الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
طال التفكير
أكرم شلغين
2017 / 6 / 30الادب والفن
منذ جئت مدينة حلب قبل أشهر، للدراسة في جامعتها، وأنا أرغب بالتعرف على أكثر الأماكن شهرة فيها وعلى نقاط تحكي عنها وعن تاريخها لكنني لم أستطع زيارة إلا القليل من معالمها؛ فقد زرت فقط قلعتها الشهيرة وتجولت فيها، ومشيت في حديقة السبيل ورأيت الطاووس وتوقفت قليلاً لأشاهد شجاراً كلامياً بين مصور فوتوغرافي وواحد من زوّار الحديقة، وفي ركن منها شممت رائحة التعفن إثر جفاف مياه أحد الروافد المائية الذي يمر بمحاذاتها. ليس ذلك كافياً، هناك المزيد وهو كثير. ذات يوم عطلة من ذلك العام قررت زيارة جامع حلب "الكبير" فاستدللت ممن يعرفون موقع الجامع من المدينة وبُعده عن مكان سكني في حي المحافظة ومشيتُ قاصداً المكان. في طريقي إليه مررت عبر أكثر من حي وبجانب أكثر من جامع إلى أن وصلت حياً قديماً ضاقت شوارعه وبانت حجارته تحكي التاريخ، توغلت أعمق في ذلك الشارع فوصلت أمام باب بناء مسجد قديم جداً، نظرت لداخل الباب فرأيت أنه يتكشف عن أدراج حجرية قديمة تنحدر أسفلاً لتصل بهو الجامع، توقفت وأنا لا أعرف إن كنت قد أصبحت فعلاً في المكان الذي أقصد زيارته أم لا! كان ازدحام الناس وحركتهم التي تنبض بالحياة كفيلان بتوقفي هناك دون أن أستعلم عن اسم الجامع الذي أقف قريباً من بابه الخارجي. كانت عيني تتفحصا المكان الذي وجدت نفسي وسطه بكل ما فيه، بضيق الشارع، بالحجارة القديمة التي تقف لتشكل الجدران العالية القديمة التي تفصل عما بداخلها عن الشارع ومنها تلك المتلاحقة المتراصفة على الأرض. دفعني الفضول، وسط هذا الجو الملفت، للتحديق بوجوه الناس لأتعرف على موقعهم من الصورة الجماعية التي كانت ترتسم خطوطها في رأسي عن حلب وأهلها. كانت غالبية من أراهم هناك من الرجال، وإن حدث وسارت امرأة عبر تلك المنطقة فقد كانت متشحة بالسواد الكامل بلباسها، تمر مسرعة دون أن تتوقف أو تتباطأ. فأنا هنا وسط مناخ يختلف عن ذاك الذي عرفته في بلدتي الصغيرة وكذلك الذي عرفته في الجامعة.
فجأة، وأنا مأخوذ بما وبمن يمر أمامي، جاء أحدهم ووقف مديراً ظهره لجدار الجامع بموازاة الباب ووجهه للمارة، كان الرجل مسنّاً وربما في النصف الأول من سبعيناته، قصير القامة نحيل القدّ أشيب الشعر وقد انحنت رقبته للأمام قليلاً. كان يحمل فوق راحتي يديه، المرتفعتين حتى وصلتا مستوى صدره، صغيراً حديث الولادة بالملف الأبيض وعلى قماش الملف، عند الصدر، عُلّق بدبوس مقفول مصحفاً هو الأصغر حجماً بين كل ما رأيت من مصاحف من قبل. أثار المشهد رغبتي في معرفة ما وراء هذا الرجل. أتراه متسولاً حمل الصغير ليثبت احتياجه لتربية أطفال أصغرهم ما هو محمول فوق راحتي يديه؟ أم أن من يحمله يحتاج لعمل جراحي لا يستطيع تكبد نفقاته بمفرده ولهذا لجأ للناس عامة بغرض المساعدة؟ اقترب منه رجل آخر وقال: ما شاء الله على هذا الوجه! فردد حامل الكائن الصغير الملفوف إنها طفلة استلمناها قبل قليل... كرر السائل بنبرة استفهامية: "طفلة؟" فأجاب حاملها: "نعم، ما شاء الله إنها كالقمر...إكراما لله من يريدها...؟" عندها بات واضحاً أن الرجل حملها من مكان ما يعمل فيه، كأن يكون جمعية ترعى الصغار والأيتام ومن في حكمهم من الذين لأهلهم حكاية ما، أو يودون التخلص من مواليدهم لسبب ما فيودعونهم تلك الأماكن.
رحت أرقب تلك الصغيرة فوق يدي ذلك الرجل وأفكر؛ للحظة قلت لنفسي إن الأمر لا يعنيني. بدأت تملأ رأسي أصوات البشر الذين يقتربون ليستفسروا ثم ينسحبوا وأجوبة الرجل الحيادية حيناً والميالة حيناً آخر لترغيب البشر بحمل ما فوق يديه والسير خارج المكان ثم تحفر بداخلي وهي تختلط حيناً ثالثاً بما يتبين أن الرجل قد أصبح على قرب عاطفي ممن يحمل. خطر لي أن أقترب منه وأحمل تلك الطفلة وآخذها بعيداً، وراحت هذه الفكرة تتعزز في داخلي بسرعة وصرت أحاور نفسي:
ــ إلى أين سآخذها وماذا سأفعل بها؟
ــ سآخذها لوالدتي وشقيقتي وتكون مدللة هناك وستفرحهما وهي تكبر بينهما، ستكون أختي الصغيرة.
ــ لكنّ شقيقتي ربما لن تجد الفكرة مناسبة فقد تعبت ما فه الكفاية، أما والدتي فلم تعد بواقع تربية الصغار منذ سنين طويلة وأنا أصغر أولادها.
ــ لن يقولا شيئاً وسيعتبرانها بَرَكَة؛ سأضعها أمامهما وستفرحان لرؤيتها كصغيرة وستعتنيان بها جيداً.
ــ كلا، لن يتوقعا ذلك مني وربما سأكون قد فرضت عليهما ما لا يحتسبانه.
كدت أن أحبس رغبة ظهرت فجأة وأتوقف عن تفكيري بالأمر ولكن رغبة أقوى كانت تدفعني لأن أحملها وأمضي بها. تعالى صوت الرجل وهو يقول للمارة:
"يا إخوان، أجر وثواب، عندك أولاد بحسنتها الله يوفقلك أولادك."
كانت الصغيرة هادئة وكان صوت حاملها يرتفع أكثر بينما رحت أتابع حواري الداخلي:
ــ هناك أيضاً قريبات لي ويمكنني أن آخذ الطفلة إليهن فهن بدون أطفال.
ــ ولكن أنّى لي أن أعرف ماذا ستقلن لي لو فعلت وأحضرتها إلى أي منهن خاصة وأنهن لم يتفوهن من قبل عن رغبة في التبني!؟
ــ لن تعترضن على ما سأفعله. بالضبط سأحملها لأعطيها لوحدة منهن. سأعطيها لرجاء فهي تحب الأطفال وتراجع الأطباء باستمرار لغرض الحمل، وزوجها يحب جميع الأطفال ممن يراهم ويدلل الجميع.
ــ ولكن ماذا ستقول شقيقتها الكبرى نوال والتي لم ترزق بأطفال إن أعطيت الطفلة لرجاء وليس لها؟
ــ أي منهما تستحق تبني هذه الطفلة؟
ــ الكبيرة أصبحت فرصها في الحمل والانجاب أقل...، لهذا هي التي يتعين عليّ حمل الطفلة لها؟
ــ ولكن أختها رجاء تحب الأطفال أكثر؟ سأعطيها لرجاء...!
ــ ليتهما كانتا موجودتان في هذه اللحظة لينحسم الأمر!
ــ سأحملها وأضعها في بيتنا وسننادي على الاثنتين لنرى من منهن ستحظى بها!
ــ ولكن كيف سأحملها لمكان بعيد وخارج حلب؟ كيف سأطعمها أثناء وقت السفر؟ وماذا لو راحت تبكي فجأة؟
ــ ليست مشكلة سأسأل أي امرأة أراها عما أفعله لو طرأ وحصل ما أتخوف منه.
بينما أتابع حواري تقدم رجل في خمسيناته ممن يحمل الطفلة ونقلها من راحتي يدي حاملها إلى يديه متمتماً ببعض الكلمات وكأن اتفاقاً تم بينهما. قرّبها حاملها الجديد من صدره وانطلق، لذهولي وصدمتي، يمشي بسرعه بينما كان من أحضرها قبل وقت قصير يقول بصوت عال:
" الله يبعتلك أهل يحبوكِ أكتر من أهلك!"
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الفنان #محمد_عطية ضيف #قبل_وبعد Podcast مع الاعلامي دومينيك
.. الفنان عبد الرحمان معمري من فرقة Raïm ضيف مونت كارلو الدولية
.. تعرّفوا إلى قصة “الخلاف بين أصابع اليد الواحدة” المُعبرة مع
.. ما القيمة التاريخية والثقافية التي يتميز بها جبل أحد؟
.. فودكاست الميادين | مع الشاعر التونسي أنيس شوشان