوني الكافي لإصدار أحكام قانونية، ومن ثم فإن الغموض يبقى هو سيد الموقف. هنا لن ندلو بدلونا في هذا النقاش الذي ينبغي أن يستفز ذوي الاختصاص من فقهاء القانون لإصدار اجتهادات قانونية مبنية على المعرفة القانونية الرصينة. ولكن سنحاول فهم هذا الموقف الشعبي لأهل الريف من الجيش، وخلفياته التاريخية التي ربما تستند إلى ذاكرة شعبية انتقلت عبر الأجيال تختزن صور نمطية سلبية إزاء السلطة المركزية.
سننطلق من ثلاث صور متباعدة زمنيا، لكنها مترابطة موضوعيا محورها الأساسية علاقة سكان الريف بالسلطة المركزية:
الصورة الأولى: أحدات 1898
وصلت إلى الريف الحملة المخزنية العزيزية بقيادة بوشتى البغدادي لتأديب إحدى قبائل الريف هي قبيلة "ايبقوين". اعتمد القائد المخزني أسلوب الخديعة لهزم القبيلة بعدما تيقن باستحالة هزمها عسكريا، بسبب وعورة تضاريسها، ولحداثة الأسلحة التي يملكها ساكنتها بالمقارنة مع ما لدى رجال المخزن. فقام بتحرير رسالة تمويهية باسم السلطان موجهة لسكان القبيلة لربح الوقت في انتظار وصول التعزيزات العسكرية، أخبرهم من خلالها أن الهدف من الحملة ليس الانتقام منهم، ولكن فقط لفتح باب الحوار والتفاوض حول المشاكل العالقة بين "ايبقوين" ونظرائهم التجار الأوروبيين، كما منحهم مهلة ثمانية أيام للتجاوب مع فحوى الرسالة السلطانية والبدء في المفاوضات. بيد أنه وقبل انصرام الأجل المعلن وبعد وصول التعزيزات العسكرية قام بمحاصرة القبيلة المستهدفة بالانتقام المخزني، الأمر الذي دفع بالعديد من أعيانها للخروج مبكرا عن طريق البحر، بحثا عن دعم خارجي، بينما فضل آخرون البقاء والمواجهة، في حين انطلت الحيلة المخزنية على بعضهم فالتحق بمعسكر المخزن المرابط في أجدير من أجل التفاوض حقنا لدماء الطرفين، وبينما هم وسط خيمة البغدادي الخاصة، بعدما جردهم من أسلحتهم، أطلق عليهم النار جماعة وهم يؤدون صلاة المغرب، فكان أن قتل منهم خمسة عشر شخصا، وأسر ما يزيد على أربعمائة واثنين آخرين، وقد اقتادهم جميعا إلى سجن الصويرة حيث مات معظمهم.

الصورة الثانية: أحداث الريف لسنة 1958
شهدت منطقة الريف تدخل الجيش المغربي بقيادة الجنرال أوفقير، وتحت إشراف ولي العهد آنذاك الحسن الثاني عقب العصيان المدني لمنطقة الريف بعد رفض السلطة المركزية تحقيق مطالبها الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والسياسية التي لا تخرج عن وحدة الدولة. وقد خلف هذا التدخل العسكري جرحا عميقا في نفوس ساكنة الريف، ففي إحدى الشهادات الصادرة عن جمعية ذاكرة الريف جاء فيها ما يلي:" لقد كان تدخل الجيش وحشيا وحدث ما لا يمكن تصوره من المآسي والفواجع والأهوال، فقد قنبلت الطائرات التي كان يقودها طيارون فرنسيون الأسواق والتجمعات السكانية، وأحرق الجيش المحاصيل الفلاحية وخرب المنازل وغيرها من الممتلكات، اغتصب النساء وبقر بطون الحوامل وقتل المئات وخلف ألاف الجرحى والمعطوبين واعتقل الآلاف وأبعد المئات."
الصورة الثالثة:احتجاجات الريف 2017
بعد مراقبة سلبية لأزيد من سبعة شهور للحركة الاحتجاجية في الريف عقب وفاة أحد أبناء المنطقة مسحوقا في حاوية شاحنة نظافة، قررت الدولة المغربية نهج مقاربة أمنية صارمة ضد المحتجين بشن سلسلة من الاعتقالات لأبرز زعماء الحراك، مرفوقة بالتعذيب والتنكيل بالموقوفين حسب تصريحاتهم أمام وكيل الملك. وعلى الرغم من السلمية التي تطبع الاحتجاجات فإننا نلاحظ مواجهات متفرقة عنيفة في بعض الأحيان بفعل الإفراط في استعمال العنف بكافة أشكاله من قبل بعض الوحدات الأمنية، حسب بعض أشرطة الفيديو في مواقع التواصل الاجتماعي.
فمن الواضح أن الصور أعلاه تختزل لحظات حاسمة في تاريخ منطقة الريف وذاكرتها الموشومة بصور نمطية سلبية تجاه السلطة المركزية وآداتها الردعية المتمثلة في الجيش والأجهزة الأمنية، وهي صور تنتقل عبر الأجيال، وترتفع وتيره استهلاكها أثناء كل مواجهة بين الساكنة والدولة المركزية، التي فشلت في خلق وسائط بينها وبين المجتمع من قبيل الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية وجمعيات المجتمع المدني. ولا شك أن هذه الذاكرة المحلية، وإن كان يغلب عليها طابع المبالغة والتضخيم في أحيان كثير، وهذا طبيعي حسب بيير نورا، فإنها تشكل جزءا من الهوية المحلية التي ينبغي على الدولة المركزية احترامها كخطوة أولى لفتح حوار ونقاش عميق لتصحيح ما يمكن تصحيحه والاعتذار عن الأخطاء، تجنبا للاحتقان وبناء وطن كريم يسع للجميع كما نصت على ذلك توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة. بيد أن الاستمرار في سياسة صم الآذان واعتقال المحتجين وقمع الأصوات المعارضة سيقود لا محالة إلى مزيدا من التشنج بين الدولة والساكنة المحلية، كما سيغذي ذاكرتها بمزيد من الصور البشعة، مما سيؤثر على نفسية الأجيال الصاعدة التي لم تعد مستهلكة للذاكرة فقط بل أصبحت بدورها جزءا من التجربة الجديدة بحيث تشاهد الاعتقالات اليومية والتدخلات العنيفة، ومن ثم فإنها أصبحت بدورها وقودا للذاكرة المحلية، مما سياسهم في تعميق الهوة بين الدولة وسكان الريف.
ومما يزيد الأمور تعقيدا، وهو ما لا يدركه أهل السياسة الذين اتهموا الحركة الاحتجاجية بالرغبة في الانفصال قصد عزلها وطنيا، الارتباط الوثيق للذاكرة المحلية لأهل الريف تجاه الدولة المركزية بالذاكرة الجماعية للمغاربة ككل، فهي لازالت تختزن قصص وحكايات فظاعة الجيوش المتعاقبة على المغرب على الأقل منذ وصول جيش عقبة بن نافع إلى المغرب. وقد تم تشكيل الذاكرة الجماعية للمغاربة إزاء العنف الممارس من قبل الجيش عبر سيرورة زمنية طويلة الأمد تخللتها فترات صراع وتوتر، ثم يعاد إنتاجها وفق تمثلات جديدة تعكس انتظارات الأجيال ومتطلباتهم ومنظورهم للأحداث بشكل عام. وإجمالا، من خلال النقاشات العمومية والحركات الاحتجاجية التي يعرفها المغرب منذ بداية الألفية الثالثة، على الأقل، نلاحظ خضوع خطاب الذاكرة لثلاث محددات أساسية:

 المحدد العرقي: العرب/ الأمازيغ:
يتم استحضار الانتهاكات التي قام بها الفاتحون الأوائل بعد دخولهم إلى المغرب في حق الأمازيغ من تعذيب وقتل، فمثلا يصف ابن عذاري المراكشي، في كتابه "البيان المغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب" غزوات عقبة بن نافع بقوله : "وغزوته أيضا للبربر بالسوس الأدنى وهي بلد تامسنا وبلاد المصامدة فهزمهم وأفناهم وبث الخيل في بلادهم فافترقت في طلبهم إلى كل موضع هربوا إليه لا يدفعهم أحد(...) وغزوته أيضا للسوس الأقصى فاجتمع به البربر في أمم كثيرة لا تحصى ولا تكاثر بالحصى فقتلهم قتالا ما سمع به أهل المغرب بمثله حتى هزمهم وقتل منهم خلقا عظيما وأصاب منهم نساء لم ير الناس في الدنيا مثلهن".
بالمقابل، عمل التاريخ الرسمي على مواجهة هذه الذاكرة بالاعتماد على القراءات التاريخية لزعماء الحركة الوطنية التي عملت منذ سنة 1930 على انتقاء عناصر التاريخ الرسمي للدولة المغربية بعد الاستقلال، بالتركيز على عروبة الدولة، وعلى مركزية العنصر العربي وتفوقه.

 المحدد المجالي: المركز/هامش
تزخر الذاكرة الشعبية بالحكايات والقصص حول تدخل السلطة المركزية في إطار الحركة أوالمحلة ضد القبيلة، التي يصفها الخطاب المخزني من خلال مراسلاته وكتب الحوليات بنعوت قدحية من قبيل"القبائل المتمردة"، و" القبائل المارقة"، و"أهل الفتنة"، فمثلا في مراسلة سلطانية للمولى الحسن (1873- 1894) أوردها ابن زيدان في الإتحاف، يذكر: "اعلم أن جل الحياينة وخصوصا أولاد ارياب منعوا الحقوق وأظهروا العقوق، فطلب عاملهم خروج المحلة إليهم فوجهناهم صحبة ولدنا الأبر مولاي سليمان(...) فوقع منهم وعد وإخلاف، ومنع وإرجاف فنهضت المحلة المنصورة إليهم وأحاطت بالمفسدين وأخدتهم أخذة رابية ولاذوا بالفرار وتركوا الأموال والأنعام فامتلأت أيدي المحلة منها وقبضوا وقتلوا"
يحمل هذا النص صورة مختزلة عن العنف الموجه ضد القبائل والذي ساهم في تشكيل الذاكرة الشعبية، ففي بعض الأمثال الشعبية نجد ربطا بين الجيش السلطاني والجوائح، كما يتم ربط فترات المجاعة بتعسفات جيوش المحلات السلطانية.
 المحدد الأخلاقي: الفضيلة/الفساد
- مثال: مدينة سلا في القرن 18م:
شهدت مدينة سلا بعد وفاة المولى إسماعيل سنة 1727م مواجهة بين أهل سلا والجيش الإسماعيلي في قصبة كناوة بفعل التصرفات الدنيئة لعناصره، فانتفض الناس في الأخير، فسرت هذه المواجهة، حسب الرواية الشعبية، بقصة حفظ شرف النساء من تحرشات العساكر المخزنية. يحكى أن أحد زعماء سلا عبد الحق بن عبد العزيز فنيش كان ذات يوم في جنان له خارج المدين،ة يسقي كروم العنب، فوجد جنديا من عبيد المخزن قابضا على امرأة من نساء سلا من ذوي الصون والمروءة، يريد إخراجها إلى القصبة، فنادته: "يا عبد الحق هكذا ترون نساءكم يساقون على الهوان، وفعل الفواحش! لو كنا رجالا وأنتم نساء لما بلغتم هذا الذل الذي بلغناه"، فنهاه عبد الحق وطلب منه إخلاء سبيلها فسبه العسكري، وهدده، فقتله عبد الحق ورجعت المرأة سالمة إلى محلها، فجمع عبد الحق رجالا من ذوي النجدة والبأس، وذهبوا إلى القائد وطلبوا منه أن يلزم مكانه، وجمعوا العدة والسلاح وخرجوا للقصبة. فلما علم العبيد بالأمر فروا من القصبة التي ظلت فارغة. فعمد عبد الحق ورجاله إلى إحراقها وتخريبها عن آخرها، عقب ذلك تولى عبد الحق أمر المدينة وقيادتها.
 المحدد السياسي: الهيمنةالمخزنية/طموح الاستقلالية
- مثال: مدينة فاس في القرن 19م
خلال مراسيم البيعة العامة للسلطان الحسن الأول سنة 1873 بفاس طالب الدباغون بإدراج إعفائهم من المكس كشرط لعقد البيعة، بيد أن هذا الطلب الذين سحب بعدما تدخل بعض العلماء والأعيان وعدوا الدباغين بالتوسط لدى العاهل الجديد، وبالفعل تم تعليق تحصيل الجباية المذكورة لكن مرت أيام قليلة فإذا الجباة يجلسون من جديد لقبض المكس بفندق الجلد، فعاد الاستياء وتكون جمع قصد مختلف المسؤولين بالمدينة، ثم اجتمع الحشد أمام دار أمين الأمناء بنيس ابن المدني الواقعة بالقطانين، وكان الاستقبال فظا فاكتسحت الدار وتعرضت للنهب، غير أن قاضي المدينة تمكن من تهدئة الأوضاع. وفي شهر أبريل وصل السلطان إلى فاس، وبمجرد وصوله أمر بإعادة فرض المكس موضوع النزاع، فتحول لغضب على تمرد مسلح وتحصنت المدينة خلف أبوابها لكن جيش السلطان تدخل بقوة وقصف فاس البالي كما تمكن جنوده من اكتساح المدينة من جهة حي الطالعة، فنهبوا الحوانيت والدور، واحترقت الأسواق والفنادق والحوانيت.
إذن، من خلال الأمثلة أعلاه يمكن القول بأن رفض أهل الريف للعسكرة في منطقتهم هو جزء لا يتجزأ من موقف المغاربة ككل ونظرتهم السلبية إلى المؤسسة العسكرية بحكم الذاكرة الشعبية والتمثلات الثقافية المتراكمة حول الجيش. فقد فشل الجيش المغربي في كسر تلك الصور النمطية التي طبعت الذاكرة الشعبية من خلال الترويج لملاحمه وبطولاته وقربه من الشعب، كما هو الحال في دول عربية، مثل تونس بحيث يشكل الجيش مصدر ثقة للشعب بحكم موقفه المحايد كما حدث في ثورة الياسمين عقب سقوط نظام بن علي سنة 2011. بالمقابل، ظل الجيش المغربي أداة طيعة في يد السلطة المركزية لتأديب المعارضين الداخليين، والقضاء على كافة أشكال الاحتجاج، ولعل ذلك مرتبط بتداخل الأدوار وعدم وضوح الاختصاصات بحكم طبيعة الدولة المغربية التي تجمع ما بين دولة تقليدية هي المخزن الماسك بزمام الأمور، ودولة عصرية تمثل في المؤسسات الدستورية التي يبقى وجودها واجهة للترويج صور الحداثة للعالم الخارجي.
يبقى سؤالا أخيرا هو ما الذي يفسر المطالبة الدائمة لأهل الريف برفع العسكرة عن مجالهم، بالمقابل هناك صمت في مناطق أخرى ربما هي أكثر تضررا من منطقة الريف؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في محافظة المجتمع الريفي على هويته المحلية، ومقاومته لهيمنة الذاكرة الوطنية الكاسحة التي لا تعترف بالتنوع ولا تقبل فكرة العيش المشترك، بحيث استطاع المخزن النفاذ إلى عمق الهويات المحلية في مناطق متعددة من المغرب، وتفتيتها وإعادة تشكيلها وفق منظور يحقق أهدافه المتمثلة في الإخضاع والهيمنة. كما ينبغي الإشارة كذلك إلى العامل الجغرافي لمنطقة الريف الذي ساهم بدوره في الحفاظ على الهوية المحلية للإنسان الريفي الذي يشكل في نهاية المطاف استمرارية لجينات المحارب المتحصن بالجبل هربا من ذل وهوان المناطق المفتوحة صلحا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا