الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الاشياء تتداعى-.. وآلام لا تموت

منير ابراهيم تايه

2017 / 7 / 28
الادب والفن


"الاشياء تتداعى".. وآلام لا تموت
الأدب فن غير محايد مهما حاول أن يتجرد من انتمائه السياسي أو الأيديولوجي؛ ذلك انه يعبر عن رؤية فكرية، عن تصور للكون والإنسان والحياة، يسعى إلى ترسيخ مفاهيم أو تغيير مفاهيم، مستغلا قدراته النفسية والجمالية لإحداث هذا التغيير، فالكتابة عملية استرخاء نفسي تحرر الكاتب من توتره...
يقول ميخائيل نعيمة في مقالة له بعنوان "ماهية الأدب ومهمته" "وإذن فمهمة الأدب هي التعبير عن الإنسان وكل حاجاته وحالاته تعبيرا جميلا صادقا من شأنه أن يساعد الإنسان على تفهم الغاية من وجوده، وأن يمهد الطريق إلى غايته. وإذن فللأدب رسالة سامية، وكل من أنكر على الأدب رسالته كان مارقا من الأدب".. ان الأدب ليس مجرد قصة نقرأها ثم ننساها، إنه يلعب دورا هاما في حياة الإنسان والمجتمع، الأدب الجيد يساهم في تغيير رؤيتك لذاتك وللأشياء وللعلاقات الإنسانية والعالم ككل. هذا هو دور الأدب. أنا لا أتحدث عن وظيفة تعليمية أو تربوية، لكن وظيفة معرفية بالمعنى الفلسفي للمعرفة.
اعتاد الادب وخاصة الروائي منه التنبؤ بالتغيير الاجتماعي، فلا غرو أن الأدب تجسير لعلاقة الإنسان بالعالم، فهناك علاقة عضوية بين الأدب والمجتمع. الإبداع الأدبي لم يعد يقف عند حدود الجمالي أسلوبا و بيانا، فقد شكل في كثير من الأحيان أصوات المقموعين ووجودهم و إثباتا لهوياتهم، فقلم الكاتب هو لسان القارئ، وليس من قبيل المصادفة ان يتصدر الأدباء والمفكرون المشهد في كل زمان يُعَّبِدون الطرق ويَبسِطونها لما يجيش الصدور، يحملون قناديل الحكمة لتضيء الطريق، إن الصعوبة التي يواجهها المرء حين يحاول الإجابة عن سؤال لأي شيء يصلح الأدب تتعلق في جزء كبير منها بمقاربة جدوى الأدب والحاجة إلى ضرورته. ان قيمة الأدب لاتكمن في محاولة بيان كيفية انتصار المثال على الواقع، بل في العلاقة التي يقيمها الأدب مع تعدد الواقع في الزمن والمكان، الأدب يحتاج إلى بيئة مناسبة ليؤتي أكله ، إنه يحتاج حد أدنى من الحرية، حرية الفكر والتعبير بأشكاله ، فالحرية هي مرادف للابداع...
و الرواية اليوم باشكالها المختلفة هي سيدة الفنون الادبية الحديثة، "اشياء تتداعى" واحدة من الروايات الإفريقية الأكثر شهرة وتصنف على أنها من الادب الافريقي الحديث، للكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي، وإحدى علامات الرواية العالمية المعاصرة البارزة؛ كونها تعالج موضوعات مثل القومية، والهوية الإفريقية، و الاستعمار الإنجليزي في دول أفريقيا والتبشير بالمسيحية وسط القبائل الوثنية، يصور أتشيبي حياة هذه القبائل وكيف تحدت الإنجليز وبعثاتهم التبشيرية، والرجل الأبيض غاية في الذكاء، جاء بدينه في هدوء وسلام فسمحنا له بالبقاء، حتى تمكن من استمالة إخوتنا إلى جانبه وما عادت في قدرة عشيرتنا الاتحاد، وعمل المبشرين يتم في الخفاء حتى تنتشر المسيحية وتستسلم المجموعة الباقية على الوثنية؛ إلا "أوكونكو" بطل الرواية يقرر أن يحارب الرجال البيض وحده ....
تدور الاحداث حول اوكونكو بطل "اشياء تتداعى" رجل قوي شجاع طويل القامة ذو حاجبين كثيفين وانف عريض ضخم البنية طويل القامة، اب لسبعة اطفال من ثلاث زوجات، ورغم انه عصبي المزاج الا انه لم يكن رجلا قاسيا فهو يحب ابنته الكبرى ويشعر بالفخر بابنه الاكبر الذي كان يرى فيه والده، جاد ومجتهد، يسعى للتسيد في قومه والحصول على الألقاب التي تكفل له الاحترام بينهم، عن طريق إثبات قوته كونه مصارعا صلبا ومحاربا شجاعا، يعمل على زراعة أرضه وحصاد محصوله وإكثار ثروته "المال والبنون"، تصف الرواية مجرى حياته من خلال التزامه الصارم بتقاليد قريته، وإيمانه الراسخ بمعتقداتها المخلصة لديانة تتمثل في تقديس أرواح الآباء والأجداد، وتقديم القرابين لآلهة متعددة، خاصة وعامة. ومن تلك المعتقدات أسبوع السلام الذي يمتنع فيه أي شخص عن أذية الآخرين ولو بكلمة سوء، وإلا غضبت ربة الأرض ومنعتهم الحصاد، والشجرة التي تعيش فيها أرواح الأطفال بانتظار أن يولدوا وتأتي إليها النساء الشابات الراغبات في الأطفال ليجلسن في ظلها، وغابة الشر التي يمنحها الأهالي للمبشرين معتقدين أن الأرواح الشريرة التي تسكنها ستقضي عليهم. ورغم رسوخ تلك المعتقدات، كان للدين الجديد الذي أتى به هؤلاء المبشرون مع المستعمرين أثر كبير في قلب عالم أوكونكوو رأسا على عقب..
يقتل أوكونكو أحد أفراد قريته عن طريق الخطأ ، ما يستوجب عقوبة النفي في قانون الإيبو. وأثناء فترة نفي أوكونكو ،التي تستمر لسبع سنوات ، تصل طلائع البعثات التبشيرية البريطانية إلى القرية. وبعد عودته من المنفى يرى أوكونكو أن قريته قد تبدلت تماما ولم تعد كما كانت ،فالمبشرون أقاموا الكنائس وعسكروا داخل القرية ، وتدخل المستعمرون في كل شيء وفرضوا وجودهم
يرى أوكونكو في المستعمرين البريطانيين خطرا على جماعته واعلن عن رغبته في قتالهم ، ولكنه يجد نفسه وحيدا فلا أحد في القرية يدعمه ويقف إلى جانبه حتى صديقه أوبيريكا يقول له : "لقد استطاع الرجل الأبيض كسب ود أهل القرية ولم تعد هناك رغبة في قتالهم، ورغم انه اكتشف أن أفراد القبيلة تغيروا و أصبحوا جبناء إلا أنه رفض التسليم بهذا الواقع الجديد فيقوم بقتل المبعوث الذي أرسلته الإدارة الاستعمارية، ليحكم عليه بالإعدام، ورغم اعترافه بجرمه الا انه يرفض الخضوع لقانون المستعمر ويفضل الانتحار ، بعد أن يجد أن الأمور قد تغيرت ولم تعد كما كانت ، وأنه ليس باستطاعته أن يتماشى مع هذا العالم فيسقط ويتداعى بما يمثله من قيم فكل الأشياء منحوله تنهار وتتداعى...
الموضوع الاساسي الذي تركز عليه الرواية هو اثر الاستعمار الاوروبي والثقافة الغربية على طريقة الحياة في افريقيا عامة ومجتمع الايبو في نيجيريا بوجه خاص، لقد تناول اتشيبى المخلفات المأساوية للاستعمار البريطاني ووثق انهيار الحياة القبلية التقليدية في وجه الوجود الاستعمارى البريطانى فى نيجيريا، تشينوا اتشيبي كمقاتل فكري ومستفز يتوجه في هذه الرواية الى القراء الغربيين وخاصة قراء جوزيف كونراد في روايته "قلب الظلام" لان كونراد صور افريقيا بصورة سلبية حتى انه يتهمه بانه عنصري بامتياز، الفكرة الأساسية في الرواية إثبات وجود ثقافة إفريقية خلافا لما تزعمه الحضارة الأوروبية التي تدّعي أنّ أفريقيا قارة متوحّشة يسكنها مجموعة من البدائيين، فحرص على الحديث على عادات قومه الاجتماعية "تعدد الزوجات، الأعياد، الاحتفالات الدينية وتقديم القرابين، استشارة الكاهنة" مواسم الحرث، والحصاد، منافسات في المصارعة ومعاهدات الصلح بين القبائل، وقوانين الرهائن... يكتب أتشيبي روايته بإنجليزية تتخللها أسماء لأشخاص واماكن والآلهة بلغة نيجيرية محلية، ولذلك فتجدها أسماء صعبة القراءة غريبة الوقع على الاذن، وربما يجد القارئ ذلك أمرا يمكن التغاضي عنه في مقابل المتعة التي يجدها وهو يقرأ عن الخرافات والأساطير التي تؤمن بها قبيلةٌ نيجيريةٌ في ذلك الوقت، فجعل من الرواية مرآة ينظر فيها الأفريقي ليرى نفسه أنه ليس ذلك الهمجي الذي وصفه المستعمر، ويرى أفريقيا غنية بالتراث والثقافات واللغات، فيعرف أنها ليست أرضا بلا ماضٍ أو ثقافة أو هوية كما واظب الفكر الاستعماري على تصويرها. من المؤكد ان اتشيبي كان يعاني صراعا نفسيا ودليل ذلك انه غير اسمه الحقيقي البرت تشينو الوموجو اتشيبي الى اتشينوا اتشيبي ليعكس بذلك ارتباطه باصوله الافريقية وهويته المنتسبة للايبو اكبر القبائل النيجيرية، انها قصة مكابرة انسان من العالم الثالث متمسك بتراثه ولكنه تمسك فردي لا جماعي ينتهي بالاندحار، ان ابرز ما اثر في اتشيبي ذلك الصراع بين الهوية التي فرضت عليه وهويته الاصلية كونه افريقي، والرواية تكشف اساليب الاختراق والقمع والتشويه للتراث النيجيري وتكالب المؤسسة العسكرية والاقتصادية والدينية الاجنبية على زعزعة الكيان الافريقي، انها تكتسب مصداقيتها من كونها لا تقدم الصراع على انه صراع بين خير افريقي وشر اوروبي بل تشرح عملية الغزو الذي يتم على جبهات مختلفة يستغل الثغرات في الكيان الافريقي وثقافته ليمتلكه ليمحوه لا ليتفاعل معه او يستفيد منه كونه رافدا حضاريا، فالتغييرات التي تطرأ عى المجتمع النيجيري بعد الغزو الانجليزي والتبشير المسيحي تجعل من استمرارية القيم امرا مستحيلا ورغم ان الرواية تبين العجز الافريقي فهي تفضح آليات الاستعمار الذي يستخدم القوة لارساء هيمنته....
لا عجب إذن فى اختيار هذا الاسم للرواية "الاشياء تتداعى" او الترجمة الحرفية "عندما ينهار كل شىء" فقد انهار بالفعل كل شىء، حتى انتهت بقيام البطل "أوكونكو" بقتل نفسه








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد