الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-زرايب العبيد-.. الظلم حين يصبح قدرا

منير ابراهيم تايه

2017 / 8 / 6
الادب والفن


لكل إنسان في هذا الكوكب أدواته للتعبير عن أحاسيسه ومشاكله الاجتماعية، والأدب، بوجه عام، تعبير إنساني وميزة الأديب تكمن في كونه يمتلك ملكة التعبير ويتقن أدوات وآليات تدوين الأفكار والآراء، وبالتالي قدرته على التعبير "قدر الإمكان" عن متطلبات وأحاسيس الكائنات البشرية التي تعاني في صراعها اليومي مع ثنائية الخير والشر، فالأدب وحده القادر على تطويعنا، وكلّما تمكن الكاتب أو الروائي من أساليبه وفنونه الأدبية كلّما مهّد الطريق أكثر أمام هدفه لنخرج من عملية القراءة برغبة أكبر لعملية التحامٍ ذهنيةٍ تخلقها أجواء الرواية وتضفي عليها شيئا من روح شخصياتها.
الرق... كان تجارة رائجة بلا قيد أو شرط، وفعل غير مستهجن، بل ومترسخ في الوعي الجمعي لأبعد حدود التصور؛ عرفته البشرية على مدار تاريخها، شعوب بأكملها حُكم عليها بالدونية بسبب لونها، في "زرايب العبيد" نكتشف الجانب الآخر للتاريخ، لنرى أنفسنا أمام حقبة زمنيّة كان تعريف "الإنسان" فيها غير واضح، إذ أن مصيره وحريته لا يضمنهما إلا لونه، في هذا العمل الادبي"زرايب العبيد" التي تتناول المسكوت عنه لفترات طويلة في المجتمعات العربية، أوضاعا تاريخية غابرة عفا عليها الزمن، تسرد تاريخا جرى تجاهله وتناسيه، حيث لم يكن ينظر إلى العبيد على أنّهم بشر، لهم مشاعر وأحاسيس، حيث الإذلال هو السلوك اليومي.
بداية تذكرني برواية اليمني علي المقري "طعم اسود.. رائحة سوداء" والتي عرضت حياة اصحاب البشرة السمراء المنبوذين في المجتمع اليمني وهم يعيشون في عشش من الصفيح تشبه زرايب نجوى بن شتوان... وأظن أن أفضل من برع في تجسيد تفاصيله في الأدب هي إيزابيل الليندي في "الجزيرة تحت البحر"، فلم تغب صور الرق والعبودية وحكايات اصحاب البشرة السمراء عن صفحات الادب...
الزرائب هي مكان احتجاز الحيوانات، من القراءة الأولى للعنوان، نستنتج ان ثمة نظرة دونية الى العبيد على انهم حيوانات تخصص لهم "زرايب" يعيشون في مجتمع خاص بفئة العبيد، كما ان ثمة مجتمعا آخر يخص فئة السادة، يبيعونهم ويشترونهم، يزوّجونهم ويطلّقونهم ويقتلونهم دون أيّ إحساس بالإثم، لندرك مدى عمق الجانب الوحشي في الإنسان اتجاه أخيه الإنسان، تبدو الأحداث في الرواية مألوفة ويمكن أن تكون قد وقعت في أي مكان آخر من العالم، طالما هي تتحدث عن العبودية والعنصرية، والإقصاء، والفوارق المصطنعة، كيف يُمتهن الإنسان ويسرق كعبد، ويسلب منه حقه بسبب لونه وأصله، الرواية مُثقلة بتفاصيل حياة العبيد، محتوى أدبي جميل بقدرِ ما هو قاسٍي، يهزك الألم في العمق، يعرّي إنسانيتك، فالرواية جارحة وحادة كنصل سكين.. عالم الطبقات الدنيا عوالم المنبوذين والمنغلقين على أنفسهم حين يأبى العالم الخارجي أن يفتح لهم صدره .. ذلك العالم الذي يضج بالشقاء والبؤس والفجيعة .. لأناس تكيّفوا العيش وسط القذارة والعفن والأمراض، الفكرة الرئيسية للرواية هى مجتمع العبيد بمشكلاته ومآسيه اذ تقدم الرواية وصف مفصّل ودقيق لعالم العبيد داخل "زرايبهم" وما تحتويه من تفاصيل غريبة وعجيبة، وما في عالمهم من قسوة في التعامل بين بعضهم البعض وطبيعة أعمالهم وما تفرضه عليهم من تحمل للأذى وتقبل لقسوة تلك الحياة.. فالرجال من العبيد يستخدمون لجميع الأعمال في حياة المدن والحواضر والأرياف الليبية، وقد يخصى بعضهم لضرورة العمل في بيوت المالكين وبين نسائهم، والعبدات من النساء اللاتي يخدمن في كلّ شيء بما فيه التسري الجنسي للمالك بصفتها "ملك يمين" له.. الرواية فى مجملها تبحث في تاريخ العبودية فى ليبيا، فتعود بنا إلى زمن ما قبل الاحتلال الإيطالى لليبيا حوالى 200 عام للوراء، لتكشف جزءا من ذلك التاريخ، وتروى الكاتبة كيف انتهى تاريخ الرق فى ليبيا مع طرد العثمانيين منها على يد الاستعمار الايطالي ، الذي فرض على الناس إحصاء ما لديهم كي يستعبد بلدهم بما ومن فيه.
الحبكة في الرواية تبدأ بشاب يطرق باب عتيقة بنت تعويضة الناطقة باسم هذه الشريحة البائسة، يعرفها ويعرفنا الرجل نفسه بكونه على بن شتوان، آتى إلى عتبة بيتها ومعه الكاغد الشرعى للخادمة" ما يعرف بالنسب الشرعى" جاء ليعيد اليها عباءة ابيها مطرزا عليه اسمها الى جانب اسماء ابناءه الاخرين بالخيوط الذهبية نفسها اعترافا بنسبها الى السادة، بعد وفاة والدها ووالدتها دون أن تعرفهما، وأجدادها الذين تسببوا بشتاتها، فقد تخفت أمها في الزرايب البائسة التي يلجأ إليها العبيد المكدودون، حتى إنها تنكرت لابنتها وربتها باعتبارها عمتها وليست أمها خوفا من الانتقام، وحينما احترقت الزرايب اندفعت الأم "تعويضة" في النيران لتنقذ ورقة نسب ابنتها ولكنها لم تعد، لتتفجر المفاجأة أن الراحلة أمها وليست عمتها.
عتيقة الصبورة الصامتة كأمها، ذات العينين اللوزيتين الحزينتين، تستسلم لإلحاح علي صاحب الإطلالة البهية، المختلف عن عائلة تتنكر لها شكلا ومضمونا، تروي له ويسمع منها، على الطرف الآخر من الدم والأصل والشجن، يقر لها بالتوجع فى حضرته ما وسعها ذلك، يفتح الأبواب المؤجلة لتنتقى عتيقة موضعها من المكان والزمان والأحاسيس.
تتحدث بلسان حالها طوال الوقت، فتعرفنا بنفسها وتصف سمرتها وعيونها الخضراء التى هى سبب اختلافها لتقول: أنا عتيقة بنت تعويضة، حكايتى هى نسبى والميراث الذى لا ينازعنى فى صحته أحد، أدركت الشىء الذى أحمله مخالفا لسمرتى، عرفت أنه فى عينى، هوية لا يمكن تزييفها بقول أو بفعل، عطية منتقاة من رجل حُر من مصراتة الحمر البيض كالألمان، ذلك اللون الذى رأيته يشع فى المرآة، لون عينين لا يوجد مثلهما فى زرايب العبيد، جعلنى القدر له وجعله لى، كانت عيناى نجمتين أسطوريتين فى السماء الماكنة ما بين وسط لبلاد وزرايب العبيد.
نشأت فى الإرسالية اليوسفية تحت رعاية الراهبات وتعلمت الكتابة والقراءة بالإيطالية والحياكة، واكتشفت أن العالم به أشياء ممتعة تسعد القلب، وتلتقى عتيقة مع يوسف جوسيبى، ليدخلها فى عالمه الجديد المرتبط بالإنسانية ولا دخل له بتصنيف الإنسان بحسب لونه أو جنسه، نشأت علاقة مختلفة بينها وبين يوسف الذى كان يكبرها بسنوات كثيرة، لكنها رأت فيه رجلا مختلفا، يساند النساء ويدفعها لأن تخرج وتعمل وتكبر، يسافر يوسف للدراسة بإيطاليا وحانت لحظة وداعه، وبقيت الرسائل هى كل ما بينهما، لكنه عاد وطلبها للزواج، فتزوجا وأنجبا ابنهما محمد..
ومن قصة عتيقة إلى قصة تعويضة الخادمة، التى أحبت سيدها محمد، فقد وجد فيها ما لم يتوقع أن يجده فى خادمة، حين أثارت شغفه واستولت على قلبه واختصرت فيه كل النساء، فأثار ولعه الشديد بها الحسد والغيرة فى قلب كل من يعرفه، واعتقد أبواه فى أول الأمر أن ما بينهما مجرد نزوة عابرة تنطفئ جذوتها عندما يرتوى منها، ولكن تعلقه زاد بها وغيرة زوجته أشعلت نار الانتقام بينهما.
بعد أن عاشرها ابن سيدها، دفعها القدر إلى دفع ثمن شىء لم تقترفه من جديد، عندما نست لحم خروف على الطاولة دون قصد فتتسلل القطة وتأكله، فإذا بصاحب البيت والد عشيقها، يقرر عقابها وكأنه يعاقب فضيحتها ووقوعها فى حُب ابنه، فيحجزها ويعلقها فى القبو، وبجوارها وليدها، مُلقى فى صندوق صغير دون رحمة ولا شفقة من جده، يبكى الطفل من شدة الجوع، تنهار والدته مسترحمة السيد دون أن يلين قلبه أو يشعر بالرحمة، وتحدث المفاجأة ويموت الرضيع جوعا فى منزل والده، وحتى لا يسوء الوضع، يدعى أصحاب المنزل أن الجارية حملت سفاحا من ابنهم المراهق وأنجبت طفلا، ومن فرط إهمالها يختنق أثناء الرضاعة ويموت.... ان يعشق السيد عبدته وتعشقه، فذلك هو الزلازل....
"زرايب العبيد" محاولة لتفكيك النظام الاجتماعيّ القائم في تصورها المُسقط على نهايات القرن 19، والممتد ربما حتى اليوم على ثنائيّة اللونين: الأبيض والأسود، معرّضة بمساوئه لكنّها للمفارقة تنزلق في ذات الثنائيّة، حين تقدّم لنا شخصيّات إمّا خيّرة أو شريرة على الإطلاق.
اهمية الرواية تكمن في اننا كنا نحتاج الى أن نطّلع على هذه المرحلة من تاريخ ليبيا والشمال الأفريقي عموما لنعرف عمق المأساة الاجتماعية لمرحلة العبودية والمسكوت عنه في تاريخنا بما حلّ به من مآسي وما عاشه من عار عبر قرون وبأشكال مختلفة، وفي أحد أبعادها تتجاوز المآسي التي عانى منها العبيد إلى الظلم بصفة عامة، والانتهاكات الجسدية التي لا تُفرِّق بين الفتاة الأمة والحرّة، عبر ما ترويه عن فتاة بني وليد التي تزوجها مرعي الشروي فمشهد الزواج في حد ذاته كان بشعا إذ تقول "كانت تلعب في الشارع وجيء بها من بين اللاعبات وأخضعوها لعملية شطف سريع، ثمّ ألبسوها قفطانا أبيض يكبر جسدها وأسدلوا لها شعرها على جانبي وجهها وأمرتها نساء كبيرات بالصمت فصمتت".
بالرغم من جمال الرواية، الا أنها تصدمك ببعض السقطات، والمواقف المفاجئة وكثرة الشخصيات ذات الحضور المؤقت، صعوبة الأسماء والأماكن ووجدت بعض احداث الرواية مبالغ بها، وربما يشعر القاري بالتشتت مع تعدد الحكايات بلا تركيز على بعد واحد أو بعدين للثيمة، فالقصص مفتتة وغير مكتملة بشكل لا يسمح للقارئ بالانغماس في عوالمها، بعض الفصول التي تحوي قصصا جانبية عن العبيد، لا يعلم القارئ من يسرد أحداثها، منها قصة عن عبيد سود يُقتادون في الصحراء.. على مدار النصف الأول من الرواية تواجه القارئ صعوبة في تقبل رواية طفلة عن عالم تديره صراعات عرقية، فقد افتقدتُ في عتيقة، التي لا تخرج من دور الضحية المفصَّل لها، عدة مواصفات طفولية، فهي لا "تتشاقى" كالاطفال؛ شخصيتها ثابتة، هي دائما في حاجة اصدقائها المثاليين والطيبين بشكل غير واقعي، كي يعطفوا عليها ويواسوها في كربها، لا نرى العالم إلا من خلال عينيها الساذجتين البريئتين.
ومن نقاط الضعف في الرواية، تعدد أصوات الساردين، وتخبط الزمن، فالكاتبة لا تعبأ بترتيب الأحداث وفق حدوثها في زمنها المرجعي، ما أدى إلى اختلال واضح في سير الأحداث وتداعياتها، إضافة إلى تأطير الشخصيات في حيز ومستوى فكري محدد.. ثم فجأة نجد هذه الشخصيات تنطق بكلام وأفكار لا تناسبها من أي ناحية.
في حوار أجرته الكاتبة صرحت بأنّها لم تستند إلى مادّة تاريخيّة موثّقة في كتابة الرواية، ولم أتمكن من التقاء أي أحد وُلد أو قضى طفولته هناك، الزرائب اختفت ولم يعد هناك أي أثر لها، باستثناء بعض الصور التي التقطها الإيطاليون قبيل غزوهم ليبيا بعد أن قامت القوة المحتلة بمسح شامل للمنطقة، عثرتُ علىها عند صديق وبدأت في تأمّلها، محتويات الصورة كانت فقيرة ولا يوجد بها تفاصيل، أتذكر حفظ الصورة على حاسوبي وتحويلها إلى خلفية لسطح المكتب. استمرت هذه الصورة في شدّ انتباهي. كان مضمون الصورة بسيطا، بدأت أتأمّلها وأفكر في تعبئتها بالأشخاص المناسبين وحكاياتهم، فهل لنا ان نتخيل صعوبة عالم لم تعشه أو تعرف أحدا سبق أن عاشه، فقط مستعينة بالذاكرة، ان غابرييل غارسيا ماركيز حين كتب روايته "الجنرال في متاهته" التي يضاهي حجمها "زرايب العبيد"جلب حاوية من الوثائق من الأرشيفين الأسباني والأميركي بشماله وجنوبه ليرفد بها مخيلة روايته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في