الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي

شاهر أحمد نصر

2017 / 7 / 1
الادب والفن


أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي
ميخائيل باختين
ترجمة : مالك صقور
شاهر أحمد نصر
ميخائيل ميخايلوفيتش باختين (أريول عام 1895- موسكو عام 1975) فيلسوف وعالم أدب روسي، ومنظر في الثقافة والفن الأوربيين. باحث في لغة أشكال السرد الملحمي، وأجناس الرواية الأوروبية. مؤسس نظرية جديدة في الرواية الأوربية، بما في ذلك مفهوم تعدد الأصوات في المؤلفات الأدبية. كما وضع نظرية ثقافة الأدب الشعبي الساخر عند تحليله المبادئ الفنية لرواية فرانسوا رابليه. ويُعدّ كتاب "أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي" الذي وضعه باختين في أوائل القرن العشرين من أهم الكتب الأدبية ـ النقدية التي تناولت قضايا الإبداع في روايات دوستويفسكي بطريقة جديدة لم يسبقه إليها ناقد آخر.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب فقد طبع في روسيا أربع مرات: ثلاث مرات منها إبان حياة الكاتب؛ الأولى في عام 1929، والثانية في عام 1963، والثالثة في عام 1971، أما الطبعة الرابعة فقد صدرت في عام 1979 بعد وفاته، كما ترجم الكتاب إلى العديد من لغات العالم، وصدرت عشرات المقالات والبحوث والدراسات التي تعالج مضمونه؛ ولعلّ السبب الرئيس لذلك يكمن في أنّ باختين دشنّ مرحلة جديدة في النقد الأدبي، ليس في دراسة إبداع دوستويفسكي، فحسب، بل وفي الأدب الروائي عامة، ووضع عدداً من المفاهيم النقدية الجديدة...
يتألف الكتاب من خمسة فصول. يبحث الفصل الأول في مسألة رواية دوستويفسكي متعددة الأصوات في ضوء النقد الأدبي. ويعرض نقداً لأهم الدراسات في أدب دوستويفسكي:
ينتقد باختين الدراسات التي يفهم منها أنّ أبطال روايات دوستوفسكي فلاسفة ومفكرون يتحدثون باسمه، كما هو الحال في دراسات إنغلغاردت الذي قدم دراسة هامة في أدب دوستويفسكي، لكنّه لم يكتشف السمة الأساسية في رواياته، ألا وهي تعدد الأصوات. ويبرهن باختين "أنّ دوستويفسكي هو مبدع الرواية متعددة الأصوات. لقد خلق جنساً روائياً جديداً بشكل جوهري. ولذلك لا يجوز أن تؤطر أعماله في أي إطار، ولا تخضع لأي خطة (بعد) من الخطط (الأبعاد) الأدبية ـ التاريخية التي اعتدنا أن نطبّقها على ظاهرات الروايات الأوربية. يظهر في أعماله البطل الذي بني صوته، كما يبنى صوت المؤلف نفسه في الرواية العادية. إنّ كلمة البطل عن نفسه وعن العالم لها قيمة وأهمية كلمة المؤلف نفسه، إنّها لا تخضع لصورة البطل الموضوعية كإحدى خصاله، كما أنّها ليست بمثابة لسان حال صوت المؤلف. فالكلمة تتمتع باستقلالية استثنائية داخل بنية العمل الأدبي، إنها تصدح وكأنّها إلى جانب كلمة المؤلف تتمازج وتقترن بشكل فريد معه ومع أصوات الأبطال الآخرين كاملة القيمة وفائقة الأهمية"(1).
كما ينوه باختين إلى أنّ الناقد فتشسلاف إيفانوف "يتلمس لأول مرة البنية الأساسية لسمة عالم دوستويفسكي الإبداعي، ـ وفي الحقيقة تلمسها لا أكثر. إنّه يحدد واقعية دوستويفسكي كواقعية قائمة ليس على معرفة وإدراك (الكائن)، بل على "الاختراق والنفوذ". تقوم عقيدة دوستويفسكي على مبدأ ـ تأكيد وجود "أنا" الآخر المختلف ليس كموضوع، بل كذات فاعلة أخرى". لكنّ إيفانوف "ربط فكرته بسلسلة من التأكيدات الميتافيزيقية الأخلاقية المباشرة، التي لا تصمد أمام أي اختبار موضوعي مبني على المادة نفسها التي تتضمنها أعمال دوستويفسكي. وبقيت المهمة الفنية لبناء الرواية متعددة الأصوات التي حلّها دوستويفسكي لأول مرة غير مكتشفة"(2).
ويشيد باختين بآراء الناقد أسكلدوف الذي حدد السمة الأساسية لإبداع دوستويفسكي "ولكنّه بقي أيضاً أسير رؤية دوستويفسكي الدينية ـ الأخلاقية للعالم، والمقاربة المونولوجية لمضمون أعماله... وينتقل أسكولدوف مباشرة من هذه الرؤية إلى مضمون روايات دوستويفسكي، ويبين الطريقة التي يصبح فيها أبطال دوستويفسكي في الحياة شخصيات، ويعبّرون عن ذواتهم كما هم عليه. وهكذا، تدخل الشخصية في صدام حتمي مع الوسط الخارجي، وقبل كلّ شيء ـ في صدام خارجي مع كلّ أنواع الأعراف المتفق عليها. ومن هنا، تلعب "الفضيحة" ـ كأول كشف والأكثر وضوحاً في حماسة الشخصية ـ دوراً هائلاً في أعمال دوستويفسكي. تُعدّ الجريمة، حسب رأي أسكولدوف، الكشف الأكثر عمقاً عن حماسة الشخصية في الحياة. "الجريمة في روايات دوستويفسكي ـ كما يقول ـ هي بمثابة العقدة الحياتية للمسألة الأخلاقية الدينية. والعقاب ـ هو شكل حلّها. ولذلك، فهذه وتلك كلتاهما تمثلان الموضوع الأساسي في إبداع دوستويفسكي..." فالقضية، بهذا الشكل، تدور طوال الوقت حول أساليب الكشف عن الشخصية داخل الحياة نفسها، وليس من خلال أساليب رؤيتها الفنية، وتصويرها في ظروف بنية فنية محددة ـ للرواية." ويعلق باختين قائلاً" "ولكن هذا الطريق ليس طريق دوستويفسكي"(3).
ويبرز باختين أهمية وصف ليونيد غروسمان وتوصيفه الجميل لسمات البنية الفنية لروايات دوستويفسكي عندما يقول: "إنّه يعلن التحدي الحازم للقانون الأساسي في نظرية علم الجمال. ومهمته: إزالة الصعاب الكبرى التي تواجه الفنان ـ وإقامة بناء فني موحد متكامل من المواد المتنوعة والمختلفة القيمة والأهمية والمختلفة تماماً. ولهذا نجد سفر أيوب، وإلهام القديس يوحنا، والنصوص الإنجيلية، وكلمة سيمون اللاهوتي الجديد، وكل ما يرفد صفحات رواياته، وينبئ بالنغمة المميزة للموضوع أو لأي فصل من فصولها، (نجدها) تمتزج بصورة فريدة هنا مع الجريدة، والنكتة، والمفارقة الساخرة، واللوحة السوقية، والمغالاة الفنية الزائدة، أو حتى الأهجية. إنّه يلقي بجرأة في جعبته كلّ العناصر الجديدة والجديدة منها، وهو على علم وثقة من أنّ كلّ المواد الخام للواقع الموضوعي، والمفاجآت المثيرة في القصص السوقية والصفحات الملهمة بمحبة الله في صفحات الكتب المقدسة تنصهر في معمعان عمله الإبداعي، وتندمج في تركيب جديد حاملة نغمته وبصمته العميقة الخاصة بأسلوبه الشخصي. ويستدرك باختين قائلاً: إنّ "التفسيرات التي يقدمها ل. غروسمان، تبدو لنا، غير كافية"(4).
ويؤيد باختين رأي أتو كاوس في كتابه "دوستويفسكي ومصيره"، القائل: " أنّ عالم دوستويفسكي أنقى وأصح وأفضل تعبير عن روح الرأسمالية"... في الحقيقة إنّ الرواية متعددة الأصوات ما كان بإمكانها أن تولد إلاّ في العصر الرأسمالي. ولقد وجدت في روسيا، خاصة، تربتها الخصبة، حيث داهمت الرأسمالية روسيا بشكل كارثي تقريباً، وأدرك التعدد الذي لم يمس (البور) من العوالم والمجموعات الاجتماعية، والتي لم تضعف انغلاقها الفردي، كما في الغرب، خلال عملية الظهور التدريجي للرأسمالية". ومع ذلك يؤكد باختين أنّ تفسيرات كاوس "تترك الحقيقة التي يجب تفسيرها في حاجة إلى تفسير. إذ أنّ "روح الرأسمالية" معطى هنا بلغة الفن، وبالتحديد بلغة جنس خاص من الفن الروائي. ومن الضروري قبل كلّ شيء الكشف عن الميزات (الخصائص) البنيوية لهذه الرواية متعددة الأبعاد (الخطط)، التي تفتقد إلى الوحدة المونولوجية التقليدية المألوفة. لا يحلّ كاوس هذه المسألة"(5).
ويعود باختين للتنويه بتمييز إنغلغاردت لثلاثة أبعاد يمكن لحدث الرواية أن يجري وفقها: "البعد الأول ـ "البيئة (الوسط)". هنا تهيمن الضرورة الميكانيكية (الآلية)؛ وهنا لا توجد حرية، يُعدّ كل فعل لإرادة الحياة هنا نتاجاً طبيعياً للظروف الخارجية. البعد الثاني ـ "التربة". إنّها المنظومة العضوية للروح الشعبي المتطور. وأخيراً، البعد الثالث ـ "الأرض". "المفهوم الثالث: الأرض ـ واحد من أكثر المفاهيم عمقاً، التي لا نجدها إلاّ عند دوستويفسكي وحده..." يقول إنغلغاردت عن ذلك البعد ـ إنّه تلك الأرض التي لا يمكن تفريقها عن الأبناء، تلك الأرض التي أقسم أليوشا كاراموزف أنّه يحبّها حتى الوله والجنون، وقبّلها وأجهش بالبكاء، وأمطرها بدموعه المدرارة، إنّها كلّ شيء ـ إنّها الطبيعة كلّها، والناس، والوحوش، والطيور، ـ هنا البستان الرائع الذي أبدعه الإله، وأخذ البذور من كلّ أنحاء العالم، ونثرها على هذه الأرض. هذه هي قمة الواقع العُلوي وهنا العالم، في الوقت نفسه، حيث تجري الحياة الأرضية للروح، وقد وصل إلى حالة الحرية الحقيقية... هذا هو الملكوت الثالث ـ ملكوت الحبّ، ولهذا هي الحرية التامة، ملكوت الفرح والسرور الأبديين". تلك هي، حسب رأي إنغلغاردت، أبعاد الرواية. فكلّ عنصر من عناصر الواقع (العالم الخارجي)، وكلّ خلجة، وكلّ فعل يدخل حتماً في واحدة من هذه الأبعاد الثلاثة"(6)
ويذكر باختين مقال أ. ف. لونتشارسكي حول "تعددية الأصوات" عند دوستويفسكي". والذي يتفق فيه مع الفرضيات التي وضعها باختين عن تعددية الأصوات في رواية دوستويفسكي. ومن المثير للانتباه أن لونتشارسكي يطرح مسألة أسلاف دوستويفسكي في مجال تعدد الأصوات. فهو يعدّ شكسبير وبلزاك مثالاً لهؤلاء الأسلاف. ويرى باختين أنّ لونتشارسكي محق بأنّه يمكن اكتشاف عناصر ما، تعدّ أجنة لتعدد الأصوات في دراما شكسبير. إذ ينتمي شكسبير مثله مثل رابلي، وسيرفانتس، وغريميلسهاوزن وغيرهم إلى ذلك التيار من تيارات تطور الأدب الأوربي، الذي أخذت تنضج فيه أجنة تعدد الأصوات، والذي أصبح دوستويفسكي مُنجِزاً له. ولكن، من غير الممكن، الحديث عن مسألة تعدد الأصوات المكتملة وواضحة الهدف في دراما شكسبير، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: الدراما (المسرحية) بطبيعتها غريبة عن تعددية الأصوات الحقيقية، يمكن أن تكون الدراما متعددة الأبعاد (الخطط)، لكن لا يمكنها أن تكون متعددة العوالم...
ثانياً: إذا كان بالإمكان الحديث عن تعددية الأصوات كاملة القيمة، فإنّ ذلك ينطبق على إبداع شكسبير عامة وليس على دراما (مسرحية) محددة...
ثالثاً: لا تُعدّ الأصوات عند شكسبير وجهات نظر نحو العالم، بالدرجة نفسها كما هو الحال عند دوستويفسكي...
ويرى باختين أنّه يمكن الحديث عن عناصر تعددية الأصوات عند بلزاك، ولكن عن العناصر فقط.
وينوه باختين إلى أن أ. ف. لونتشارسكي ومع اتفاقه مع كاوس، فإنّه يكشف بشكل أعمق نزعة التناقض الحادة في عصر دوستويفسكي، عصر الرأسمالية الروسية الفتية، ويكشف لاحقاً عن نزعة التناقض والازدواجية في شخصية دوستويفسكي الاجتماعية نفسه، وتأرجحه بين المادية الاشتراكية الثورية والعقيدة الدينية المحافظة (الرجعية) ذلك التأرجح الذي أعاقه في الوصول إلى الحلّ النهائي.
ويؤكد باختين أنّ الاكتشافات العظمى للعبقرية الإنسانية ممكنة فقط في ظروف محددة في عصور محددة، وهي لا تموت أبداً، ولن تفقد قيمتها مع زوال العصور التي تولد فيها. وينتقد استنتاجات لونتشارسكي الخاطئة حول موت الرواية متعددة الأصوات تلك الاستنتاجات القائمة على تحليليه منهج النشوء مباشرة... فاكتشاف الرواية متعددة الأصوات التي أبدعها دوستويفسكي سيبقى حياً حتى بعد زوال الرأسمالية(7).
ويشيد باختين باستنتاجات كيربوتين الذي يؤكد على سمة دوستويفسكي المميزة في أن يرى بالتحديد أرواحاً أخرى. "لقد وُهبَ دوستويفسكي مقدرة ما يمكن وصفها بالرؤية المباشرة لنفسية أخرى. لقد نظر في داخل الروح الأخرى، وكأنّه مسلح بعدسات زجاجية بصرية مكبرة، تسمح له برؤية أدق الفروق والتفاصيل، وتساعده في تتبع وملاحظة أكثر الأمور غير الملحوظة في كل نأمة من حياة الإنسان الداخلية (النفسية) وتحولاتها. وكأنّ دوستويفسكي يتجاوز الحواجز الخارجية، ويراقب مباشرة العمليات السايكولوجية (النفسية) التي تحصل في أعماق الإنسان، ويثبتها ويدونها على الورق... "(8)
ويرى باختين أنّ ف. شكلوفسكي في أثناء معالجته واهتمامه بأدبيات السيرة الذاتية التاريخية والتاريخية الأدبية المتنوعة والكبيرة كشف بشكل جاد وحيوي جدال القوى التاريخية، وأصوات العصر ـ الاجتماعية، والسياسية، والأيديولوجية الذي عَبَرَ طريق دوستويفسكي من خلال جميع مراحله الحياتية الإبداعية، وقد تغلغل في جميع أحداث حياته ونظّم شكلَ جميع مؤلفاته ومحتواها. وبقي هذا الجدال غير مكتمل بالنسبة لعصر دوستويفسكي ولدوستويفسكي نفسه. "وهكذا مات دوستويفسكي من دون أن يحلّ أي شيء، متجنباً العقد والتقاطعات، ولم يتصالح مع الجدار". كما يقول شكلوفسكي في كتابه "مع وضد، خواطر عن دوستويفسكي)، ويرى باختين أنّه "يمكن الاتفاق مع ذلك كلّه (مع أنّه يمكن طبعاً، مجادلة بعض أحكام ف. شكلوفسكي المتفرقة). ولكن يجب علينا أن نؤكّد هنا، انّه إذا كان دوستويفسكي قد مات "من دون أن يحلّ أيّ مسألة" من المسائل الأيديولوجية التي طرحها العصر، فلقد مات بعد أن وضع صيغة جديدة للرؤية الفنية ـ الرواية متعددة الأصوات، التي تحافظ على قيمتها الفنية، في الوقت الذي رحل فيه العصر وصار مع كلّ تناقضاته من الماضي... لكنّ دوستويفسكي "لم ينتابه القنوط من غياب الحلّ، طالما بقي المؤلف متعدد الخطط (الأبعاد)، ومتعدد الأصوات، وطالما بقي الناس يتجادلون حوله. إنّ نهاية الرواية بالنسبة لدوستويفسكي كانت تعني انهيار برج بابلي جديد"، كما يقول شكلوفسكي(9).
ويثني باختين على ملاحظات ل. غروسمان حول الطبيعة الموسيقية لطبيعة التركيب (التكوين) عند دوستويفسكي، مبيناً أنّه إذا نقلنا حكم غلينكا الذي يتلخص في أنّ كلّ شيء في الحياة متوازن من لغة النظرية الموسيقية إلى لغة نظرية الإبداع الفني، فيمكن القول إنّ كلّ شيء في الحياة بالنسبة لدوستويفسكي هو حوار، أي، يتصف بطابع التعارض الحواري. نعم، جوهرياً، تعدّ العلاقات المتوازنة طباقياً (بند ضد بند) في الموسيقى، من وجهة نظر النظرية الجمالية الفلسفية، (تُعَدّ) مجرد تنوع موسيقي للعلاقات الواضحة المفهومة بل والمنطقية. وتكمن أهمية ملاحظات ل. غروسمان في إنّه وخلافاً للباحثين الآخرين، يقترب من مسألة تعدد الأصوات عند دوستويفسكي من جانب التركيب (التكوين). إنّه لا يهتم بتعددية الأصوات الأيديولوجية في الروايات بقدر اهتمامه خاصة بالاستخدام التركيبي (التكويني) للتوازن الموسيقي الذي يربط القصص المختلفة، الداخلة في الرواية، والحبكات المختلفة، والخطط المختلفة.
هكذا يتبين أن باختين قدم تأويل تعددية الأصوات في روايات دوستويفسكي في ذلك الجزء من الأدب والدراسات المكتوبة عنه، الذي عالج بشكل عام مسائل نظريته الفنية الإبداعية. وبرهن باختين على أنّ غالبية الأعمال النقدية الأدبية التاريخية عن دوستويفسكي تتجاهل خصوصية الشكل الفني الذي يميزه، وتبحث عن هذه الخصوصية في محتويات أعماله ـ في المواضيع، والأفكار، والشخصيات (النماذج) المتفرقة المنتزعة من الروايات والتي يتم تقويمها، فقط، من وجهة نظر محتواها الحياتي. ولكنّ ذلك يُفقِر حتماً المحتوى نفسه: يُفقَدُ فيها ما هو جوهري ـ وما هو جديد والذي رآه دوستويفسكي.
ويحذر باختين من أنّ أيديولوجيا أبطال دوستويفسكي تبقى تأسر وتستعبد وعي النقاد والباحثين. لكنّ إرادة الكاتب الفنية لا تصل إلى الوعي الإبداعي الجلي الواضح. نعتقد... وأنّ كلّ من يلج تيه الرواية متعددة الأصوات سيضل الطريق فيها، ولا يقدر أن يميّز ويسمع الكلّي وراء الأصوات المتفرقة. ولا يتم غالباً التقاط واستيعاب حتى الخطوط الغامضة (الرسم الغامض) للكلي؛ إذ يتعذر على الآذان التقاط حتى مبادئ اقتران الأصوات تماماً. ويؤول ويفسر كلّ واحد على طريقته كلمة دوستويفسكي الأخيرة، ولكنّ الجميع موحدون في تأوليه، ويفسرونه بالتساوي بوصفه كلمة واحدة، وصوتاً واحداً، ونبرة واحدة، وهنا يكمن بالضبط الخطأ الأساسي، كما يقول باختين(10).
ويخصص الفصل الثاني من الكتاب إلى موضوع "البطل وموقف المؤلف من البطل في إبداع دوستويفسكي"، يعالج فيه الكاتب ثلاث نقاط من فرضيته حول تعدد الأصوات، وهي: حرية البطل النسبية واستقلاليته، وموقع صوته على ضوء مفهوم تعدد الأصوات، والمبادئ التي تساهم في تشكيل الرواية بكاملها. ويرى الكاتب أنّ ما يهمّ دوستويفسكي في البطل، ليس بوصفه ظاهرة من ظواهر الواقع، تتميز بسمات وعلامات اجتماعية أنموذجية ثابتة، وطباع فردية منطقية محددة، وليس بوصفه هيئة (شكلاً) محددة تتآلف من جمع خصال وسمات موضوعية أحادية المغزى والدلالة تجيب في مجملها عن سؤال: "من هو؟". بل يهمّه بوصفه وجهة نظر خاصة تجاه العالم وتجاه نفسه بالذات، وكونه موقفاً فكرياً يقوّم الإنسان في علاقته مع نفسه بالذات، وفي علاقته مع الواقع الموضوعي المحيط. المهم عند دوستويفسكي ليس كيف يكون بطله في العالم، بل وقبل كل شيء كيف يكون العالم بالنسبة للبطل، وكيف يكون هو نفسه بالنسبة لنفسه.
ويعالج الكاتب في باقي فصول الكتاب موضوع "الفكرة عند دوستويفسكي"، و"خصائص الأجناس الأدبية والتسلسل المركب للأحداث في أعمال دوستويفسكي"، و"الكلمة عند دوستويفسكي" مبيناً نماذج الكلمة النثرية ـ الكلمة عند دوستويفسكي"، و"كلمة البطل، وكلمة القص (السرد)، والحوار في روايات دوستويفسكي".
ويخلص الكاتب إلى أنّ هدف الكتاب هذا هو اكتشاف سمة دوستويفسكي وأصالته المتميزة، بوصفه فناناً، حمل معه أشكال جديدة للرؤية الفنية، واستطاع بفضل ذلك اكتشاف ورؤية جوانب جديدة عند الإنسان وفي حياته...
ويعدّ ابتكار الرواية متعددة الأصوات خطوة عظيمة إلى الأمام ليس في تطور النثر الروائي الفني وحده، أي ليس في تطور جميع الأجناس الأدبية التي تطور في عالم الرواية وحده، بل وفي تطور التفكير الفني للبشرية بشكل عام.
لكن الرواية متعددة الأصوات لا تغير وتستبعد أو تلغي أشكال الرواية المونولوجية، كما لا يستبعد أي جنس أدبي جديد وهو يولد أبداً أي أجناس أدبية كانت موجودة قبله. كلّ جنس أدبي يكمل القديمة وحسب، ويوسع مجال الأجناس الموجودة لا أكثر.
ويرى باختين أن الرواية متعددة الأصوات تضع التفكير الجمالي أمام تحديات ومطالب جديدة... ولقد آن الأوان وأصبح ضرورياً الانعتاق من المهارات والتقاليد المونولوجية، لكي نستوعب ذلك الحقل الفني الجديد، الذي اكتشفه دوستويفسكي، ولكي نحسن التوجه في ذلك النموذج الفني من العالم المعقد جداً الذي ابتكره دوستويفسكي.
ويظهر لقارئ كتاب "أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي" أنّ باختين الذي وضع عدداً من الأعمال اللغوية، مخصصة للمسائل النظرية العامة، وعلم البيان ونظرية أجناس الكلام؛ ابتكر أيضاً مجموعة من المفاهيم الأدبية، مثل: تعددية الأصوات، والأدب الساخر، والكرونوتوب(11) (إدراك الزمان والمكان معاً)، الكرنفالية، المينيبية، الروحي "أعلى" والجسدي "أسفل". إنّ هذه المفاهيم والكلمات التي تثير تساؤل القارئ تغني الكتاب؛ علماً أن المفاهيم والمفردات الأدبية النقدية التي وضعها باختين أصبحت متداولة من قبل النقاد في مختلف دول العالم، وتُعد الدراسات وتقام الندوات باستمرار لمناقشة هذه المفاهيم والاستفادة منها، وهذا دليل على أهمية كتاب "الأسس الفنية لإبداع دوستويفسكي"، الذي يعدّ مرجعاً ضرورياً لكلّ كاتب روائي، ولكلّ ناقد، أو طالب جامعي، أو مختص في علم الأدب.
الهوامش
(1) م. باختين ـ أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي ـ ترجمة: مالك صقور ـ شاهر أحمد نصر ـ ص10
(2) المصدر نفسه، ص13-14
(3) المصدر نفسه، ص15
(4) المصدر نفسه، ص17
(5) المصدر نفسه ، ص21-22
(6) المصدر نفسه، ص25-26
(7) المصدر نفسه، ص36
(8) المصدر نفسه ، ص37
(9) المصدر نفسه، ص39
(10)الفصل الأول، ص43
(11) إن كلمة كرونوتوب، مركب يشهد، هو نفسه في مورفولوجيته، على هذا الطابع الذي لا يقبل الفصل والذي يعيده باختين إلى تماسك الزمان والفضاء في العالم الواقعي وفي الإبداع الروائي. إنه أول معطى أساسي، بل هو المعطى الذي يضع التصنيفات الشكلانية لعلم السرد موضع التساؤل.
ويؤكد هنري ميتران أنّ باختين يؤسس نظريته أواخر العشرينات تحت تأثير مباشر لفيزياء إنشتاين. ويرى أن العودة إلى "الجمالية المتعالية" لكانط أمر ضروري لفهم المصادر التي استوحى منها باختين نظريته، ويسرد لهذه الغاية الفقرة الطويلة التالية للفيلسوف كانط: "الزمان هو الشرط الشكلي القبلي لكل الظواهر عامة. والفضاء، كشكل خالص لكل حدس خارجي، لا يصلح كشرط قبلي إلا للظواهر الخارجية. وبالعكس، ككل التشخصيات، سواء كانت موضوعاتها أشياء خارجية أو لم تكن، فإنها تنتمي دائماً اعتماداً على نفسها، باعتبارها تحديدات الذهن، إلى حالة داخلية؛ وإن هذه الحالة الداخلية، الخاضعة دوماً للشرط الشكلي للحدس الداخلي، تدخل هكذا في الزمان، فالزمان هو الشرط القبلي لكل الظواهر بصفة عامة، أي الشرط المباشر للظواهر الداخلية ومن هنا أيضا فهو الشرط المباشر للظواهر الخارجية. إذا أمكنني القول قبليا أن كل الظواهر كائنة في الفضاء وأنها محددة قبليا بعلائق الفضاء، فإنه يمكنني القول بكيفية عامة… إنّ كل الظواهر بصفة عامة، يعني كل موضوعات المعنى، كائنة في الزمان وأنها خاضعة بالضرورة لعلائق الزمان". ويعلق ميتران بالقول "إنّ هذا الترابط الكانطي بين الزمان والفضاء مسترد في كل الصيغ الباختينية".
وكما هو الأمر عند كانط، فهذا الترابط ليس متبادلا تماما، بل يستتبع خضوع الفضاء للزمان: إنّ الكرونوتوب هو زمان – فضاء، وليس فضاء - زماناً (والتي هي صيغة إنشتاين). إنّ نظرية الكرونوتوب هي نظرية الزمان الروائي أكثر مما هي نظرية الفضاء الروائي. ينبغي أن ننتبه إلى هذا جيداً، وألا ننخدع بصفة فضائي- زماني التي نجدها في الترجمات الفرنسية لباختين التي تقلب نظام الخضوع والتبعية بين هذين العاملين. "يكون الكل في عالم جوته، يكتب باختين، فضائيا - زمانيا؛ يكون الكل كرونوتوبا أصيلا". كان من الأحسن القول: كرونو- فضائيا، ونحن – يقول هـ. ميتران - من يقوم بهذا التوليد. ذلك لأن ما يعتز به باختين عند جوته هو كونه فهم وبين أن "الأشياء كائنة في الزمان وتحت سلطة الزمان". فعلا، إن الزمان "منحصر بشكل ملموس في فضاء"، و"زمان الحدث" يرتبط بشكل غير قابل للفصل تماما بـ "المكان الملموس لإنجازه"؛ لكن الزمان هو الذي يكون تحت تصرف النشاط الإبداعي؛ وداخل المحكي، الزمان هو الذي يحرك الوصف كما السرد.
وينهي هـ. ميتران دراسته معترفا بأن نظرية باختين عن الكرونوتوب مساهمة جوهرية في دراسة مكونات الرواية بل وفي دراسة الأجناس. فهي نظرية تبين زمان المؤلف في الفضاء وفضاء المؤلف في الزمان، بشكل متماسك ومتضامن… وهي تجدد تفكيرنا بشكل عميق حول علاقة الرواية والتاريخ، وعلاقة الأدب وتطور المجتمعات. وهي تساعد على أن نفهم لماذا يكون بإمكان رواية كبيرة أن تكون غنية في معرفتها بـ"كلّ شيء في الحياة". وهي تساعد التحليل الأدبي على وضع أسئلة كبرى وحقيقية حول النصوص.
لمزيد من التفصيل في موضوع الزمان والفضاء في الرواية يمكن العودة إلى مقال حسن المودن:
http://www.aljabriabed.net/n34_11muddan.htm








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن