الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقاش مع يسار تونسي عن الوضع السوري والثورة السورية (1 -2)

سلامة كيلة

2017 / 8 / 21
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية




على ضوء مقال عن زيارة وفد من قيادة الاتحاد التونسي للشغل الى دمشق نشرته في جريدة العربي الجديد()، وتطرقت فيه لزيارة وفد من الجبهة الشعبية الى دمشق كذلك، تعرضت لسيل من الشتائم والاتهامات، بما في ذلك اعتبار النشر في "جريدة قطرية" إتهاماُ، وكنت أوضحت موقفي من هذه "السخافة" قبل ذلك، لأنه على ضوئها يمكن إتهام كل من يعمل في شركة رأسمالية أو دولة رأسمالية بالاتهامات ذاتها. على كل لست في وارد الرد على تلك الشتائم والاتهامات، وشكراً لمن استطاع أن يمتلك "الوعي" الذي يجعله فقط يستطيع الشتم. لكن سأشير الى أن ضعف القدرة النظرية لدى قطاع مهم من اليسار (ولدى بعض الشباب) يدفعه الى أن يرد على المختلفين بالشتائم، بالضبط لأنه لا يمتلك القدرة على تفكيك خطاب الآخر، ولا الدفاع عن مواقفه بتقديم تحليل يدعمه. وأشير كذلك الى أن هذه الردود تعبّر عن "وعي حسي"، بسيط، يلمس الأشكال فقط، ويقولب المسائل في "سيستم" محفوظ. و"الوعي الحسي" لا يمسح بالإحاطة بأي موضوع، بل يفرض ردود الفعل فقط،التي تنحكم للغريزة وليس للعقل. لهذا ليس من "علاج" لهذا الأمر سوى بتطوير الوعي وفهم الواقع، واستيعاب الماركسية جيداً كمنهجية تسمح بتفكيك الواقع بكل مستوياته، وفهمه بكليته. وليس الانطلاق من "سيستم نظري" جاهز، هو مجموعة مواقف تعتبر مطلقة الصحة، ويكون كل من يخالفها عدواً، لهذا يستحق الشتم. وفي هذا تظهر هيمنة المنطق الصوري، أي المنطق الذي ينطلق من ثنائية: إما/ أو، إما معي أو ضدي، رغم أنه الواقع يفرض أن نتوافق وتختلف في الوقت ذاته، والواقع ذاته متعدد التناقضات، وليس من أحادية فيه.
ولا شك في أن "السيستم النظري" هو زاد قطاع كبير من اليسار، حيث ينحكم لفكرة مجردة تغنيه عن البحث في الواقع ومتابعة الأحداث، وفهم ما يجري، لأن هذا السيستم يعطي الإجابات عما يجري في الواقع، وبالتالي ليس من حاجة لقراءة خبر أو متابعة موضوع يخص مسألة تحتاج الى موقف، ولا التدقيق في المعلومات التي ترد ومقارنتها والشك فيها. فالسيستم يعطي الإجابات وهذا يكفي، بينما الواقع غني ومتغير، وهو الأمر الذي يفرض متابعة دقيقة لكي يكون ممكناً تحديد موقف صحيح، أو الوصل الى تحليل علمي.
ما أريده هنا نقاش وافٍ لمواقف اليسار التونسي من الثورة السورية، وأنطلق من أن هناك نقص كبير في المعلومات، لأن اليسار اعتمد طرفاً في الصراع كمصدر وحيد، أو أنه لم يشأ متابعة المعلومات لأنه "غارق" في الوضع التونسي. وأيضاً أن هناك "سيستم" يحكم النظر بشكل عام، ويتعكس في تحديد موقفي مما يجري في سورية بحيث أوضع عكس المنظور الذي يطرحه هذا الطرف أو ذاك من اليسار التونسي، وليس كما أكتب وأنشر، وهذا هو مدخل الإتهام والشتم، حيث يجري وضعي "في الخندق الآخر" ما دمت ضد النظام السوري ومع الثورة السورية، لأن الآخر كما يعتقد هؤلاء مع "الثورة" وضد النظام السوري. هنا تبرز دوغما يُنتجها "السيستم" ذاته، تحدد مسبقاً "المعسكرات"، وبالتالي تضع المختلف في المعسكر الآخر. وأنا لأنني ضد النظام السوري أكون معبّراً عن السعودية وقطر (وأخيراً بعد الخلاف السعودي القطري، عن قطر). ومن ثم تكون الكتابة في "جريدة قطرية" هي التجسيد العملي لذلك. هل أسخف من هذا "المستمسك" في تأكيد فكرة بهذا الحجم. طبعاً يمكننني القول أن كل من يقول بذلك لم يقرأ ما أكتب، وهو ليس معنياً (لأنه في الغالب لا يقرأ)، لهذا يكتفي بسماع أنني أكتب في "جريدة قطرية" لكي يكيل الاتهامات. هذا المنظور هل التمثيل العملي لسيادة المنطق الشكلي (الصوري)، حيث لأنه ليس معنا فهو ضدنا، حيث ليس في العالم سوى "معسكرين"، أو تناقض بين طرفين، رغم أن الماركسية توضح تعدد التناقضات، وتميّز بدقة بين تناقض الشعوب مع النظم (أو الطبقات الشعبية مع الرأسمالية) والتناقض بين النظم (بين الرأسماليات). وهي ترى أنه في كل لحظة هناك تعدد في التناقضات، والجذر فيها هو التناقض بين الطبقات الشعبية والرأسمالية (أو الاحتلال إذا كان هناك احتلال).
لا شك أنني أعرف مواقف اليسار التونسي من الثورة السورية، وحاولت معظم أحزاب الجبهة الشعبية منذ بدء الثورة وعلى مدى سنوات, وأشير أنه لم يكن لديها موقف موحد، بل كان الموقف متناقضاً بين حزب يدعم الثورة وآخر يعتبر أن ما يجري هو "مؤامرة إمبريالية". ومع الأسف كان حزب الوطنيين الديمقراطيين مع هذا الموقف الأخير كما بعض الأحزاب القومية. وكان حزب العمال مع الثورة، وظل يكرر ذلك حتى سنة 2015، رغم الارتباك الذي كان يفرضه عليه وجوده في الجبهة الشعبية، والى الآن لا أظن أنه يتوافق مع ما يطرح رامي الرياحي وحزب الوطنيين الديمقراطيين.
الآن، من كل الردود التي وردت، والتي في معظمها تعليقات، سوف أردت على ثلاثة قدموا رداً "متكاملاً": رامي الرياحي وفريد العليبي ومصطفى علوي. وسوف أحاول تفكيك المنطق المطروح، لكن كذلك تبيان غياب المعلومات من جهة، والانطلاق من سيستم نظري من جهة أخرى. وأشير بداية الى أن هؤلاء لا يعرفون رأيي فيما يجري في سورية، ما يعرفونه هو أنني ضد النظام ومع الثورة، أما ما كتبته عن المعارضة أو عن أفق الصراع وممكنات الحل السياسي، والمجموعات السلفية والأسلمة والإخوان المسلمين، والسعودية وقطر وتركيا وأميركا وفرنسا، فكل ذلك غائب عن معرفتهم. فهم لا يعتقدون أن هناك من يحاول فهم مجمل التناقضات، وأصلاً طبيعة القوى التي تتصارع، وأن يحدد الموقف منها "من حيث المبدأ"، أي من الأساس الطبقي وليس نتيجة ما يظهر في الصراع القائم الآن، الأمر الذي يفرض أن أكون مع طرف ضد آخر، وفق استنساب "نظري" يجعلني أعتبر طرف هو "الخطر الأكبر"، ومن ثم على ضوء ذلك أبدأ في تحديد مواقفي من القوى المتصارعة. أنا أبدأ "من الأساس"، اي من فهم الطابع الطبقي لكل القوى المتصارعة وعلى ماذا تتصارع، ومن ثم أحدد موقعي مع الطبقات الشعبية، فعلي كماركسي أن أفهم الواقع من منظور العمال والفلاحين الفقراء، وليس الفئات الوسطى أو البرجوازية أو النظم.
هذا الوضع يسمح بفهم تناقضات الواقع المتعددة، وتسمح بأن أكون ضد كل الرأسماليات المصارعة، وكل الأصوليات التي تخدم الرأسمالية. فليس اضطراراً أن نكون مع طرف ضد آخر، هذا هو منظور ماركسية سطحية انتشرت، وكانت في جوهرها تعيد الى تحكيم المنطق الصوري بدل أن تنتقل الى المنهجية الماركسية. هذا هو موقف لينين في الحرب العالمية الأولى، حيث قال أن الحرب هي بين إمبرياليات لهذا نحن ضدها. وكان بعض الماركسيين يرى أنه يجب الوقوف مع ألمانيا ضد إنجلترا البلد الذي يستعمر العالم، أو وقف مع برجوازيته.
في كل الأحوال، ربما يكون تفكيك الخطاب مفيد في كل ما أشير إليه.
منطق رامي الرياحي
كنت رددت على رامي ولم يجب على ردي مباشرة بل عاد الى تكرار الخطاب الذي يوصل الى الوقوف مع النظام السوري. في كل الأحوال عليّ أن أفكك هذا الخطاب، وآمل أن يكون مكناً النقاش فيما هو مطروح، أي تفكيك ما أطرح مباشرة لكي يُثمر النقاش، رغم أن فرز العالم الى "فسطاطين" (ولقد وضعت هذا التعبير لأشير الى التقارب في المنطق مع السلفية) يفرض تكرار الخطاب ذاته.
وأوضح أولاً أن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد كان ضد الثورة السورية منذ البدء، ومن الذين اعتبروا أن ما يجري مؤامرة، بالتالي فإن كل التبريرات الجديدة لا تعني سوى تأكيد موقف مسبق، أي قبل البغدادي والجولاني والسلفية وأميركا، والسعودية وقطر. وهذا يوضح أن تحديد الحزب للنظام السوري كان ينطلق ككل "اليسار الممانع" من أنه "ضد الإمبريالية"، وبالتالي فإن ما جرى هو تحريك من قبل الإمبريالية الأميركية. ولهذا فإن الموقف الذي يصل إليه رامي يتوافق مع ذلك، بغض النظر عن سرده لبعض "الأحداث"، وما يصفه فيما يجري في الوقت الراهن. حيث كان لموقف يساري حقيقي مع اليسار السوري ومع الثورة في تونس والعالم أن يمنع الكثير من الانحرافات التي جرت، أما أن يقف منذ البدء "كمعظم اليسار العالمي" مع النظام، فهذا يعني دعم سحق الثورة وهي لا زالت سلمية وشعبية وشملت معظم سورية.
ما يسرده رامي يعبّر عن شرح لـ "المؤامرة" هذه، لهذا يشير الى مؤتمر "أصدقاء سورية" في تونس. وأتفهم هنا حساسية الأمر في تونس حيث أن من احتضن المؤتمر هي حركة النهضة والمنصف المرزوقي، وهذا ما يفرض شكلاً من أشكال التوتر في التعامل مع كل القضية السورية، بالضبط نتيجة الصراع مع حركة النهضة بالخصوص. لكن كل ذلك لا يفرض أن تسيطر الأيديولوجية المؤامراتية، ويجري تأويل نتائج المؤتمر بما يناسب ذلك. ولكي لا يتسّر أحد في الإتهام أقول أنني كنت ضد المؤتمر وكل "أصدقاء سورية" منذ البدء، وسأوضح هدف المؤتمر الآن. لكن يبدو من السرد الذي أورده رامي أنه ينطلق من السيستم الذي تضمنه "الخطاب الممانع" الذي ينطلق من دور الإمبريالية في حصار سورية (وليس النظام) وتدميرها. بينما كان تشكيل مجموعة "أصدقاء سورية" يضم دول ليست متفقة على الموقف من النظام السوري ومن الثورة السورية، حيث أن المحرِّك لتشكيلها كان كل من قطر وتركيا وفرنسا، الدولتان الأوليتان كان لهما مصالح كبيرة حصلا عليها من بشار الأسد، وأرادا أن يكون البديل عنه "من صنعهما"، بينما كانت فرنسا تريد الحصول على مصالح في سورية وفشلت منذ جاك شيراك. وبالتالي كان هدف هذا الحلف هو دعم المجلس الوطني السوري (الذي تشكل تحت سيطرة الإخوان المسلمين) لكي يكون النظام البديل. بينما كانت دول أخرى "تضع العصي في الدواليب، منها السعودية ومنها أميركا. طبعاً هذا القول الأخير سوف يستثير الرد بأنني أتجاهل أن أميركا والسعودية كانا يريدان إسقاط النظام، من منطلق السيستم الذي كان يُظهر "التناقض" بين النظام وهذه الدول، وأنهما كانا يتحينان الوقت لإسقاطه. هنا تظهر خطورة "التحديد المسبق"، والصنمية حول ثبات التناقض بين النظام السوري وأميركا و"الرجعية". لكن يمكن بسهولة تفكيك الأمر، فقط بالعودة الى التاريخ، والى ما قالته الصحافة بالتحديد سنة 2010. حيث أن العودة لوقائع مؤتمر القمة العربي في الكويت سوف تكشف المصالحة التي تمت بين الملك عبدالله وبشار الأسد، والسخاء المالي الذي أغدقه الأول على بشار. ثم يمكن العودة الى تصريح للسفير السوري في واشنطن في ذات السنة، حيث قال أن العلاقة مع أميركا عادت الى ما كانت عليه قبل القطيعة (في مرحلة أوباما). بمعنى أن الثورة كانت قد بدأت والعلاقة بين النظام وكل من أميركا والسعودية حسنة. طبعاً هذا بعكس الديماغوجيا التي تحكم "اليسار الممانع" والتي تصرّ على تناقض النظام مع هاتين الدولتين.
لا أريد هنا تحليل موقف أميركا والسعودية من الثورات، حيث كانت ضدها من تونس الى مصر واليمن والبحرين وأيضاً سورية. وحتى ليبيا كانت أميركا مترددة في التدخل. ومجنون من يعتقد أن الإمبريالية أو "الرجعية" يمكن أن تقف مع ثورة. رغم كل ذلك يمكن أن يعود من هو جاد بفهم ما جرى الى تصريحات بشار الأسد مثلاً، حيث قال في مقابلة بعد أربع سنوات من الثورة أن الملك عبدالله أرسل لع ابنه خالد مع بداية الثورة وطلب منه "سحق الثورة وسحق الإخوان". أكثر من ذلك قال أن السعودية دفعت له ستة مليارات ونصف المليار دولار. ولا أريد أنا أن أوضح الدور السعودي في التشويش على الثورة ونخرها والتخريب فيها. أما أميركا فيمكن العودة الى التصريحات المتعددة لأوباما وهو يغادر البيت الأبيض، حيث كان مسروراً لأنه لم "يتورط" في سورية. بل أنه طلب من روسيا منذ بادية سنة 2012 أن ترعى مرحلة انتقالية في سورية كما حدث في اليمن. وأعرف جيداً ترجمة ذلك، لأنه أدى الى تغيير جوهري في وضع المعارضة تحقق بتخطيط أميركي لمصلحة إبعاد الإخوان والاتيان بمن يوافق على رعاية روسيا للحل. ولقد تدخلت عسكريا بعد سنة 2014، لكن من أجل "الحرب ضد داعش"، ودعمت حزباً كردياً، وأمدته بالأسلحة وهو قريب من النظام، وحين قالت أنها تدعم النعارضة كانت تفرض على من تدعمه أن يقاتل داعش فقط، أو يُحرم من الدعم (وظهرت حالة من ذلك في فترة قريبة). أي أنها قررت أن تدخلها لا يستهدف النظام.
لهذا لجمت طموح قطر وتركيا وفرنسا في فرض المجلس الوطني بديلاً، ولجمتها في ارسال الأسلحة لكتائب قريبة منها. وهذا ما كان يوجد التناقض مع تركيا (التي باتت حليف روسيا نتيجة ذلك). وبالتالي لأن الأمور ليست مطابقة للسيستم الذهني، لم يجرِ تلمس كل الصراعات التي تجري بين كل هذه الأطراف من أجل الهيمنة على سورية. ولكي أوضح، فإن السعودية "انقلبت" على النظام بعد التدخل العسكري الإيراني (حزب الله واليليشيا العراقية والحرس الثوري) وتحكمها بالقرار السياسي، بينما كانت "تختلف" مع أميركا أوباما التي كانت تتقارب مع إيران، وطورت علاقاتها مع روسيا، وقبلت بـ "الدور الروسي"، وهي، الى الآن، تنسق معها. وفي كل الأحوال تطورت العلاقة بين دول الخليج وروسيا بشكل كبير، ولا يبدو أن تناقضاً يحكمها فيما يتعلق بالوضع السوري. فهذه الدول مع تركيا تطوّع "كتائبها" (السلفية) للتفاهم مع روسيا في الأستانة.
بالتالي إذا كان رامي ينطلق من أن مؤتمر "أصدقاء سورية" كان يهدف "عزل الدولة السورية"، وحصار الشعب السوري، ونقل الثورة الى التسلح، فإن "أصدقاء سورية" كانوا منقسمين أصلاً، حيث كانت قطر وتركيا وفرنسا تريد إقرار شرعية المجلس الوطني كممثل للشعب السوري، ومن ثم السعي للتدخل العسكري لتغيير النظام، بينما كانت السعودية تنسّق مع النظام، وأميركا تلجم كل تدخل (وهذا ما أوضحه أكثر من مسئول أميركي أصلاً). ولا شك في أن الدور الأميركي هو الذي أفشل الطموح القطري التركي الفرنسي، ومن ثم باعت أميركا سورية لروسيا على ضوء اتفاق جنيف نهاية يونيو/ حزيران سنة 2012. لكن يبدو أن المنظور المسبق للثورة (أي كونها مؤامرة) فرض أن تُرى الأحداث من منظور الانقسام الجاهز المسبق: إمبريالية تتآمر، وكل هؤلاء يعملون في السياق ذاته ما داموا أدوات عندها.
طبعاً كل ما أوردته يتناقض مع "السيستم النظري" الذي يتكرر (وكرره رامي)، ومن يريد الحقيقة يمكنه البحث عن التصريحات والمواقف التي أشرت إليها، لأنه ليس ممكناً "أن يكذب" بشار الأسد لمصلحة السعودية مثلاً. أو أن أوباما كان يتسلى وهو على أبواب مغادرة البيت الأبيض. لكن الدوغما تفرض أن يجري التمسك بالصحة المطلقة لهذا السيستم "النظري"،الذي لا يبدو أنه مبني على وقائع، بل مستمد من "موقف غريزي" ضد "الإمبريالية الأميركية". لهذا يجري تجاهل كل التصريحات والوقائع، أو الزوغان عنها لأنها تكسر السيستم. مما يفرض استسهال تكرار "ما نعرفه" بدل بذل الجهد في البحث عن الحقيقة. فحين يقول بشار الأسد أن السعودية دعمته، فهذا يعني أن كل السيستم مضروب، وأنه يقوم على أوهام مجرَّدة، تنطلق من استمرار اعتبار السعودية شر، بينما سورية بشار خير، وبالتالي لن يلتقيا (رغم أن النظام ظل متمسكاً بالتحالف مع السعودية سنوات طويلة). طبعاً يكمن هنا أمر آخر، يتمثل في أن كل من يطرح ذلك لا يعتقد بأن ثورات حدثت، وأن الأمر يتمثل في صراع بين الإمبريالية وأدواتها و"النظم التقدمية" (أو أي تسميه تنطلق من وضعها ضد أميركا). وهذا يشكك حتى في الثورة التونسية، التي طالب أوباما منذ بدايتها برحيل بن علي. وكذلك يشكك بالثورة المصرية، التي طالب أوباما بعد أسبوع منها برحيل مبارك. بينما بقي أكثر من سنة لا يطالب برحيل بشار الأسد.
ضمن الحديث عن مؤتمر "أصدقاء سورية" يشدد رامي على أن هدفه هو "ضرب الحصار التام" حول سورية، الذي "يعني تضوّر شعبها جوعا ومعاناته مرضاً". أولاً يبدو أنه لا يعرف جغرافية سورية، حيث ليس من الممكن "حصار سورية" الأمر الذي يؤدي الى تضوّر شعبها جوعاً، بالضبط لأن حدودها واسعة، ومنها حدود مع دولتين متحالفة الأولى معها (العراق) والأخرى مسيطر عليها من حليف (لبنان). وبالتالي لم يكن ممكناً للشعب أن يتضوّر جوعاً نتيجة حصار. الملفت هنا أن رامي لم يرَ ما حصل للشعب السوري نتيجة القصف بكل أنواع الأسلحة من قبل النظام ومن ثم روسيا. لا يعرف أن أكثر من نصف السكان قد تهجّر بعد أن جرى تدمير ثلث سورية. ولكي أوضّح فإن هذا التدمير ليس في المناطق التي يقصفها الطيران الأميركي بحجة "الحرب ضد داعش" (وهو يدمّر فيها كذلك)، بل في المناطق التي يقصفها طيران النظام وروسيا. ولا يعرف عن مئات الآلاف من المعتقلين، وعشرات الآلاف الذين قتلوا في السجن. ولا عن الفقر الشديد الذي بات يعاني منه الشعب السوري. كل ذلك تحت حجة "الحرب ضد الإرهاب"، رغم أنه لا النظام ولا روسيا قاتل الإرهاب بجدية، بل انصبّ قتالهما (مثل قوان إيران) ضد الشعب الذي ثار، والذي بات من الضروري أن يتربى أو يباد (وربما لم يسمع بشعار النظام: الأسد أو نحرق البلد).
بالتالي فإن الشعب السوري لا يتضوّر من الجوع نتيجة الحصار بل يعاني القتل والتهجير والاعتقال والتدمير. لهذا إذا كان اليسار التونسي معني بالشعب السوري عليه أن يتخذ موقفاً "أخلاقياً" على الأقل من كل ذلك، لا أن يبرر بعضه انفتاحه على النظام السوري برفض الحصار على سورية. على الأقل يضطلع على تقارير المنظمات الدولية التي يعتمدها في الوضع التونسي لكي يرى ما تكتب عن سورية، ليلمس الجريمة البشعة التي مارسها النظام وتكملها روسيا.
إن نقدي للزيارة الى دمشق تعلقت بالتواصل مع نظام مجرم، وبات دمية بيد الروس (وسأتحدث عن روسيا تالياً)، دون رادع أخلاقي يمنع التواصل مع مجرم حرب، وهو مجرم حرب بكل المقاييس، بغض النظر عن كل الحجج التي تورد، والتي سأناقشها. أنه دعم لنظام يجب أن يحوّل الى محاكم جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن كل المبررات، وكل الأوهام التي تتعلق بـفك الحصار عن الشعب الذي يتضوّر جوعاً (الذي بات أكثر من نصفه مهجّر وربعه خارج سورية). بالتالي هذه ليست "غاية سامية" التي تُطرح، بل تبرير شنيع لإعادة العلاقة مع النظام السوري. فالشعب السوري الذي تخافون من تضوّره جوعاًن سجن وقتل وتهجّر وتضوّر جوعاً بفعل ترسانة الأسلحة التي يمتلكها النظام، بما في ذلك السلاح الكيماوي، والصواريخ بعيدة المدى.
لكن يبقى "السيستم النظري" هو المتحكم بالرؤية، والممارسة، وليس الوقائع.
أما عن "فكفكة لغم شبكات تسفير الإرهابيين" فلن يقدّم النظام لكم معلومة عنها، لأنه أساسها بالتعامل مع أجهزة رسمية تونسية (ولقد أشرت في مقالي للتعاون الوثيق بين مخابرات النظام والمخابرات التونسية زمن بن علي، والتي استمرت بعدئذ). ولهذا البحث عن قاتل الرفاق هو في تونس ولم يخرج منها، والمسالة لا تتعلق بمن نفّذ بل بمن قرَّ، ولماذا قرّر؟ ثم أنني ناقشت أمر تسفير "الجهاديين" منذ البدء مع أطراف في اليسار التونسي، وطالبتهم بالتصدي لها لأنها تضرنا، وتحدثت علناً عن ذلك، لكن لم يلتفت أحد يا رفيق، وكأن الأمر لا يعنيهم ما دام هؤلاء يصدّرون خارجاً. بينما كان يجب القيام بحملة كشف لمن يرسلهم، وتواصل مع البيئات التي يخرجون منها لردع الشباب عن الذهاب. وحقيقة كان إرسال هؤلاء من تونس وغيرها يغيّر في الوضع على الأرض ضد الثورة، لأنهم استوطنوا مناطق سيطرة الثورة وبدؤوا في اعتقال وقتل كل الناشطين في التظاهر والعمل المدني والإغاثة والإعلام ومن الكتائب المسلحة التي تقاتل النظام. وطبيعي أن يخدم كل ذلك النظام، وأن تقع الثورة بين عدوين، الإرهاب "الجهادي" وإرهاب النظام. طبعاً إزاء هذه ثنائية يميل "العقل اليساري" الى الوقوف مع طرف، ويكون هذا الطرف هو النظام نتيجة تضخيم خطر الإرهاب والسلفية، رغم أن الوحشية هي واحدة، والشعب لم يعد يستطيع تحمّل الفقر والنهب الذي عاناه من نظام مافياوي. وهذه إشكالية سوف أتناولها تالياً.
لكنها تعيد الى المنطق الصوري، الذي ينطلق منه رامي. لهذا يعتبر رفضي لذهاب بعض اليسار الى دمشق، الذي يقول أن هدفه "ضرب برنامج عمل –مؤتمر أصدقاء سوريا – تحديداً" (طبعاً ضرب البرنامج بعد أكثر من ست سنوات من ممارسته، أليس ذلك ملفتاً؟)،هو رغبتي "في استمرار الحصار المفروض على الدولة السورية بهدف إضعافها وتفتيتها، ونتيجة لذلك إحلال كيانات طائفية ومشاعات قبلية ووجودات عرقية وإثنية محلها!!!". رامي لا يعرف إلا إما مع "الدولة السورية" أو مع الكيانات الطائفية والقبلية والإثنية، لهذا يجب أن أكون مع "الدولة السورية" وإلا كنت مع التفتيت. هو لا يستطيع تخيّل رأي آخر، ولا إمكانية لخطأ موقفه، أو حتى خطأ موقفي نتيجة خطأ في التحليل أو نقص المعلومات، بل يصدر حكماً أنني ما دمت استشطت غضباً لزيارة وفد الاتحاد العام التونسي للشغل، فأكون مع استمرار الحصار (غير الموجود، إلا إذا قصد رفض العلاقة مع النظام حصار للدولة السورية)، ومع التفتيت. هنا الخلل في منطق التفكير، وهو خلل معمم، حيث ظل قطاع كبير من اليسار "أصولياً"، أي ظل ينحكم لمنطق القرون الوسطى، وهو المنطق الصوري، القائم على: إما/ أو. وهو لذلك يميل الى تبسيط المسائل الى ثنائيات، لأن "عقله" لا يستوعب أكثر من ذلك. ومن ذلك ينشأ "سيستم" يقيس عليه. إنه دائماً يبلور تصوراً بناء على "مسألة مفصلية"، هي في الواقع مسألة تكتيكية، لكي يقيس عليها. وهذه المسألة تقوم على "فكرة نظرية مجرَّدة" مثل "معاداة الإمبريالية"، أو اعتبار أميركا "الشيطان الأكبر"، وبالتالي رؤية أميركا وليس الرأسمالية ككل، ولا الإمبريالية بمجموعها. وهو الأمر الذي يخفي الخلافات بين الرأسماليات من طرف، ويخرج من يختلف معها من كونه رأسمالياً أو إمبريالياً فقط لأنه اختلف مع أميركا. وعلى ضوء ذلك تُصاغ سردية كاملة كاشتقاق من هذه النقطة. بغض النظر عن الواقع والوقائع، والتصريحات والمواقف.
لكن هل يمكن أن يجد أيٍّ كان موقف لي، غير أنني ضد النظام وجزء م الثورة، يشير الى أنني يمكن أن أكون مؤيدأً، أو حتى متغاضياً عن، المجموعات "الجهادية" والسلفية، وعن المعارضة، أو عن الدول المتدخلة بغض النظر عن تصنيف رامي لها؟ ربما أنني كتبت ضد السعودية وقطر وتركيا وأميركا (كما ضد كل ملحقات إيران وروسيا) أكثر مما كتب كل "اليسار الممانع"، هذا اليسار الذي لا يذكر السعودية وقطر وتركيا والإرهاب إلا وهو يكيل الشتائم لي ولأمثالي، فهو لا يجرؤ على أن تحللل ظاهرة الإرهاب، ولا تكوين وسياسات الدول الأخرى، حتى أميركا التي يعتبر أنها هي "التناقض الرئيسي" لا يأتي على سيرتها بما تفعل في العراق، فقط لأنها "تقاتل داعش"، رغم أنها تدمّر المدن تحت ذريعة وجود داعش. تمنيت أن أقرأ تحليلاً لدور السعودية وقطر والإمارات وتركيا في مواجهة الثورات، أو تحليل للموقف الأميركي من الثورات بدءأص من تونس. ورأيت كيف تدافع هذا اليسار لتأييد السيسي في مصر نكاية بالإخوان المسلمين، ليظهر أن ما يجري الآن أسوأ كثيراً مما كان. ولم أجد تحليلاً نقدياً عن السبب الذي فرض اتخاذ موقف خاطئ. بالنسبة لهؤلاء "التناقض الرئيسي" هو "مؤشر" لكي يفرز مع يكيل المديح له ومن يشتمه فقط.
بعد ذلك، في رد رامي نلمس مشكلتان، الأولى تتعلق بالتمييز بين الدولة والنظام، والثانية تتعلق بإشكالية فوبيا تفكك الدولة. حيث يعود رامي الى التمييز بين الدولة والنظام، ليقول أن الأمر يتعلق بدعم "الدولة السورية" وليس النظام، وللحفاظ على الدولة السورية. ولأن السردية التي يكررها تعتمد على هذه المسألة كمفصل قفز عن نقاش الفكرة الماركسية عن الدولة، فهو يطرح تصوراً مختلفاً، وهذا من حقه، لكن يجب أن يبرر ذلك، يجب ان يوضّح كيف أن النظام غير الدولة. وطبعاً لم يناقش من الأصل كيف أنه لم يعد هناك لا دولة ولا نظام في سورية، لأن الحاكم الفعلي هو روسيا، وقبلها إيران. وهذا ما ذكرته في مقالي المنشور. آمل أن يقدّم تصوراً، فربما يرتقي النقاش الى مستوى يثري النظرية. أما بالنسبة لي فالدولة هي مجموع مؤسسات إدارية وقانونية وخدمية وأمنية وعسكرية وسياسية تنحكم لطبقة تسيطر على الاقتصاد، وهذه الطبقة في سورية هي مافيا عائلية (آل الأسد، مخلوف وشاليش) متحالفة مع كبار تجار دمشق ةحلب، وهي تحتكر أكثر من ثلثي الاقتصاد، وهذه السلطة هي التي تتحكم بالحيش والأمن والشرطة، وكل هؤلاء هم من استخدموا لمواجهة الشعب منذ البدء. وأشرت قبلاً الى تشابه النظام السوري مع مجمل النظم الأخرى، التونسية والمصرية واليمنية، في أنها تمثّل سلطة مافياوية عائلية بوليسية. لهذا يا رفيق لم أعد أميّز بين "الدولة والثورة" و"إدارة التوحش"، بالضبط لأن إدارة التوحش هي ما يقوم به النظام السوري، فهذه الطبقة المافياوية، طابعها توحشي، وهي تتقصد "عقاب" من يخالفها بالقتل، لهذا كان شعارها: الأسد أو نحرق البلد. هذا أمر يفرض أن تعيد دراسة طابع الرأسمالية الحالي، في المراكز وفي الطراف، لأنه طابع توحشين ومنه ظهرت قوى التوحش من القاعدة الى داعش وكل الفروع الممكنة.
أما حول التفكك، حيث يكون مقابل "الدولة السورية" تفتت سورية، فأمر يؤكد غياب كلي لفهم الواقع، بالضبط لأن كل القوى التي تتصارع تريد السلطة كما تطرح، وكل الدول الإقليمية والدولية لالا توافق على تفتت سورية، سواء لأنها متضررة (تركيا/ إيران) أو لأن مصالحها تقتضي ذلك (روسيا وإيران)، أو لأنها ليست معنية بسورية، ربما يهمها التدمير (أميركا)، وهذه تساوم على سورية مع روسيا لأنها تريد العراق، وتريد تنازلاً روسياً في أوكرانيا. طبعاً أشرت قبلاً حول الإستراتيجية الأميركية التي أُقرَّت في فترة أوباما وتحددت بوضوح بداية سنة 2012 (17/3/2012). وكما نلاحظ فإن سياسة أميركا التي تمارسها تحت شعار "الحرب ضد داعش" هو تدمير المنطقة الغربية من العراق، وهذا ما يقوم به النظام وروسيا تحت الشعار ذاته في معظم مناطق سورية.
إن فكرة "الحفاظ على الدولة" هي اختراع يتعمم من قبل كل النظم، في مصر كما في تونس وغيرها. وهدفة إلحاق النخب بالسلطة، ودعم النظم القائمة. لأن النظم ضعفت نتيجة الأزمة المعيشية العميقة التي يعيشها الشعب، والتي فرضت انفجار الثورات، لهذا نجد أن السلطة في هذه الدول تدافع عن ذاتها تحت شعار "الحفاظ على الدولة"، و"خطر انهيار الدولة"، بينما يتعلق الأمر بانفتاح الصراع الاجتماعي ضد الطبقة المسيطرة (ودولتها)، وإذا كان غياب اليسار عنه أوجد الفوضى والتدخلات ومحاولة النظم اللعب، فإن الحل يتمثل في أن يعرف اليسار أن عليه قيادة حراك الطبقات الشعبية من أجل استلام السلطة عبر الثورة التي بدأتها هذه الطبقات، وليس التوهان خلف شعارات مصنّعة لشل دور اليسار بالتحديد.
في كل الأحوال ليست ثنائية دولة/ تفتت هي ما يحكم الوضع السوري، ولا هو الخطر حتى بأدنى أشكاله، بالضبط لأن الوضع السوري بات محكوماً من قبل دول خارجية، وباتت سورية مستعمرة روسية. وروسيا تفاهمت مع تركيا وقطر والسعودية والخليج عموماً. أما داعش فهي على شفير النهاية، والنصرة سيكون لها دور أخير في إدلت يتمثل في تصفية بقايا الجيش الحر، ومن ثم "إنتهاء مهمتها"، وربما يعني ذلك تدخلاً روسياً تركياً لـ "إنهائها". ربما كان هذا الشعار ممكن التصديق سنة 2015، حينما تقدم "جيش الفتح" في إدلب وريف حماة الغربي، لأن تغيّر ميزان القوى كان ينقلب دراماتيكياً لمصلحة مجموعات إرهابية وسلفية (النصرة وأحرار الشام)، لكن في الواقع المحرِّك الخارجي لهذا التقدم (السعودية وقطر وتركيا) كانت تريد الضغط من أجل الحل السياسي فقط، لهذا منعت هذه القوة من التقدم نحو الساحل (أي المناطق العلوية) ودمشق، وأوقفتها بعد أن ظنت أن الأمور باتت تسير نحو الحل.
إذن، إن لوثة "خطر التفتيت" تعني الالتحاق بالنظام، وهذا ما يفعله بعض من اليسار التونسي، وقيادة الاتحاد. إن ثنائية النظام أو المجموعات الإرهابية من طرف، أو الدولة السورية أو التفتيت من طرف آخر، كلها وهم له هدف سياسي مباشر هو الالتصاق بالنظام. وهي ثنائية كسرها الشعب السوري، بالضبط لأنه وقف ويقف ضد النظام ووقف ويقف ضد المجموعات السلفية بمختلف ألوانها. والتظاهرات ضد النصرة تخرج في المدن التي هي خارج سيطرة النظام، وخرجت تظاهرات ضد جيش الإسلام في الغوطة، وتخرج الآن ضد كل هذه المجموعات التي تتقاتل. ثم أن كل هذه المجموعات لها "مرجعية"، أي أنها مرتبطة بسياسة دول إقليمية أو كبرى، كما كل الميليشيات التي أرسلتها إيران. ولهذا فإن توافق كل هذه الدول ينهي وجود كل هذه المجموعات. والتوافق بات واضحاً بين روسيا وأميركا من طرف، وروسيا وتركيا من طرف آخر، ومع السعودية من طرف ثالث. وللصدفة في خطابه بشار الأسد اليوم يقول أن "الغرب" لم يكن يريد تدمير سورية بل كان يريد السيطرة عليها. وهو كالعادة يكسر الخطاب الذي يجهد الإعلام السوري والممانع لتعميمه، ولقد فعل ذلك مراراً، منذ أن كسر الخطاب الذي تعمم منذ الأيام الأولى للثورة، عن أن ما يجري هو مجموعات إرهابية وسلفيين وإخوان، مؤكداً أنه في الستة أشهر الأولى لم يكن هناك سلاح ولا مسلحين، وأن المتظاهرين طرحوا "مطالب محقة"، في خطاب له في مجلس الشعب 3/6/2012. وكثير غيرها.
عن "التناقض الرئيسي"
مفهوم "التناقض الرئيسي" كما يرد لدى اليسار ملتبس ومشوش، حيث يحلّ محل التناقض الأساسي، ولهذا يصبح التحديد اللحظي للصراع هو محدِّد "التناقض الرئيسي" لكن ليس كتكتيك عملي بل كرؤية وسياسة. لهذا يحلّ محل التناقض الأساسي، الذي هو التناقض الطبقي. بمعنى أن التناقض الرئيسي يخصّ قوى تخوض الصراع الطبقي ضد الطبقة المسيطرة، حيث يمكن في لحظة أن تعتبر التحالف مع طرف ضرورياً لحسم الصراع، في سياق اعتبار التناقض مع السلطة الطبقية هو الأساس. لكن حين تحدث صراعات بين فئات وأحزاب ونظم من الطبقة ذاتها، يظل التناقض الأساسي هو الحاكم.
سيتوضح ذلك حين نقاش ما يطرحه رامي. الذي يعتبر أن الواقع في سورية يفقأ العين، ولا يحتاج لقياسات نظرية مفارقة، بل يحتاج صخرة تتحطم عليها أوهام الواهمين، ويتطلب عقولاً لا أوعية ومساطر قيس". بالتأكيد، الواقع السوري يفقأ العين، حيث التدمير والقتل والاعتقال بات مكشوف عالمياً، ومن يرتكب الجرائم ويدمر معروف، ودور داعش والنصرة بات مفهوماً، والتدخلات الإقليمية والدولية واضحة، وباتت سورية تعيش صراعات متعددة، بدأت بين الشعب والنظام حيث مارس أقسى العنف والوحشية منذ البدء، ثم دخلت قوات إيران لكي تحمي النظام من السقوط، ودخلت النصرة وداعش، وتشكلت هذه كما المجموعات السلفية الأخرى بعد أن أطلق النظام سراح كل قادة وكادرات "الجهاديين" الذين كانوا في سجونه (بعد مفاوضات معهم)، وتدخلت قطر وتركيا، وتدخلت أميركا بحجة "الحرب ضد داعش"، ثم تدخلت روسيا. وكل هؤلاء يصارعون من أجل المصالح. أميركا تدعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، ودعمته عسكرياً، كما حاولت دعم بعض من الجيش الحرّ تحت شرط الحرب ضد داعش فقط، وطبقت ذلك، وأخذت تتفاوض مع روسيا على ترتيب حل سياسي. وتركيا تدخلت بعد أن دعمت داعش والنصرة، لأنها قرّرت منع نشوء كيان كردي. لهذا نجد أن الصراع في الجنوب هو ضد النظام، وفي الجنوب الشرقي هو بدعم أميركي ضد داعش. وفي الشمال تركيا تدعم بعض الكتائب المسلحة وتدخلت عسكرياً، وروسيا ومجموعات إيران تقاتل مع النظام في العديد من المناطق، ويدعي كل منها أنه من منع سقوط النظام. وما تبقى من قوى "الجيش الحر" ومن الكتائب التي تقاتل النظام محاصرة، وتتعرض لعملية تصفية من قبل النصرة أو جيش الإسلام أو نور الدين زنكي. أما الشباب الذي هو خارج كل ذلك فمحاصر، بعضه يقاتل بقدرات محدودة، وبعضه يتظاهر ضد تعديات هذه أو تلك من المجموعات السلفية والإرهابية. طبعاً هذا القطاع الأخير هو منسي في كل التحليلات "اليسارية"، رغم أنه هو الذي بدأ الثورة، ولا زال مصرّاً على استمرارها رغم اختلال ميزان القوى لغير مصلحته.
ثم هناك تنافس على سورية بين الدول الإقليمية، إيران وتركيا والخليج، ولكن هل هناك تنافس أميركي روسي؟ هنا يقع رامي في الخطأ، بالضبط لأنه يستدعي "السيستم النظري" ولا يريد رؤية الواقع. حيث يكمل أن "الرئيسي فيها (أي في الصراعات الدائرة في سوريا) بين قطبين إمبرياليين وأحلافهما الإقليمية". في هذا التحديد مستويين، الأول نظري، والثاني واقعي. نظري بمعنى هل أنه إذا تناقضت إمبرياليتان يجب أن نكون مع واحدة ضد أخرى؟ لا أريد أن أعيد الى لينين والحرب الأولى، لكن اقول أن كل إمبريالية هو عدو رئيسي، وليس من الممكن أن يجري التحالف معها، إلا إذا طغى "الهوس القومي" الذي كان ولا زال يرفع شعار "الدفاع عن الوطن"، وهذا كثير لدى "اليسار الممانع". وواقعي، بمعنى هل أن التناقض قائم في سورية بين الإمبرياليتين (أميركا وروسيا)؟ أشرت قبلاً الى تحوّل الإستراتيجية الأميركية بعد الأزمة المالية سنة 2008، والتي قررت الإدارة الأميركية إدارتها لأنها بلا حل. طبعاً هذه النقطة لا تؤخذ بعين الاعتبار عادة، فيجري التعامل مع أميركا كما كانت في الماضي، رغم أن أميركا مأزومة، وهو الأمر الذي جعلها تحدد أولوياتها، التي هي جنوب شرق آسيا، حيث أنها حددت الصين كخطر رئيسي (وهذا ليس تحليلي بل نقلاً عن الإستراتيجية الأميركية المقررة سنة 2010، ثم 2012). وهذا الوضع كان يدفعها الى التفاهم مع روسيا، وهو الوضع الذي سمح لروسيا التقدم خطوة في مسار سيطرتها العالمية. في هذه الوضعية الجديدة كتبت كتب في أميركا عن "الانسحاب من الشرق الأوسط" (والشرق الأوسط هو بلاد الشام ومصر)، ولهذا كان منظور أوباما السماح لروسيا اقتناص سورية، لهذا طلب منها بداية سنة 2012 أن ترعى مرحلة انتقالية كما شرحت قبلاً. وحتى بعد تصاعد الخلاف الآن، ظل التوافق قائماً على الوضع السوري، وكان لقاء هامبورغ بين ترامب وبوتين قد رتّب مجمل السياسات التي يجب أن تمارس في سورية، بحيث تدعم أميركا المنظور الروسي "المعدّل"، في الحل، وانطلاقاً من التوافق على إبعاد كل القوى الأجنبية، من حزب الله والميليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني. وبالتالي أن يجري تقاسم "الحرب على داعش، بحيث تكمل أميركا طردها من الرقة، وربما من دير الزور (حيث يتقدم النظام هناك)، وأن تحصل أميركا على العراق وروسيا على سورية. ومن يدقق في ما يجري في الواقع يلمس كيفية تطبيق ذلك، وسيتفاجأ الممانعون بأنهم باتوا خارج اللعبة.
إذن، في سورية ليس من تناقض أميركي روسي، هناك تناقض في أوكرانيا؟ نعم، لكن ليس الى حدّ القطيعة، لأنه سيحل بالاعتراف لروسيا بضم شبه جزيرة القرم، وشكل من الإدارة الذاتية لمجموعتها في أوكرانيا ضمن دولة موحدة. المشكلة ليست في هذه "التفاصيل" بل في الصراع على قيادة العالم، حيث تعتقد روسيا أن ضعف أميركا يؤهلها لأن تقود العالم، لهذا تعرض عضلاتها العسكرية، وتفتخر أنها جرّبت كل أسلحتها الحديثة في سورية، وأن بيع سلاحها تزايد بشكل كبير. وبالتالي تريد فرض هيمنة عالمية لا تستوعبها أميركا التي لا زالت تعتقد أنها من يحكم العالم، وإنْ ليس كما في الماضي وحيدة، بل تريد ذلك مع روسيا. لهذا فإن القول بـ "صراع جديد وعيني من كييف حتى سورية وليبيا" فيه مبالغة، هناك تنافس،رغم حاجة كل طرف للطرف الآخر. وبالتأكيد ليس له علاقة بالحرب الباردة لأنه صراع محدد ومضبوط، بالضبط لأن كل طرف يريد الطرف الآخر. لكن رامي يصرّ على أن هذا الصراع يمثل "كتناقض رئيسي اليوم تخضع له باقي التناقضات". طيب أين تقف "الأحلاف الإقليمية" من هذا التناقض "الرئيسي"؟ إيران مع روسيا، لكن تركيا مع روسيا، وقطر مع روسيا والسعودية مع روسيا. إذن منْ مع أميركا؟ هذا التحوّل في المواقف، أو هذه "الحرية" في ترتيب التحالف لا تكون ممكنة فيما إذا كان التناقض هو بين الإمبرياليتين، لأن تحول الحلفاء الإقليميين يعني أن قبضة أميركا تراجعت، وان الوضع السوري يسمح بالمناورة نتيجة موقف أميركا.
إن هذا الحديد للتناقض الرئيسي يتجاهل تحولات العالم، وبالتالي يبقى في زمن الحرب الباردة، لأن الأزمة المالية فرضت تراجع أميركا وتقدم روسيا، واختلال العلاقة مع "الأتباع"، وحدوث سيولة عالمية لا تسمح بتحديد طبيعة الصراعات بين الدول، وما هي التحالفات الممكنة؟ العالم غير منقسم الى "فسطاطين" الى الآن، ولا أعرف إذا كان يسنقسم. حيث أن ضعف أميركا فرض انفتاح الصراع بين دول متعددة كل منها يريد السيطرة، وانفتح التنافس على السيطرة على البلدان الأخرى وإعادة تقاسم العالم. إذن، بمعزل عن "التناقض العالمي" بين إمبرياليتين، نجد أن الصراع على سورية الذي قام نتيجة تناقض المصالح، كان بين كل من إيران وروسيا وتركيا، حيث خسرت تركيا مصالح اقتصادية كثيرة بعد الثورة، لأنها كانت الحليف الأساس (مع قطر) للنظام الذي كان محاصراً من قبل أميركا زمن بوش الإبن. وظلت "تقاتل من أجل فرض نظام يحافظ على مصالحها، وهذا كان يجعلها تتناقض مع إيران وروسيا، لكنها بعد تصاعد الحرب بينهما عادت وتطورت علاقتها مع روسيا، وحققت اتفاق مصالح معها. السعودية كانت تدافع عن استمرار النظام، وحين سيطرت إيران انقلبت، لكنها استعانت بروسيا كي تبعد إيران، والإمارات ظلت علاقتها مع النظام جيدة (بالسر). بالتالي فإن الموقف الدولي الإقليمي يميل الى تكريس سيطرة روسيا على سورية، وليس من تناقض هنا، فقط ربما يبدأ التناقض بين روسيا وإيران لأسباب كثيرة منها مراعاة روسيا للدولة الصهيونية، ومنها "خطوط النفط والغاز" وغيرها.
رامي إذن، ينطلق من "السيستم النظري" القائم على مبدأ: إمبريالية أميركية وضدها، ولا ينطلق من الواقع. لهذا يصرّ على "تناقض الإمبرياليتين"، رغم أن التناقض والتنافس الآن هو بين إمبرياليات وليس إمبرياليتين. بالتالي ليس من هذا المدخل يمكن تحديد الموقف مما يجري في سورية، هذا مدخل أيديولوجي وليس مدخلاً ينطلق من الواقع والوقائع.
أي ثورة؟ هذا سؤال يطرحه رامي، بعد أن يحسم أن الصراع هو بين إمبرياليتين وأحلاف كل منهما، وسيكمل بأن هذا المر يفرض أن نكون مع روسيا ضد أميركا. لكن هنا نجده يستهزئ بالكلام عن الثورة، ربما معه حق لأن كل نظرة سطحية سوف لا ترى ما يجري في الواقع بشكل صحيح، بل ترى القوى "المتصدرة". والقوى "المتصدرة" الآن هي المجموعات السلفية، والإرهابية. بالنسبة لي داعش والنصرة هي ادوات لدول متعددة لتدمير البيئة التي أنتجت الثورة. وجيش الإسلام وأحرا الشام هو ليست من الثورة لأنها تطرح بديلاً مناقضاً لما طرحته الثورة. ولا شك أن هذه هي القوى المسلحة الأكبر، وتخضع لسياسات دول، حيث أن جيش الإسلام تابع للسعودية، والأحرار فتحت على قطر، التي دعمت النصرة كذلك. هل هذه هي كل الصورة؟
بدأ الشباب الثورة كما في تونس ومصر، وبتقليد لهاتين الثورتين، وتوسعت ببطء حيث بعد عام كانت قد وصلت الى معظم سورية، وظلت سلمية أشهراً (وأشرت لخطاب بشار، وكرّر ذلك فاروق الشرع)، ثم مع عنف ووحشية السلطة بدأت تتحول بالتدريج الى السلاح (قبل "أصدقاء سورية")، لكن الى نهاية سنة 2012 كان طابعها الشعبي واضحاً حين ضعف النظام، ولم يكن حينها لا داعش ولا النصرة، وكان كل من جيش الإسلام وأحرار الشام مجموعتين ضعيفتين. هنا تدخلت ميليشيا إيران، من حزب الله الى بدر والعباس وحزب الله العراق وعصائب أهل الحق، ثم الحرس الثوري الإيراني. وفي هذه المرحلة جرى ضخّ "الجهاديين"، وبدأ دعم الدول الإقليمية للمجموعات السلفية و"الجهادية. فتراجع وضع الشباب الذي حمل السلاح وبات يسمى الجيش الحرّ. وتراجع الحراك الشعبي نتيجة التدمير الممنهج للمناطق والقرى والمدن، ولدور المجموعات "الجاهدية" في الاعتقال والقتل والملاحقة في المناطق التي باتت خارج سيطرة النظام (فهي لم تعمل بتاتاً في مناطق النظام). لهذا بات صراع الشعب الذي يخرج ويقاتل النظام، ينحكم لصراع آخر مع هذه المجموعات، بينما لم يحاربها النظام بل ساعدها بالسلاح (ولقد شرحت ذلك كثيراً ولا أريد تكراره). كما أصبحت المجموعات السلفية التي تقاتل النظام تشتبك مع داعش والنصرة، وتقمع الشعب الذي وقع تحت سيطرتها.
إن الانطلاق من نقطة البداية: أي صراع الشعب ضد النظام، يوضح كيف أنه تحوّل الى صراع ضد أطراف أخرى، ونتيجة دعم تلك القوى من قبل دول باتت هي الأقوى، لكن هذا لا يلغي أن الكثير ممن خرج ضد النظام لا زال يقاتل كل هؤلاء، ويعمل على استمرار صراعه إسقاط النظام. هؤلاء باتوا الأضعف؟ نعم، لكن ذلك لا يلغي أنهم يمثلون الثورة التي بدؤوها، وهم مستمرون بها بأشكال مختلفة، ككل الثورات التي بدأت من تونس وامتدت الى بلدان أخرى.
الآن، من أي موقع سأنطلق من تحديد "التناقض الرئيسي؟ من الواقع الذي حاولت توصيفه أو من "السيستم النظري" الذي يحدد أن التناقض الرئيسي هو بين إمبرياليتين؟
أنطلق من الواقع، ومن موقع الطبقات الشعبية التي بدأت الثورة، رغم ما آل وضعها. لهذا فإن التناقض الطبقي مع الطبقة المسيطرة التي تحكم مستمر، لكن نشأ في مسار الثورة تناقضات أخرى، كما أشرت مع داعش والنصرة، ومع المجموعات السلفية، وأيضاً مع كل القوى التي أتت لدعم استمرار النظام بعد أن كاد يسقط (قبل وجود الإرهاب والسلفية) كما تصرّح هي. مجال واسع للصراع؟ نعم، وقدراتنا ضعيفة بل هامشية؟ نعم، لكن هذا هو موقعنا في الصراع، الذي يفرض علينا أن نطوّر دورنا ووجودنا في خضم كل ذلك. هذا يحتاج الى وقت طويل؟ ربما، لكن لا خيار غيره ما دمنا معنيين بتحقيق مطالب الطبقات الشعبية. على الصعيد "الخارجي" (الإقليمي والدولي) يبدو أن التناقضات حُسمت لمصلحة روسيا، وبالتالي نحن نواجه قوة احتلال جديدة. وسأشرح لماذا قوة احتلال. لكن لم يعد هناك تناقض لا رئيسي ولا أساسي بين أميركا وروسيا فيما يخص سورية، ولا هناك تناقض أساسي مع تركيا أو الخليج. وهذه تناقضات روسيا هي المعنية فيها، رغم أننا ضد كل وجود عسكري على الأرض السورية، الأميركي والتركي وغيره.
يهول رامي أنني أقول أن كل هؤلاء ضد الثورة، ويستغرب أن يكونوا ضد الثورة، وهذا أمر مؤسف ليساري يعرف جيداً أن الإمبريالية و"الرجعية" وكل الرأسماليات هم ضد الثورة، لهذا صرّح شويغو وزير الدفاع الروسي بأن روسيا كسرت موجة الثورات الملونة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. مؤسف ألا يعرف يسار خطر الثورة على الرأسمالية، وأن يعتقد أنها سوف تقف معها نتيجة خلاف تكتيكي مع نظام ما (ربما وقفت مع الثورات في أوروبا الشرقية لأنها تطال نقيضها:الاشتراكية). بالتالي سأوضح أن ما جرى في سورية هو محصلة كل الثورات التي بدأت من تونس وامتدت الى مصر واليمن والبحرين وليبيا وسورية، وأحدثت حراكاً في الجزائر والمغرب والأردن والعراق وعُمان، ووصل الأمر الى إسبانيا وول ستريت. حيث حاولت أميركا الالتفاف عليها عبر ترحيل الرئيس لامتصاص الغضب، لكن امتدادها فرض أن تواجه بكل وحشية، وكانت سورية هي الحقل الفاعل نتيجة معرفة أميركا بوحشية النظام. لهذا وقفت السعودية ضدها خشية وصولها إليها، وكذلك معظم الدول العربية، وشرحت موقف قطرم تركيا سابقاً. وتدخلت روسيا ليس لحماية النظام أو لمحاربة الإرهاب، تدخلت من أجل الحصول على مصالح كما صرّح سفيرها في دمشق، ومن أجل كسر موجة "الثورات الملونة" كما صرّح شويغو. كل ذلك لأن الرأسمالي تعرف جيداً خطر الثورة، خصوصاً وهي تمرّ بأزمة مستعصية ومستمرة ولا حل لها. لهذا كان يجب قبر الثورات في سورية. هل هذا غريب على الرأسمالية؟ ربما فقط يسار مسطّح يعتقد بأن الرأسمالية يمكن أن تسمح بثورة في أطرافها وهي في المراكز تعيش أزمة مستعصية. كان يجب سحق الشعب لكي يجري تأديب شعوب العالم، ومع الأسف يقف "اليسار الممانع" معها ضد الثورة، حيث يقوم بهجوم أيديولوجي لتشويه ما يجري.
من أجل ذلك يا رفيق تدخّل العالم، فالحريق كان مرعباً لكل العالم الرأسمالي، ومبشراً لشعوب العالم. هنا جذر كل الصراع في سورية.
هل ندعم تحالف طبقي رجعي ودولة إمبريالية؟
يقول رامي بأن الصراع في سورية هو "بين إمبرياليتين"، وبهذا يقرّ بأن روسيا إمبريالية. ويشير الى "التحالف الطبقي الرجعي الحاكم في سورية". جيد، في طرف إمبريالية روسية، ونظام رجعي، هل يمكن ليساري أن يقف مع دول هذه أوصافها؟
يكمل رامي، "المسألة بالنسبة لي كالآتي: الصراع المسلح والدبلوماسي بين حلفي واشنطن وروسيا في سورية هو صراع رجعي بالأساس، أهدافه تعزيز تموقع كلا الحليفين في خارطة الأسواق الدولية". إذن هو صراع بين إمبرياليات لتقاسم العالم، ما الذي فرض تغيير الموقف الماركسي من هذه الحالة؟ يكمل "وفيه لاعب تدميري محلي هو المجموعات الإرهابية الموالية لأميركا، في ترتيب الأولويات عندي هو العدو الأشرس الذي يجب الانفراد به وفق مجهود كل من موقعه. الإمبريالية الأمريكية من مصلحتها وجود سوق عليها كيانات مشاعية مفتتة متناحرة وليس في اهتمامها أصلاً وجود سوق موحدة لأن همها لم يعد تصدير رساميلها ولا بضاعتها لأن اقتصادها لم يعد قائماً على الإنتاج بل على الريع، وما يهمها هو النفط للوبي الصناعات الحربية"،بينما "روسيا تريد سوق موحدة لكن رخوة الضوابط لأن صناعتها فتية ومتطلعة للتطور". إذن نقبل نهب روسيا خوفاً من تفتيت أميركا. هنا تظهر صرعة تفتت الدولة، والتمسك بالدولة الوطنية، أو يظهر الهدف من تعميم فكرة تفتيت الدولة الوطنية والحفاظ على الدولة الوطنية. فلو تركنا الشعارات ودرسنا الواقع، هل أن خطر التفتت هو ممكن؟ لكن قبل ذلك هل نقبل في كل الأحوال أن نقف مع إمبريالية ضد أخرى؟ اليسار الرائج بات يقبل كما يبدو، ويغطي ذلك بمبررات لا واقعية، فالتفتت غير قائم، وكان يمكن لأميركا أن تفعل ذلك قبل التدخل الروسي، لكنها لم تفعله بل ناورت تحت مستمى الحرب ضد داعش، متخذة من سورية ورقة ضغط فقط، ولقد أشرت الى أنها "باعت سورية لروسيا" منذ زمن، وسيتوضح في الأيام القريبة أن البلدين تفاهمتا بخصوص وضع سورية. المشكلة في هذا الطرح يتمثل في أنه لا يلحظ أن أميركا "تحارب الإرهاب"، وتريد تحويل الكتائب التي تقاتل النظام الى حرب داعش. هي تدمّر كما تفعل روسيا ويفعل النظام، لكنها تريد العراق وليس سورية، فهناك النفط.
في كل الأحوال ليس هذا مبرراً لدعم إمبريالية ضد أخرى، حيث أنه إذا كان هذا الأمر قائماً فإن صراع الإمبرياليتين هو أمر موضوعي، سواء أيدت أو رفضت، لأن روسيا تريد "سورية الموحدة". ولا شك في أنها هي التي تتقدم في الواقع وتسيطر أكثر فأكثر على مناطق سورية. وأميركا لا تواجهها، وأيدت خطواتها في التهدئة والمصالحات، وفي تطويع المعارضة لكي تقبلها. بالتالي ميزان القوى مختلّ تماماً، وستجد أن الأمور تسير نحو التهدئة، بتأييد أميركي. ونحن نحلل ونراقب الصراع بين الإمبرياليات، ومهمتنا أن نبني القوى لمواجهة كل الإمبرياليات، بمعنى أن تأييدنا لا معنى له في خضم الصراع، فهو لا يوقف الحرب حين يريدها الأقوياء ولا يغيّر شيئاً إذا أرادوها. لكن أن نكون مع إمبريالية؟ فهذا موقف غير ماركسي على الإطلاق.
رامي يقبل أن يؤيد إمبريالية، ويدعم تحالف طبقي رجعي، يدعم النهب الإمبريالي تحت حجة مجاربة الإرهاب والتفتيت. لا شك أنني ضد التفتيت وضد الإرهاب، لكن لا يفرض علي هذا الموقف أن أدعم إمبريالية أو نظام "رجعي"، بل يلزمني العمل مع مقاومة الإرهاب والرجعية والإمبريالية، وأقاوم التفتيت. هنا تظهر إشكالية "التناقض الرئيسي"، حيث أنني انطلاقاً منه أقف في صف إمبريالية ورجعية، فقط لأن عليّ حتماً أن أحدد التناقض الرئيسي، في وضع لا وجود لي في الصراع ذاته، بهذا أقدّم موقفاً مجانياً، وأشوه ماركسيتي. بينما سيكون لمفهوم "التناقض الرئيسي" معنى فيما لو كنت قوة على الأرض، وتحديدي لموقف مع طرف يحسم الصراع. حيث هنا أقيم تحالفاً تكتيكياً من أجل حسم الصراع. هذه الإشكالية معممه لدى اليسار، حيث لا يميز بين الإستراتيجي/ المبدئي، والتكتيكي، فيقع في المحظور دائماً، وهذا ما كان يهمشه على مدى العقود المائة الماضية.
في مسألة أخرى، رامي يعتبر أن التوازن لا زال مختلاً، حيث أنه " في الوقت الراهن هذا التوازن الإستراتيجي مختل لصالح الدواعش وحلف أمريكا على حساب الجيش السوري وحلفائه". المشكلة مرة أخرى هي أن أميركا هي التي "تحارب" الدواعش، وستنهي وجودهم في سورية في فترة ليست بعيدة، وروسيا تعمل على قضم المناطق التي تسيطر عليها مجموعات سلفية وكتائب من الجيش الحر، وبات يميل الأمر الى "تهدئة"، وتبقة مسألة إنهاء جبهة النصرة التي يبدو أن تركيا ستتكفل بها. بعد ذلك ماذا؟ أين اختلال ميزان القوى؟ الأمر هنا ينتظر الحل السياسي. بالتالي فإن الأوهام حول الوضع على الأرض، والمؤامرة الأميركية هو الذي يحكم المنطق الذي يكرره رامي، حيث أن توافقاً دولياً بات ممكناً لكي ترتب روسيا الوضع. وطبعاً هذا يعني أن الشعب السوري، والثورة السورية خسرا، لكن الأمر الوحيد الذي يوصل الى ذلك (وهذا ليس رأي ذاتي بل تحليل لممكنات الواقع) هو ترحيل بشار الأسد ومجموعته، وأظن أن روسيا باتت على شفا قبول ذلك. المسار هو في هذا الطريق.
أما عن التسوية السلمية فعليك بإقناع النظام، لأنه منذ البدء يرفض ذلك، وخطاب بشار الأخير (20/8/2017) يؤكد ما قاله منذ الخطاب الأول. لهذا فإن زيارته هي دعم لتمسكه بالحل العسكري، ويبدو أن النظام يرتب سلسلة زيارات من بلدان مختلفة ليظهر أنه المنتصر.
لم أكن ممن توهم "انتصار الثورة" وسحق النظام، ما قلته منذ البدء أن الثورة بوضعها القائم، حيث لا قوة سياسية شعبية تقودها، ليست مؤهلة لإسقاط النظام، ما تستطيعه هو كما حدث في تونس ومصر، أي هزهزة السلطة وتغيير الرئيس وشريحة معه. لكن حين حدثت الهزهزة نهاية سنة 2012 تدخلت إيران بكل قواتها، ثم حين فشلت تدخلت روسيا، وعلى الأقل في المرة الأولى لم يكن الأمر يتعلق بإسقاط النظام بل يتعلق بوجود فئة في السلطة تقبل الحل السياسي. انتصار ثوراتنا ليس قريباً، رغم أن الثورات بدأت، بل يعتمد على بناء أحزاب ماركسية حقيقية تقود هذه الثورات. رفيق أعرف كل ذلك، لكن غياب الأحزاب، لا يدفعني لقبول دعم تحالف رجعي (ومافياوي ومجرم) أو إمبريالية تحت حجة ميزان القوى والخوف من التفتت، ودور أميركا.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الثورة الشعبية لا تكون ملوّنة
Camarade Sarfati ( 2017 / 8 / 21 - 13:52 )
اليسار التونسي أو غيره ساند الشعب السوري ضد ما تسميه ثورة لعلمه بأنه سيناريو لتفكيك سوريا، والقضاء على الدولة ككيان كما هو الحال بالنسبة للعراق الذي يظهر أنه بدأ يجمع قواه، ويستعيد وحدته رغم بعض العوائق.
الثورة الشعبية يكون لها قائد، وبرنامج واضح المعالم على مستويات مختلفة، ولا أعتقد أنك جاهل بها. لذلك كل ما حصل بسوريا، وليبيا، لا يمكن اعتباره ثورة. فكما قلت للثورة شروط لم تتوفر مي ما حدث بسوريا. وعموما هناك عدة مؤشرات منذ البداية لوكون أحدث سوريا مفبركة ومصطنعة من طرف قوى عالمية وإقليمية تدخل في إطار الاستراتيجيات الجيوسياسية. قد يكون البعض لا يؤمن فكرة المؤامرة، وذلك شأنه، لكن المؤامرة موجودة وقائمة على الأقل لأن للدول بما فيها القوى العظمى مصالح اقتصادية وسياسية بمناطق العالم المختلفة تتضارب مع مصالح دول أخرى، وهذا الوضع يفرض نهج سياسات معينة للوصول إلى الاستراتيجية الموضوعة أمام هذه الحكمة أو تلك. لكن سوريا استطاعت أن تصمد في وجه كل المخططات، وتحافظ على كيانها بفضل مساندتها من قوى عالمية وإقليمية، وبفضل وعي الشعب السوري أيضا وصموده.


2 - لا تناقش ممانعا
عديد نصار ( 2017 / 8 / 23 - 07:45 )
قلت: ساند الشعب السوري ضد ما تسميه ثورة؟ انت منين بتتكلم؟ لما الجيش السوري لم يتبق منه ما يسند بقاء العصابة في السلطة فاستنجدت بكل ميليشيات ايران الطائفية من الباكستان الى أفغانستان الى العراق وحزب الله .. والحرس الثوري الايراني.. عن اي شعب تتحدث؟؟ المستجلبين بكل ما ضخ فيهم من أيديولوجيا ولاية الفقيه والمهددين بالقتل في ايران من شيعة أفغانستان إن لم ينخرطوا في ميليشيا فاطميون ومن باكستان في ميليشيا زينبيون؟؟ هل هذا هو الشعب السوري الذي يسانده يسارك الغبي؟


3 - لا تناقش ممانعا2
عديد نصار ( 2017 / 8 / 23 - 08:01 )
الجيش السوري الذي كان تعداده قبل الثورة 600 ألف جندي ولم يتبق منه بعد سنتين أكثر من 120 ألف! بسبب الانشقاقات حيث رفض الجنود قتل شعبهم فتم الاستعاضة عنهم بالميلشيات الطائفية المرتزقة
يساركم الغبي هو بالضبط ما تحدث عنه مظفر النواب وكأنه يوجه كلامه الى الشعب السوري في ثورته اليتيمة:
لم يناصرك هذا اليسار الغبي
كان اليمين أشد ذكاء فأشعل أجهزة الروث
بينما اليسار يقلب في حيرة معجمه
كيف.................
كيف يحتاج دم بهذا الوضوح
إلى معجم طبقي لكي نفهمه
أي تفو بيسار كهذا أينكر حتى دمه


4 - يبدو
عماد ( 2017 / 9 / 2 - 10:38 )
يبدو ان صاحب التعليق الاول لم يكلف نفسه بقراءة المقال

اخر الافلام

.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا


.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس




.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم


.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟




.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة