الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أغرب تحقيق في نيابة أمن الدولة

مصطفى مجدي الجمال

2017 / 7 / 29
سيرة ذاتية


حدث هذا في أبريل 1989.. وقد ذكرت في مقالات سابقة أنه قد ألقي القبض علي كالمتهم الأول في قضية "تنظيم سري" يخطط لقلب نظام الحكم.. أما السبب المباشر فكان الاتهام بطباعة وتوزيع منشور عن رفع أسعار الخبز.. وكان من ضمن المتهمين في القضية خمسة زملاء من الإسكندرية وأربعة من القاهرة وواحد من كل من المحلة وبورسعيد وأسوان وواحد آخر غيري من المنصورة (صاحب مكتبة، وللغرابة عضو بالحزب الحاكم وكانت هناك محاولة فاشلة لجعله "شاهد ملك")..

ذهبنا من السجن إلى مبنى نيابة أمن الدولة في ضاحية مصر الجديدة (محكمة الأسرة بشرق القاهرة الآن) في سيارة "بوكس" وراءها لوري محمل بجنود الأمن المركزي وأمامها موتوسيكل يفتح الطريق.. كن موكبًا حقيقيًا لم يقف في أية إشارة.. وبمجرد دخولنا المبنى فوجئت بعاصفة من التصفيق وجمع كبير يضم إخوتي وأصدقائي وعدد كبير من المحامين وآخرين لم أعرفهم من قبل..

كنت قد رفضت التحقيق في أول عرض على النيابة قبل يومين لعدم وجود محامٍ، وفي العرض الثاني كان المرحوم الأستاذ عبد الله الزغبي هو المحامي عني ومعه محامية شابة من مكتبه. وطلبت من بقية المحامين أن يحضروا التحقيق مع المتهم الآخر المقتاد معي.. وقلت لهم "القضية هناك معه".. وفهموا سريعًا أن المتهم الآخر من المنصورة هو موضع الخطر.. وامتثلوا لطلبي.

كان وكيل النيابة في الثلاثينيات، وفي الحقيقة كان مهذبًا وقد بدا لي من تسلسل الأسئلة كما لو كان يتعامل مع متهم خطير جدًا، ربما كان هذا بسبب المؤتمر الصحفي الخاص الذي عقده وزير الداخلية وقتذاك زكي بدر ليعلن عن اكتشاف خلية شيوعية خطيرة قيادتها في المنصورة (العبد لله)..

ولأنني من النوع الذي يتمعن في الأشخاص جيدًا، وربما يكتشف الثغرات فيهم بسرعة، فقد أدركت أن الرجل كان غير مقتنع في قرارة نفسه عند بداية التحقيق أن هذا النحيل الماثل أمامه يمكن أن يكون خطيرًا لهذه الدرجة التي تحدث عنها الوزير، لكنه بمضي التحقيق أخذ يتعامل معي بفضول شديد.. كما بدا لي أنه شخص غير خبيث ولا يتذاكي، ووجهه مسطح بلا أي ملامح تلفت النظر، ومن المؤكد أنه من أصول أرستقراطية (وهو ما استنتجته من هدوئه طريقة هندامه).. والغريب أن كل ما ضايقني منه هو نطقه لحرف الدال مخلوطًا بحرف التاء!!

كنت قد فكرت كثيرًا في الزنزانة عن كيفية المواجهة في التحقيق والاستعدلد لكل المفاجآت المحتملة.. فكتبت في قصاصة ورق صغيرة بعبارات مبهمة لا يفهمها غيري عن كيفية الرد على أي مفاجأة، وظللت طوال التحقيق ممسكًا بقصاصة الورق كما لو كانت منديلاً ورقيًا.. كما استعدت في ذاكرتي كل ما سبق أن تعلمناه عن كيفية التعامل مع التحقيقات الأمنية والقضائية.. وكنا نلخصها على سبيل المزاح في عبارات : "لا"، "ماعرفش"، "ماحصلش"، "ماكنتش هناك"، "ماشفتش"، "ماعنديش فكرة"..الخ. فهل التزمت بما تعلمته؟

بعد الأسئلة المعتادة عن الاسم والسن والعمل ومحل الإقامة.. سألته عن نوع الاتهام.. فقال إن هذا سيتحدد بعد التحقيق، لكنه بصورة ودية أبلغني بالتهمة المعتادة عن تنظيم سري وقلب نظام الحكم... الخ. ولم يذكر شيئًا عن المنشور الذي اتهمت بأنني وراءه.

بدأ التحقيق الرسمي بسؤال مفاجئ ظن المحقق أنه سيربكني. كان السؤال: هل أنت شيوعي؟

على الفور جال بذهني التقليد المعتاد في التنظيمات اليسارية بخصوص عدم الاعتراف بالانتماء التنظيمي إلا بقرار حزبي، وقِست عليه أنني بتحديد هويتي الفكرية سأسهل على المحقق تكييف التهمة بالقرائن، خصوصًا في ظل نظام لا يعترف بحرية الفكر والمعتقد.. أما إذا نفيت الاتهام الفكري فإن هذا سيعرضني لمزايدات أنا في غنى عنها.. ولأنني- وأعترف بذلك- ممن يجيدون المراوغة في الحوار، أجبته الإجابة التي لم يتوقعها:
- لا يحبذ المثقف أن يُصنَّف في قوالب ثابتة حسب تصورات شائعة.

فأملى المحقق على الكاتب عبارة "لا".. فاستأذنته بأدب أن يسجل في المحضر كلامي حرفيًا.. فوافق.. وهكذا مضى التحقيق بأنني كنت من يملي على الكاتب الإجابات دون تدخل يُذكر من المحقق.

وفجأة دوى صوت هتاف ارتجت له الجدران لمتهم في نفس القضية يقتادونه في الممر: "تحيا مصر.. تحيا مصر".. فأبدى وكيل النيابة دهشته، وقال: "غريبة أول مرة أسمع الهتاف ده هنا.. كلهم بيقولوا: الله أكبر ولله الحمد".. فرد الأستاذ عبد الله الزغبي: "دي ناس وطنية يا أستاذ"..

أخذ المحقق يفتح الأحراز.. وقد فوجئت بأن المضبوطات قليلة بالنسبة للكراتين الكثيرة المملوءة بالكتب والمجلات والأوراق التي أخذتها الحملة..

أخرج المحقق من بين المضبوطات نشرتين حزبيتين إحداهما جماهيرية والأخرى داخلية.. ومن المؤكد أنهم لم يحصلوا عليها من منزلي.. فأنا أعرف ماذا أخذوا من عندي بالضبط.. كما أنني لا أحتفظ مطلقًا بأي نوع من الوثائق الحزبية في المنزل.

نفيت بالطبع ملكيتي للنشرتين.. وقلت له: هذه نسخة مصورة خارجة من ماكينة التصور حالاً، والدليل أنها "مكوية" لم تمسها يد.. كما أنها مطبوعة على وجه واحد من الورقة.

ثم أخرج كتلة كبيرة من الأوراق بخط يدي هي عبارة عن ترجمتي لكتاب كان قد كلفني به زميلي المرحوم محمد يوسف الجندي مدير دار الثقافة الجديدة وقتذاك، لكنه ظل عامين بدون نشر، وبدا ألا أمل في نشره بسبب هوجة البريسترويكا التي كانت في ذروتها وقتذاك.. ولأنه كان في رأيي كتابًا بالغ الأهمية في حينه، استعدت الأصل واحتفظت به في المنزل، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.. ومن ثم جاء مع المضبوطات..

ابتسم المحقق شبه منتصر وسجل عنوان الكتاب وعليه بخط يدي اسمي كمترجم.. كان حجم الكتاب باللغة الإنجليزية 540 صفحة، وبلغت الأصول بخطي أكثر من 1500 صفحة.. أما عنوانه فمثير: "تعاليم الماركسية اللينينية عن الاشتراكية والعصر الحديث" (بالمناسبة كان الكتاب صعبًا ومليئًا بالفلسفة والأيديولوجيا السوفيتية، ويركز على الانتقال من "الاشتراكية الناضجة" إلى الشيوعية في ظروف العصر الجديدة والثورة العلمية والتكنولوجية)..

بالطبع لم أنكر ملكيتي للمسودة وأن هذا هو خط يدي.. كان السؤال عن كيف تنكر تهمة الشيوعية إذن؟ أجبت بأن المترجم مهني غير مسئول عما يترجم؟

قال: ومن المؤلف؟
قلت: مكتوب أمام سيادتك "مجموعة من الفلاسفة السوفيت".
- وماذا كنت تنوي أن تفعل بالترجمة؟.
- يُسأل الناشر عن ذلك..
- ومن هو الناشر الذي كلفك بالترجمة؟
- الأستاذ محمد يوسف الجندي.
(ربما بدا له أنه قد بدأ يمسك بخيوط التنظيم)
قال : ومن هو محمد يوسف الجندي؟
قلت : معقولة حضرتك ماتعرفوش.. ده رايح جاي عليكم منذ الأربعينات.
قال : صدقني ماعرفوش.. ماهي معلوماتك عنه؟
قلت : هو ابن أول رئيس جمهورية في تاريخ مصر..
لم أكمل لأن الدهشة غمرت وجه المحقق، ورفع الكاتب رأسه مبتسمًا كما لو كان يتطلع لـ "مجنون جاءته النوبة"!!
قال المحقق: أنت بتتكلم جد؟
قلت له: نعم.. والده المرحوم يوسف الجندي هو من أعلن جمهورية زفتى في ثورة 1919..

عندئذ أوقفني المحقق عن ذكر بقية "المعلومات".. وأخذ يسألني أسئلة سياسية مباشرة، مثل الموقف من النظام..الخ. فانتفض الأستاذ عبد الله الزغبي وضرب بقبضته مكتب المحقق ثلاث مرات، قائلاً: "ماينفعش يا (...) بك.. أنتم جايبين الأستاذ بتهمة طباعة منشور.. فين المنشور؟ المضبوطات مافيهاش منشور.. فحضرتك بتسأل في إيه.. وأنا أناشد المتهم ألا يرد على هذا النوع من الأسئلة".. وخرج من الغرفة غاضبًا..

عاد المحقق إلى المضبوطات ليخرج مجموعة أوراق مكتوبة بخط يدي على ورق خفيف فيما بدا لي أنه مقبل على رمي آخر أوراقه.. سألني إن كان هذا خطي. قلت: نعم. واستأذنته في الاطلاع عليها فوجدتها أصل مقالة لي بعنوان "رأسمالية على الطريقة المصرية".. فتنفست الصعداء كما يقولون..

قلت : "المقالة دي مكتوبة من 14 سنة.. أي منذ أن كنت طالبًا.. ولو لاحظت فكل الإحصاءات الواردة بها تعود إلى الستينات والسبعينات.. وهي منشورة في جريدة جامعة المنصورة كتحليل اقتصادي- اجتماعي بحت لا علاقة مباشرة له بالسياسة.. وكانت الجريدة تطبع أيامها في جريدة الأهرام.. وليس من المنطقي أن أحتفظ بالأصل بعدما نشرت، ومستعد لتقديم النسخة المطبوعة غدا عن طريق أصدقائي في المنصورة.. كما أن الأهرام يحتفظ بكل أصول المقالات.. وهذا دليل على أن بعض المضبوطات جاءت عن طريق آخر غير منزلي"..

عندئذ بان لي أن المحقق يريد إنهاء التحقيق.. فسألته: هل هذه كل المضبوطات؟ قال: هذا كل ما جاءني وقد فتحته أمامك.

قلت له أريد أن أسجل الكميات الهائلة من الكتب والمجلات وشرائط الكاسيت التي أخذِت من منزلي.. فقال: اتفضل بس باختصار.

أخذت أملي على الكاتب: جميع أعداد مجلات الطليعة الكاتب ودراسات اشتراكية والهلال.. مجلات الاعتصام والدعوة والمختار الإٍسلامي..

هنا امتعض وكيل النيابة.. لكنه تركني أكمل رافعًا أحد حاجبيه..

بدأت إملاء أسماء الكتب بـ "معالم في الطريق" لسيد قطب.. أسد الغابة في معرفة الصحابة.. صحيح البخاري (جزئين)..

هنا أوقفني معاتبًا : عايز تفهمني إنك بتقرا صحيح البخاري.. طيب قوللي حديث واحد بس منه..

أحسست أنني استفززته أكثر من اللازم، فلطفت الجو مبتسمًا: "حضرتك صايم وواضح أنك عايز تسلي صيامك!!"

قال فورًا وبصدق بادٍ : هو أنا هاقابل كل يوم متهم ظريف زيك.. ماتهربش وقوللي حديث واحد.
قلت على الفور: "قال رسول الله (ص): أمسك عليك لسانك"..
ابتسم فعلاً وقال : وكمان جايب حديث ع المناسبة!!

انتهى التحقيق.. وأصر أن أقرأ المحضر كاملاً بل أن أوقع.. فقلت له: أنا واثق من صحة المحضر.. وأعترف أنني وقعت عليه دون قراءة متمهلة..

لا أعرف لماذا في هذه اللحظة وضعت في الورقة الصغيرة التي كانت في يدي.. قال: "ايه الورقة دي.. فيها إيه؟"..
قلت بثقة: "فيها نقاط للإجابة على أسئلة كنت أتوقع أن سيادتك تسألها لي"..
قال: "ممكن توريها لي؟"
قلت بابتسامة عريضة : "دي من مستندات الدفاع يافندم".. فلم يتشبث بطلبه.

أعادوني إلى مكتب وكيل النيابة بعد وقت قصير لإبلاغي بالقرار.. كان بالحبس الاحتياطي مع مراعاة التجديد في الموعد.. ثم كانت العبارة الغريبة "على أن ينفذ قرار الحبس بعد انتهاء فترة الاعتقال".. فقلت له: "سيادتك كده حولت الحبس الاحتياطي من إجراء احترازي إلى عقوبة"..
قال: "ليك في القانون كمان!!"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نواب في الحزب الحاكم في بريطانيا يطالبون بتصنيف الحرس الثوري


.. التصعيد الإقليمي.. العلاقات الأميركية الإيرانية | #التاسعة




.. هل تكون الحرب المقبلة بين موسكو وواشنطن بيولوجية؟ | #التاسعة


.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة علما الشعب جنوبي لبنان




.. المتحدث باسم البنتاغون: لا نريد التصعيد ونبقي تركيزنا على حم