الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إستقلالية الجامعات

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2017 / 7 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


يثار في الوسط الجامعي بين الحين والاخر موضوع استقلال الجامعة، وكأن المقصود بذلك انفصال الجامعة عن محيطها الاجتماعي او فصم ارتباطها بالدولة الممول الرئيس لها، ان لم يكن الممول الوحيد لانشطتها وبرامجها التعليمية والبحثية في معظم الاقطار العربية، وهي المستفيدة من نتاجها بصورة ملاكات علمية مؤهلة للمشاركة في عملية التنمية وادارة وتشغيل مؤسسات المجتمع المختلفة، او بحوث ودراسات علمية للمشاركة بحل الكثير من المعضلات التقنية والعلمية والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها وغيرها. ولا يختلف حال الجامعات الخاصة او الاهلية، فهي الاخرى لا يمكن فصلها عن مصالح الجهات الممولة لبرامجها او انشطتها العلمية او التعليمية، اذ انه من المعروف جيدا ان من يملك المال، انما يملك في الواقع اهم مصادر القوة والنفوذ والهيمنة في اي وسط من الاوساط جامعيا كان ام غيره. وازاء احوال كهذه، هل يمكن ان تكون الجامعة مستقلة حقا عن تأثيرمموليها الاساسيين وعن سوق العمل المستفيد من خريجيها ؟.
فماذا يقصد اذن، بأستقلال الجامعات؟, فالجامعة مؤسسة من مؤسسات المجتمع ذات وظائف واضحة ومحددة ممثلة بأعداد الملاكات العلمية والتقنية التي يحتاجها المجتمع، واجراء البحوث العلمية بهدف اثراء المعرفة الانسانية والمشاركة بحل المعضلات التقنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فضلا عن خدمة المجتمع ونشر الثقافة والمعرفة. ولكي تؤدي الجامعة وظائفها على الوجه المطلوب لابد ان تنظم عملها مجموعة قوانين وانظمة وتعليمات، وان تكون لها هياكل علمية وادارية ممثلة بالاقسام العلمية والكليات والمعاهد والهيئات ومراكز البحوث والمديريات الادراية الساندة، وتوصيف وظائف كل منها في ضوء قوانين الجامعة ونظمها الدراسية والادارية وتحديد صلاحيات مجالسها على مستوى الجامعة والكلية والقسم العلمي ومراكز البحث، وكذا الحال بالنسبة لرئيس الجامعة وعميد الكلية ورئيس القسم ومدير المركز ومدير القسم الاداري. وبذلك تتمكن الوحدات العلمية والادارية اداء هذه الوظائف بصورة واضحة ومحددة.
وبذلك لا تختلف الجامعة عن اية مؤسسة صناعية او اقتصادية او ثقافية اذ لكل منها منهجها في العمل لتحقيق اهدافها، وهي دون شك خاضعة لاجراءات الرقابة وتقويم الاداء من قبل مموليها والجهات المستفيدة من خدماتها، وفي حالة الجامعة أن الجهة الممولة عادة ما تكون الحكومات والمؤسسات الصناعية الكبرى، والجهات المستفيدة هي المجتمع بأسره الذي يحق له مساءلة الجامعة وتقويم ادائها بالاتجاهات العامة ومدى قدرتها على تلبية حاجاته، وهو امر طبيعي تمارسه منظمات المجتمع المدني ومؤسساته المختلفة. ان المساءلة هنا لا تعني التدخل بتفصيلات عمل الجامعة اليومي او مقاضاة المسوؤلين فيها امام المحاكم فيما يتعلق بعملهم الا بعد رفع الحصانة عن اي منهم بموافقة مجلس الجامعة حصرا. والذي ينبغي ان لا يحصل ذلك الا في اضيق الحدود وفي حالات الضرورة القصوى وفي حالات التلبس بجناية.
ومن ذلك يمكن القول انه اذا ما احسنت الجامعة اداؤها لوظائفها ومارس المسؤولون صلاحياتهم كل من موقعه واشيع مفهوم العمل المؤسسي من خلال تفعيل عمل المجالس المختلفة في الجامعة، فأنه يمكن ضمان عدم التدخل في شؤونها من اية جهة كانت الى ابعد الحدود، وبذلك تكون الجامعة قد صانت حرمها وامنت سير اعمالها بكل حرية وامان وابعدت عنها الشبهات بأنها برج عاجي لا تعي مشكلات مجتمعاتها ولا تلبي حاجاتها وتعيش ترفا فكريا لا يمت بصلة الى واقع الحياة المعاصرة وايقاعاتها المتسارعة في التطور العلمي في شتى المجالات. فجامعات اليوم هي غير جامعات الامس، اذ اضحت جميع وظائفها شأناً عاماً وهما من هموم المجتمع، اذ لا يمكن اعداد الملاكات العلمية بمعزل عن سوق العمل وفهم الياته ومعرفة احتياجاته، والا تكون الجامعة تشارك بتخريج ملاكات لا يمكن الافادة من مؤهلاتها، الامر الذي يعني هدراً في المال العام من جهة، وتعطيل حركة تقدم المجتمع من جهة اخرى، فضلا عن تفاقم ما بات يعرف ببطالة الخريجين في الكثير من المجتمعات اذ تصل نسبة هذه البطالة الى اكثر من (40% ) من مجموع الخريجيين في الكثير من الاقطار العربية، فضلا عن البطالة المقنعة اي توظيف ملاكات علمية بدون عمل حقيقي. وفي العراق تفوق هذه النسبة مثيلاتها في الدول العربية كثيرا وقد تصل أكثر من (70%) من إجمالي عدد الخريجين, ذلك أن أغلب المؤسسات الإنتاجية متوقفة عن العمل منذ عام 2003.
ومن هنا اصبح لزاماً التنسيق بين الجامعات وحقل العمل لتأمين تخريج ملاكات علمية يمكن الافادة منها في سوق العمل، ويتطلب ذلك التشاور المستمر بين الملاكات التدريسية الجامعية والمسؤولين في المؤسسات المختلفة في مجالات اعداد المناهج الدراسية واساليب التدريس والتدريب والتاهيل اثناء الدراسة وبعدها وتحديد اتجاهات سوق العمل وتوصيف حاجات الوظائف المختلفة.
وفي مجال البحوث دعت الحاجة الى اقامة شراكة حقيقية بين الجامعات وحقل العمل تمثلت بتبني مشاريع الحاضنات التقنية ومشاريع المدن العلمية واقامة الشركات العلمية التي تعتمد التقانات المتقدمة، اذ لم يعد جائزاً اجراء البحوث لمجرد الرغبة بسبر غور الحقيقة واثراء المعرفة الانسانية، على ما لذلك من اهمية بالغة، اذ اصبحت البحوث مشاريع جامعية لايمكن تنفيذها بمجرد الاعتماد على جدواها العلمية فقط، بل بات ضرورياً التاكد من جدواها الاقتصادية في جهود التنمية لاي بلد من البلدان، والجامعة اليوم مصدر المعرفة العلمية، والمعرفة العلمية باتت تمثل الركيزة الاساسية لاي تقدم اقتصادي في اي بلد من البلدان، وهذه المعرفة لايمكن اكتسابها وانمائها الا عبر منظومة تعليمية شاملة وراقية بدءاً برياض الاطفال وانتهاء بالجامعات . لذا اصبح التفاعل بين الجامعات ومؤسسات المجتمع المختلفة امراً ملحاً وضرورياً ويعود بالمنفعة على جميع الاطـراف، ولايمثل تدخلاً في شؤون الجامعة ولا يحد من حريتها في تصريف شؤونها. وربما يتصور البعض ان الجامعة على وفق هذا المنظور قد تحولت الى مجرد مصنع للملاكات العلمية التي يحتاجها المجتمع، وان هذه الملاكات اصبحت مجرد سلعة تخضع لقوانين السوق في العرض والطلب شأنها بذلك شأن اية سلعة اخرى. ويذلك تكون الجامعة قد فقدت جزءاً من هالتها وهيبتها العلمية التي توارثتها خلال السنين في اطار فهم ضيق لوظيفة الجامعة التي يراها البعض تنحصر بأنماء المعرفة ونشرها بصرف النظر عن الافادة منها من عدمها، اذ يترك امر ذلك للخريجيين انفسهم ولمؤسسات المجتمع.
من ذلك نخلص الى ان الجامعة مؤسسة من مؤسسات المجتمع لايمكن فصلها عن المجتمع باي حال من الاحوال، وانما العكس هو الصحيح اذ يجب ان تندمج الجامعة اكثر فاكثر مع مجتمعاتها المحلية والوطنية وتتفاعل مع بيئتها تفاعلاً مبدعاً وخلاقاً، وان تعي حاجات بلدانها بكل وضوح ودقة، وان تسعى بكل الوسائل لتستجيب لتلبية هذه الحاجات بكفاية عالية، واذا كان هذا هو حال الجامعة المعاصرة، فلماذا، اذن، يستمر الحديث عن استقلال الجامعة، وعن اي استقلال يقصدون بهذا الحديث. وهنا نقول أن من يسعى حقا لمنح الجامعات العراقية حريتها وإستقاليتها , عليه أولا ابعاد الجامعة عن تاثير الاحزاب السياسية والجماعات الدينية المختلفة واصحاب المصالح الفئوية الضيقة، اي ان لا تكون الجامعات ميداناً للصراعات السياسية او الصراعات الدينية او الصراعات العرقية كما هو حالها الآن، وعيه عدم اقحام الجامعات في امور لاعلاقة لها بها, وان لا تنعكس هذه الصراعات في سياسة الجامعة في مفردات عملها في مفردات المناهج الدراسية وقبول الطلبة وسبل اعدادهم، او في مجالات البحث، فالجامعة هي لعموم المجتمع وخدمة جميع افراده، وهي تسعى الى اكتشاف الحقائق العلمية والافادة منها لخدمة مجتمعاتها. وهنا لابد من التمييز بين الجامعة كمؤسسة ينبغي عليها ان لا تخوض في الصراعات المختلفة، وحق منتسبيها من الطلبة واعضاء الهيئة التدريسية والموظفين باعتناق ما يشاؤون من مبادىء وافكار سياسية او دينية او غيرها بشرط عدم المساس او مصادرة حرية الاخرين او الحاق الاذى باي منهم بسبب اختلافهم في معتقداتهم، ذلك ان الجامعة انما هي حرم آمن تنفتح فيه جميع الافكار والمعتقدات بكل حرية وامان، كما ان ذلك لا يمنع من انتماء منتسبي الجامعة الى الاحزاب والمنظمات والجمعيات المختلفة بشرط عدم زج جامعاتهم او توظيفها لخدمة مصالح تلك الاحزاب والمنظمات من خلال مواقعهم الوظيفية في الجامعة. وعلى الجامعة مقاومة كل الاغراءات التي تقدم لها او الضغوط التي قد تتعرض اليها لحرفها عن مسارها العلمي السليم من اية جهة كانت وتحت اي تبرير او لاي سبب من الاسباب، والتي غالباً ما تتستر باقنعة براقة من العلمية والموضوعية لادخال مشاريعها الى الوسط الجامعي. وبذلك تضمن الجامعة حرية عملها واستقلالها الاكاديمي وحسن ادائها لمهامها العلمية والتربوية على وفق قوانينها وانظمتها بعيداً عن اية تاثيرات خارجية غير موضوعية وذات دوافع لا صلة لها بوظائف الجامعة.
وخلاصة القول ان الجامعة ميدان حر للتفكير العلمي دون اية قيود في جميع التخصصات علمية كانت ام انسانية وفي جميع الاتجاهات وبما يتوافق مع الحقائق العلمية باعتماد اساليب البحث العلمي وطرائقه ومناهجه، والجامعة بما تزخر به من طاقات علمية خلاقة، وبيئة علمية متفتحة، انما تمثل المكان الصحيح لتلاقح الافكار وحوار الثقافات الانسانية المختلفة من منظور حوار الحضارات وانماء الفكر الانساني الذي يمثل جهود اممية مشتركة، بعيداً عن المغالاة والتعصب، وبروح بناءة وبشفافية عالية، وبما يعود بالمنفعة على جميع المواطنين دون تمييز بسبب اللون او العرق او الجنس او المعتقدات، اذ ينبغي ان يكون العلم حقاً مشاعاً لعموم الناس، وان توظف معطياته ونتائج بحوثه العلمية لمصلحة الجنس البشري حاضراً ومستقبلاً، ولابد ان تسعى الجامعة الى احياء تراث امتها الحضاري وبعث ثقافتها من منظور عصري، وان تسعى الى الحفاظ على هويتها الوطنية كي تاخذ امتها دورها اللائق بين امم وشعوب العالم، اي ان تكون امة منتجة للعلم والثقافة والتقانة، لا ان تعيش على هامش نتاج الامم الاخر.
واخيرا نقول أن نيل الجامعات العراقية إستقلاليتها , إنما يتطلب أولا إصلاح بيئتها التعليمية التي نخرها الفساد وسوء الإدارة لأكثر من عقد من الزمان, وثانيا تشريع قوانين خاصة بكل جامعة تحدد مهامها وتخصصاتها وصلاحياتها كما كان معمول به في العراق في عقد الستينيات , حيث كان لكل جامعة عراقية قانونها , فجامعة الموصل مثلا قد تأسست بموجب القانون ذي الرقم ( 7 ) لسنة 1967, وجامعة البصرة قد تأسست بموجب القانون ذي الرقم ( 8 ) لسنة 1967 وهكذا . منح القانون رئيس الجامعة درجة وزير لتصريف شؤون الجامعة بموجب قانونها الذي منح الجامعة شخصيتها القانونية والمالية المستقلة . إلغيت قوانين الجامعات عند تأسيس وزارة التعليم العالي في بداية عقد السبعينيات. ويتوهم من يعتقد أن منح الجامعات بعض الصلاحيات أو توسيع صلاحياتها يعني أستقلالها إطلاقا لاسيما أن أغلب إن لم يكن جميع رؤوساء الجامعات وعمداء الكليات يشغلون مناصبهم وكالة مما يعني عدم إستيفائهم المتطلبات القانونية لتوليهم هذه المناصب , وكان الأجدر معالجة هذه الحالة الشاذة في الإدارة الجامعية التي مضى عليها وقت طويل والتي يبدو أنها باتت مستعصية بسبب نظام المحاصصة المقيت , وبذلك يصبح الحديث عن إستقلالية الجامعات في الظروف السائدة حاليا ضربا من الخيال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة