الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأويل اقبال للنص - في ضوء العلوم المعاصرة -

عامر عبد زيد

2017 / 8 / 25
مواضيع وابحاث سياسية



من أجل مقدمة
هو إقبال ابن الشيخ نور محمد ، ولد في إحدى مدن البنجاب الغربيّة في الثالث من تشرين ثاني 1877م وهو في الأصل يعود إلى أسرة برهميّة؛ إذ كان أسلافه ينتمون إلى جماعة من الياندبت في كشمير، واعتنق الإسلام أحد أجداده في عهد السلطان زين العابدين بادشاه (1421 - 1473م). قبل حكم الملك المغولي الشهير (أكبر) ونزح جد إقبال إلى سيالكوت التي نشأ فيها إقبال ودرس اللغة الفارسيّة والعربيّة إلى جانب لغته الأرديّة، وقد درس في مدرسة متوسطة ثم ألتحق بكليّة البعثة الإسْكوتيّة في سيالكوت، ثم بجامعة لاهور إذ نال درجة الماجستير في عام 1897م . وقد أتيحت له الفرصة ليدرس عند المستشرق الانجليزي السير توماس أرنولد Sir Thomas Arnold؛الذي مهّد لتلميذه الذكي الطريق للثقافتين الشرقيّة ، والغربيّة على السواءـ بعد أن تمكن بروح عاليّة في صغره من القرآن الكريم والعلوم الدينيّةـ إذ أرسله إلى أوروبا ؛لإتمام دراسته هناك، فسافر محمد إقبال في سنة 1905م، إلى إنجلترا، ودرس الفلسفة والحقوق في كمبريدج Cambridge. وفي ربيع عام 1907م ذهب العالم الشاب إلى ألمانيا، و أقام في مدينة هيدلبرج Heidelberg الرومانطيقيّة الشهيرة؛ ليتعلم اللغة الألمانيّة فيها. ثم سافر إلى ميونيخ في خريف العام نفسه، رحل إقبال إلى أوروبا ونال درجة الدكتوراه من جامعة ميونيخ في ألمانيا، وقدم أطروحته للجامعة هناك ، وكانت بإشراف الأستاذ الدكتور فْرِيتْزْهُومِلْ Fritz Hommel أحد المستشرقين المتخصصين في اللغات الساميّة، وكان موضوعها قد وسم بـ "تطور الفلسفة الميتافيزيفيّة في بلاد فارس Devlopment of Metaphysies in Persia " وبعد أداء الامتحانات والحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة عاد إقبال إلى إنجلترا ، وقد أتمّ دراسة الحقوق فيها، ثم رجع فيما بعد إلى وطنهِ، وأقام في لاهور، ولكنه قام بأسفار مختلفة إلى أوروبا والقدس وأفغانستان، وإلى جامعات متعددة في الهند. وعاد إلى وطنه ولم يشعر الا بأنه خلق للأدب الرفيع وكان وثيق الصلة بأحداث المجتمع الهندي حتى أصبح رئيساً لحزب العصبة الإسلاميّة في الهند ثم عضواً بارزاً في "مؤتمر الله أباد" التاريخي إذ نادى بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس ورأى ضرورة تأسيس دولة إسلاميّة اقترح لها اسم باكستان، وعاش في لاهور حتى وفاته صبيحة يوم 21 أبريل 1938م، ودفن في لاهور بجوار"بَادْ شَاهِي مسجد".( ) يعد إقبال شاعرا وفيلسوفا مسلما عبّر عن أفكاره وتصوراته في عدة كتب ودواوين. ومن أشهر كتبه كتاب "تجديد الفكر الديني"، ومن أهم دواوينه: "أسرار خودي" و "جاويدنامه".( )
الفرضيّة التي تحضر هنا بقوة هي التأويل الاصلاحي التجديدي في فكر إقبال ،فهذا المفكر كان يقدم نقداً لما هو سائد من الأفكار التي هيمنت وجعلت من المسلمين في الهند يعتزلون أو تم اقصائهم من الاحتلال البريطاني للهند مما جعل حضورهم غير مؤثر في الحياة السياسيّة في الهند إذ عاش المسلمون في الهند في ظل ظروف صعبة بعد الثورة 1857م التي قاموا بها ضد الاحتلال البريطاني والمعروفة بثورة (سباهي) فكان من نتائجها أن الاحتلال بدأ يغلب عليه العنصر الهندوسي ،ويقصي العنصر الاسلامي وهذا جعل من الهنود يتعرضون الى كثيرٍ من الاقصاء من المشاركة في إدارة الدولة ( )
وبالآتي شكّل هذا الواقع مشكلة هيمنة على طبيعة الدين الذي اتسم بالسكونيّة والعرفيّة فهو كان مرتهناً بمقاومة الأخطار عبر التشبث بالهويّة ؛ ولكنها أيضا أسهمت بالتراجع عن حال الناس وما ترتهن اليه أحوال الامم ، من هنا كان هناك حراك كبير من قبل المصلحين المسلمين الذين سبقوا إقبال ، و الذي اثر فيه أن هدفهم ينصب على دفع المسلمين في الهند الى اكتساب الثقافة الغربيّة الحديثة حتى يجعلوا من أنفسهم يأدون دوراً فعالاً في حياة بلادهم ،وقد تأمّل اقبال في حال المسلمين مقارنةً مع الحداثة الغربيّة ،فجاء بحثه منصباً على عوائق العالم الاسلامي بأزاء تقدم الغرب كان يرجعه إلى " تحجر الذهني" للإسلام. ؛لذلك ينبغي تجديد الفكر الديني بحسب رأيه أن يعتمد على منهج نقدي يقوم على مراجعة الماضي من دون التقاطع معه وهناك فرق بين القطيعة والمراجعة ؛ لكون الماضي هو الذي شكّل معالم شخصيته. لهذا نجد انه يؤكد على إن المهمة المطروحة على المسلم المعاصر ذات حجم لامتناه. فعليه أن يعيد التفكير في مجمل النظام الإسلامي من دون أن يتقاطع كليا مع الماضي. وهذا يعني الاحتفاظ بالدين وثوابته من ناحيّة ولكن في الوقت نفسه الانفتاح على المستجدات العلميّة ، والجمع بين الأمرين يتطلب جهداً كبيراً يقوم على رؤيّة نقديّة عميقة تدرك ما هو ثابت في الدين ،وما هو متحرك تاريخي أي توفر رؤيّة نقديّة للذات وما أصابها من تحجر بفعل هيمنة الرؤيّة السكونيّة والفكر الديني السكوني .ومن ناحيّة ثانيّة هناك حاجة الى اطلاع عميق على المنجزات العلميّة والحضاريّة عند الاخر من دون ميلٍ الى التقليد الساذج بل الحوار النقدي الدينامي .فهذه الرؤيّة الشجاعة التي اعتمدها إقبال تحرص على الانفتاح على الآخر فهي تزيل حالة التوجس وشيطنة الآخر وهي تبين أن هناك حاجةً متبادلة بين الذات الاسلاميّة والآخر الغربي من ضمن خطاب كوني تداولي وهو يظهر بأن هناك اهتمامات متبادلة لدى الغرب والشرق معا حتى ندرك حالة الحاجة الى التواصل الحضاري ؛لكن مع بقاء كل منها على خصوصيته الحضاريّة وبالتأكيد سوف يزيل هذا حالة (الحذر جزئياً عن ما يعترينا من قلق هويّة يجرنا غالبا إلى الإحساس بعدم الأمان في مقابل نظرة الآخر، فهذا الشعور هو الذي يمكن أن يولِد نمطاً من المغالاة في الثقة بالنفس ,ويفضي إلى التقوقع على الهويّة الجامدة والى الرفض الفظ للآخر بصفته حاملا للشر. ومن ثم يغدو من المستحيل ومن الخيانة السعي إلى إعادة تحديد الذات بمساعدة المرجعيّات الموجودة في تقليد الآخر.))( ) لكن ازالة حالة التوجس تلك من مفاعيلها يتطلب رؤيّة نقديّة للذات تخرجها من سكونيتها وتجعلها تمتلك ذات متجددة. وهذه الرؤيّة ظهرت لدى إقبال في ثائيّة الفردي(الذات) والجماعي مع انفتاح على الكونيّة فالذات الفردي يتعلق بإرواء الظمأ الوجودي ومن هنا يأتي تأكيده على وجود الذات والشخصيّة والفرديّة ؛ الا إن هذا( لا يعني دعوة للأنانيّة بقدر ما يعني أن الذاتيّة تعبير عن الروح المُنشئ الخلاَّق الذي أودعه الله تعالى في الإنسان)).( )؛ فإن الإنسان فردٌ لا وجود له إلا بين يدي الله. أما الجماعة إذ تحقق الوثبة التي تبدأ بالفرد من أجل الوصول الى الجماعة ، ومن هنا كانت رؤيته الاصلاحيّة التي تعطي دوراً كبيراً في تأكيد وحدة المجتمع المسلم، وهذا يخلق تماسكاً وارتباطاً بين أفراد المجتمع عبر تقويّة الأواصر الاجتماعيّة عبر المعتقد الذي بدوره يخدم الفرد عندما يمنح وجوده معنى من خلال تفسير المسائل التي حيّرته ، وصولا الى رؤيّة كونيّة ؛ فإن ثمن كل حقيقة هو أن نتخطَّى حدودنا، ونتعدى مستوى شخصيّتنا الذاتيّة إلى المستوى الإنساني الشمولي. ( ) ، وهو ما يقرِبنا من مفهوم التجديد الذي يلح عليه كثيراً في كتابه ، فهو تجديد بمثابة حضور في العالم، أما الهروب الى الماضي فهو يعد غياباً وليس حضوراً .اذ ليس التجديد استئنافاً لما كان كما كان.بل يعد بدايّة جديدةً، وهي الرؤيّة التي عّبر عنها " أحمد حسن الزيات " باختزال شعري عالي عندما صوّر رؤيّة محمد إقبال للفردوس الإسلامي المفقود( اذ نبت جسمه في رياض كشمير، وانبثقت روحه من ضياء مكّة، وتألف غناؤه من ألحان شيراز. لسان لدين الله في العجم يفسِر القرآن بالحكمة، ويصور الإيمان بالشعر، ويدعو إلى حضارة شرقيّة قوامها الله والروح، وينفر من حضارة غربيّة تقدس الإنسان والمادة .) ، ومن هنا تأتي هذه الورقة هي عبارة عن استعادة لحظة إقبال الاصلاحيّة مهمة بل ضروريّة في ظل الجمود وانتشار التطرف والإرهاب اليوم الذي نعيشه حاليا فاجعة للجميع.التي نعانيها اليوم مع موجة التخلف والفساد وما جلبه التصادم من دمار في الشرق ؛ بفعل المواجهة التي خلّفها الخطاب الكونيالي من جهة والاستبداد والجمود الشرقي من جهة ثانيّة، وقد استعار الشرق الايديولوجيا من الغرب ، وقد مزجها بالأسطورة في دعوته الى العودة الى الذات مما خلف معه هيمنة دين دنيوي عندما تحوّل إلى مؤسسة ،شعائريّة ((هدر الكرامة البشريّة وإكراه الإنسان على معتقدات وطقوس وشعائر وأوامر ، تنفر منها طبيعته وجسده وروحه وضميره وقلبه وعقلة .))( ) كل هذا رافق ظهور وهيمنة الشموليات والعودة المتطرفة الى الذات والتي من تجلياتها هجمت الوثوقيات الارهابيّة المتسلحة بامتلاك الحقيقة والتي تجعلنا بحاجة الى إحياء الخطاب الإصلاحي في الاسلام الذي جاء به الاصلاحيون المسلمون، ويعد إقبال أحدهم ((ما أسعدنا في مثل هذه الكارثة المتشبعة بالشك والغضب أن نسمع صوت إقبال المتحمس والصادق معاً. إنه صوت روح متجذرة بعمق في الوحي القرآني، ولهذا السبب بالذات مفتوحة على كل الأصوات الأخرى ، باحثة فيها عن مسار إخلاصها لأصولها. إنه صوت إنسان تجاوز كل تقوقع على الهويّة ، و"حطم كل أصنام القبيلة والطبقة " من أجل مخاطبة كل البشر(.) ( ) فقد كانت تجربة إقبال مهمة في قراءته التراث والفكر الغربي ،وبحثه عن صلات كونينة فهي تحقق الفائدة للطرفين بخطاب نقدي دينامي ، فقد استوعب ((إقبال لمفهوم الإنسان الأعلى في سياق مقولة "الإنسان الكامل" المعروفة في التقليد الصوفي.)). ( ) بمعنى إنه من خلال المرجعيات والنصوص التي تركها اقبال يبدو أنه تجاوز المتن السلفي الوثوقي الذي هيمن على الحياة بقراءته التراثيّة الجامعة التي لم تعد تمتلك روحاً حيّة ، وقد استوعب هذا من خلال تجاوزه تصور المؤسسة للدين، وهي تحتكر المعنى وتفرضه على الآخرين بوصفه هو الدين ، وهذا الفهم متعارض مع الفهم الذي جاء به إقبال الذي نظر الى الدين بوصفه نظام حياة يعبر بعمق عن متطلبات الوجود والكينونة الذاتيّة للشخص البشري ، وهنا هو ايضاً يعارض التصور العقلاني الغربي الذي يشيئ كل شيء كما جاء ذلك مع كانط ، وهو ما انتقده إقبال .

المطلب الاول : فلسفة الذات
كان هناك فكر جديد وملامح كلام في العقيدة مختلف يجد في التصوف والتأويل الشجاع للتراث وإطلاع على الثقافة الحداثة الغربيّة ؛ إلا إنه كان في هذه الحقول الثلاثة ناقداً ومبدعاً في اختياراته مما جعل منه رجل يحمل رؤيّة تجديديّة فالتجديد يراعي ثوابت التراث العقائدي ؛ الا إنه أيضاً يمارس فعاليّة نقديّة ، وحواريّة معا، فهذا ما نجده كامناً في القوة في مفهوم التجديد((تجديد الشيء فيعني صيّره جديداً و"التجديد إنشاء شيء جديد أو تبديل شيء قديم. )) ( ) في هذه الممكنات توحد إنها تحتوي على مشروعٍ يقوم على الإحياء والجدّة في القراءة التي تدرك أفقها وانصهار الآفاق بينها وبين الآخر سواء كان التراث أم الآخر الغربي وقد ظهر هذا في رؤيته النقديّة في تصوره للذات وجدليتها مع الجماعة والكون ، فهذه القراءة تعد أهم محاولة ولعلّها المحاولة الوحيدة ؛ لتأويل الإسلام تأويلاً فلسفياً معاصراً هي تلك التي قام بها مفكر هندي آخر وشاعر ذو حس مرهف وعالم واسع الاطلاع على الفلسفة وهو محمد إقبال.( )
وبعد تناولنا تصورات إقبال للفرديّة ؛وصولا الى الخلافة التي يمثلها الانسان ، هنا نحاول أن نقف عند موقف إقبال في مشروعه التجديدي ؛فهو القائل (ولقد حاولت في هذه المحاضرات التي أعددتها بناء على طلب "الجمعيّة الإسلاميّة بمدراس"، وألقيتها في "مدراس" و"حيدر آباد" و"عليكرة". بأن أحاول بناء الفلسفة الدينيّة بناء جديدا آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانيّة من تطور في نواحيها المختلفة. واللحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لعمل كهذا))( ( .أي الجمع بين التراث وإشكالاته الاجتماعيّة والحضاريّة والآخر الغربي والواقع الذي كان يعيشه إقبال أي الواقع الهندي وموقف المسلمين من التحولات المطرّدة في الهند .وهذا ما انتبه له وهو يخطو خطواته الاصلاحيّة الاولى اذ انتبه "محمد إقبال" في منهجه الإصلاحي إلى أمرين مهمّين:
أما الأول فهو : ظروف الهند عامة، والمسلمين بخاصة التي تتميز بالركود الفكري والانحطاط الاجتماعي والضعف والتخلف في وقت يملك فيه المسلمون البعد المعنوي القادر على استنهاض الهمم . لكنها اضحت مصدراً من مصادر الجمود إذ هيمنت الرؤيّة الجامدة القدريّة مما استحال أن تجتمع معها كل نهضة وهو أمر مستبعد من دون إحداث تحول في النظر يقوم على النقد والعودة الى الأصول ومقاربتها نقدياً .
أما الأمر الثاني فهو كون الأوروبي المعاصر شيّد حضارة راقيّة منتجاتها الماديّة الجديدة والبرّاقة ولكنها عملت على استباحة العالم الثالث وأخضعت موارده ؛ من أجل مصالحها ونهبتها وزرعت الشقاق بين المكونات كما حصل بين الهنود من (هندوس ومسلمين) ؛ فكان لابد من معرفة هذا الآخر معرفة نقديّة معمقة تدرك مواطن القوة والضعف فيه وهنا جاءت رؤيّة إقبال النقديّة للأخر وهي تغزو العالم الإسلامي حاملة فكر في أسسه ومقوّماته مع مقومات وأسس الإسلام. فكان لابد من الجمع بين النقد واستنهاض الهمم (( وقد قوّى الإعتبار الأخير إيمانه بتفوق الإسلام كمثال خلقي وروحي، فوقف حياته على الدفاع عن هذا المثال وعلى تطويره ، وكانت المحاضرات الست التي ألقاها في "مدراس" "سنة 1928-1929م. إسهامه الكبير في مهمة إيقاظ أبناء دينه في الهند، وإعادة النظر في الإسلام بمفاهيم معاصرة وحيّة، مستمدة بالدرجة الأولى من حصيلة الفكر الأوروبي في القرن التاسع وأوائل القرن العشرين.))((
نستطيع أن نفهم أطروحته التي كانت تقوم على رفض الجمود والسكونيّة في التراث وإحلال منطق مختلف عن المنطق الصوري السكوني الأرسطي والجبريّة الفقهيّة ؛ لكن من أجل تأصيل المنهج التجديدي عند أحد أعمدة التجديد في الاسلام في القارة الهنديّة نجد من الضرورة تحديد الاطروحة المركزيّة الفكريّة التي انطلق منها محمد إقبال والتي اجملها في مجموعة خطوط عامة هي :
1- .ان جوهر التوحيد يتضمن تنظيم الحياة الاجتماعيّة .فيرى معنى خاصا في التكامل الاجتماعي للإنسان ، ويعتقد بأن الأصول الثلاثة : (الحريّة ،و المساواة ، و المسؤوليّة المشتركة) إذ يجب أن نفهمها في كل عصر بما يتناسب مع مقتضيات ذلك العصر ، إذ تظهر على شكل روابط وقوالب حقوقيّة و مؤسسات اجتماعيّة .
2- ان الإسلام يرى في عالم الطبيعة والمادة ميداناً لتجليات الله ،ومن ثم فان كل أمر دنيوي يمد جذوره الوجوديّة الى القداسة ، فكل شيء مقدس .
فضلاً عن الطبيعة يأتي التاريخ إذ تتجلى آيات الله في ثلاثة منابع هي : (الطبيعة ،و التاريخ ، و الوحي) .( )
بمعنى أنه يدرك دور الدين في تماسك المجتمع إلا إنه يدرك أنّ هذه السكونيّة بحاجة الى حراك فكري ومجتمعي وهذه هي الصيرورة التي تراعي تجليّات الله في الطبيعة والتاريخ ومن ناحيّة أخرى مراعاة المنجزات العلميّة التي تحولنا من السكونيّة الى الحركة ومن الكليّة الى الحياة اليوميّة من دون نزع علاقتها بالآتي، وهذه الاطروحة حضرت بعمق في المنهج والرؤيّة لدى المفكر إقبال .
نستطيع ان نتلمس منهجه في التجديد وتأويل النصوص تأويل يتناسب مع الحاجة التي يفترضها ، فقد جاء منهجه بالجمع بين (الدين وطابعه الوجداني والعقل ومنهجه الاستدلالي ) بكل ما جاءت به العلوم المعاصرة اذ جاءت تلك العلاقة الجدليّة برؤيّة نقديّة للتراث وما جاءت به القراءات التاريخيّة للمسلمين من خلال انفتاحهم على غيرهم من ناحيّة وتحدياتهم التاريخيّة وقتها وما قادهم من ثم الى تأويلات للنصوص، ومن هنا نستطيع أن نقارب هذا الجهد من خلال جمع اقبال وما أحدثه من تلاحم وتواشج فعال ظهرت عبقريّة محمد إقبال الفذّة، ، برز في الميدانين: العقل والوجدان معاً ((حتى إنك لتجد في إنتاجه العلمي نبض الحياة، كما تجد في إنتاجه الروحي حقائق العلم وثمرات اليقين في انسجام وتكامل. وعلى الرغم من أن الكثيرين من المهتمين بآثاره قد سموه حقاً بالشاعر الفيلسوف أو الفيلسوف الشاعر إلا إننا نرى فيه أيضاً متنبِّئًا ثاقب الفكر، يمتلك حدس الفنان وقدرته على تشخيص مسيرة الحياة في القارة الهنديّة والمجتمع الإسلامي بأكمله)). ( )
إقبال الذي كان ينشد احداث انقلاب حقيقي يحرر الأمة من هيمنة الماضي التقليدي الذي كان في وقت ما يخدم الأمة في الحفاظ على هويتها في مواجهة الاحتلال والتميز والإقصاء الا إنها اليوم أصبحت عقبة كبيرة امام النهضة فرؤيّة إقبال تنشد تجاوز السكون الى الوثبة التي تقود الى نفي التقليد وتحي الأصل وتنفتح على الجديد اعتزازاً بالذات والعمل على إحداث التطور المبدع الذي لابد وأن يقود إلى نوع جديد يتجاوز الدوران حول أنفسهم ومن الحلقة المفرغة التي يعيشون في داخلها .
فكان لابدّ لهذا الجهد الاصلاحي التجديدي الى إحداث أثر في الأمة يجعلها تتفاعل معه وتستجيب الى ندائه الاصلاحي ، مما يدفعهم إلى تحطيم أغلال التقليد اجتماعياً ودينياً واخراجهما من التقوقع الى التحرر والتجديد .
المنهج التجديدي عند إقبال
هذا الموقف الحيوي كان يحتاج الى نقد ما هو متحول في الفهم الاسلامي من القراءات التاريخيّة التي جاء بها المسلمون في تلك الأزمنة والتي منحت الزمان ثبوت دائم واستبعدت التحولات وتاريخيتها ،وهي فكرة موجودة في فهم المسلمين للزمان الثابت ، وانطلاقاً من فرضيّة إقبال الاساسيّة التي تجمع بين الجوهر الاجتماعي للدين ومشروع الاسلام في التجديد على الصعد الثلاثة: " الطبيعة ، والتاريخ ، والوحي" نجده يقدم تصوراً حيوياً للزمن مخالفاً للرؤيّة التراثيّة القائمة على الثبات والتي تجلت في الاسلام في الفهم التقليدي " لمقولة القدر" والتي تجلت في فهم الفلاسفة للتصور الماهوي الثابت كما نقلها الفلاسفة المسلمون عن الفلاسفة اليونان .
1- الزمن بين الثبوت والتحول :
في مجال الزمن هناك تصور نقدي جديد عن مفهوم الزمن في الفكر الاسلامي سواء جاء ذلك لدى الفلاسفة أم علماء الكلام ممن تركوا تصوراً جبرياً عن القدر، فهذا التصور النقدي للزمن يعود الى الثوابت التي وجدناها في اطروحة إقبال والتي تدور حول العلاقة بين (المقدّس ، والطبيعة ، والتاريخ ، والوحي) ، فهذه الرباعيّة دفعت اقبال الى استثمار فهم حيوي للزمن يختلف عن التصور الأرسطي الثابت الذي انتشر في العالم الاسلامي وأصبح جزءً من اللاهوت الاسلامي من هنا نفهم دعوة إقبال إلى إعادة بناء الفكر الديني الإسلامي عبر تأسيس علم كوني غير ثابت بل دينامي: المدهش هو أن تكتشف أن مشروع إعادة تأسيس الإسلام يستند- بنوع من الحواريّة الفاتنة بين التراث والحداثة- على فلسفة برغسون التي درسها إقبال في بيركلي، والذي التقاه إقبال بباريس في سنة 1931م.فهذا الفهم يقوم على المقاربة العلميّة المعاصرة للزمن كما سبق التطرق لها ، فهي التي خلقت قطيعةً مع الفهم الارسطي وقالت بفهم جديد قوامه فهم جديد يظهر فيه الزمن بوصفه يعني الديمومة، وفي توصيفها أي الديمومة نجده استعار من ((هنري برجسون الذي يرى جوهر الواقع في الحركة، فالمادة عنده ليست شيئا لا يتغير يكمن خلف الأشياء، وإنما هو نظام لحلقة متتابعة من الأحداث. وهو ما تجسّد في مفهوم التطور الخلاق ، ومفهوم الطبيعة بوصفها موجاتٍ متواصلة من الحركات الخلّاقة. )) ( ) ؛ فهذا الفهم الجديد منح اقبال امكانيّة مغادرة التأويلات الفلسفيّة الاسلاميّة ذات التصور المستفاد من أرسطو فإنه تمكن من توظيف هذا التصور في تأسيس تأويل جديد للدين في وقت كان الدين في الغرب يحاول أن يخظعه كانط الى حدود العقل نجد اقبال يحاول العكس أن يؤسس له تأسيساً ديناميكياً قوامه الرؤية العرفانيّة التي تشكل إضافة نقديّة للفهم العرفاني الايراني والتصوف الهندي ،وقد جاء بمزيج يربط فيه :علوم الطبيعة بالفلسفة والتصوف ارتباطا عميقا ففلسفة إقبال هي فلسفة الحياة الشاملة السائرة في ضوء الإيمان من دون خوف ، وقد جَلَّى هذه الفلسفة في كتابه " أسرار خُودي = أسرار ذاتيّة" الذي أراد من خلاله خَلْقَ شخصيّة إسلاميّة معاصرة تعمل تحت تأثير القرآن الكريم والنظريات الصوفيّة عن الإنسان الكامل، يقول: "إن الذاتيّة أساسُ الحياة ، فالله تعالى ذات، و الإنسان ذات ، وحياة الإنسان تتجلى في هذه الذاتيّة" . ( ) بنى إقبال فلسفته على الذات. ودعا إلى إثباتها وتربيتها وتقويتها، كما يرى القارئ في أسرار عَنى الشاعر في هذه المنظومة . أسرار الذات الخلاصة التي قدمتُها من منظومة بالاعتراف بالفرد، والإيمان بقواه الكامنة، وبما تفعل هذه القوى في هذا العالم خودي إذا أثُيرت.( ) فمفهوم الذاتيّة الشاملة عنده تقوم على الذات الإلهيّة الكبرى، وهي عنصر من العناصر المهمة في بناء الواقعيّة. ومن ثمة كانت فلسفته فلسفة تجريبيّة و إراديّة، بعيدة عن كل الفلسفات الموغلة في الذهنيّة والتجريد؛ ولذلك نجده يفضل المفكرين والفلاسفة والصوفيّة الذين تتوافق أفكارهم مع فلسفته، فهو ينحاز إلى جلال الدين الرومي في مبدأ العشق العيني الذي يعد العشق كالقوة الكونيّة الموجودة في كل الكائنات، ومصدره الله تعالى وبالمقارنة بين العقل والعشق نرى أن العشق عند جلال الدين الرومي أكبر درجة، إذ يشبهه بالوجود نفسه، أو بذات الله، ويقول : " لو لم يكن العشق لما كان الوجود" .فالتجديد كان يعتمد على منهج اصلاحي روحي أطلق عليه بالنظريّة الذاتيّة، وهي تقوم على اركان محددة تمثل :
تأويل الكون تأويلا روحياً : فهذا التأويل يتجاوز التأويل الصوفي السلبي صوب التأويل الصوفي الايجابي ، الذي يُحي الذات ويبلغ بها أعلى المقامات ؛ فالحياة مستمرة وبذلك تتجلى قوى الذات الحقيقية ؛ لأن الانسان في صميم كيانه قوة روحيّة مبدعة ومتصاعدة تنمو في سيرها من حالة وجوديّة الى أخرى ، وبهذا فهو يتجاوز التأويل السلبي للتصوف القائم على موت الذات ونكرانها ، فعلى الرغم من كونه ينتهج منهجاً صوفياً ايجابياً يقوم على التأكيد على تربيّة الذات بالطاعة وضبط النفس إذ تتأكد صلتها بالسماء وتنطلق من عمل موصول لا يعرف الكلل ، وعندئذ تستطيع الذات الابتعاد عن السلبيّة التي ألفتها من جرّاء تأثير التصوف الهندي القديم والتصوف الأعجمي اللذين يتسمان بالسعي الى محق الأنا أي الذات بتجاوزها وترك العمل. .نجده يعتمد على التجربة الذاتيّة أو ما يعرِفه بالتجربة الدينيّة التي عدها مصدراً من مصادر المعرفة المستقلة عن الحواس، ثم يعمل على الجمع بين حقلين كانا يعدان مستقلين في الإفهام الاسلامي بين : (الصوفيّة والسلفيّة ، والفلسفة والعلم الغربيان) من ناحيّة أخرى اذ((نحت ممراته الخاصة التي قادته شيئا فشيئا إلى أرضه الفلسفيّة الروحيّة التي لا تشبهها أرض أخرى )).( ) مما جعل من فلسفة إقبال تحتوي على مضمون صوفي يتجاوب بها مع رهانات التراث وخطاباته القائمة على الجمود والقدريّة والخوف من عذاب القبر ، مما خلّف انساناً مشلولاً ممزقاً يعجز عن مقاومة أي قوة تسعى إلى استعباده ، فكان التصوف بحسب رؤية اقبال لأفق خلاص من هذه المعاناة عبر تنمية حياة روحيّة وأخلاقيّة وعقليّة من خلال الانتقال من تراث من الاسترقاق الى واقع ينشد الاصلاح والمحبّة والانعتاق وتحقيق الحريّة يتجاوز توثين الحروف وهدر المقاصد الى قراءة تحيّ المقاصد الشرعيّة وأهدافها الكليّة .وهذا ما تجلى في نصوصه النثريّة والشعريّة التي تؤكد على شيء واحدٍ هو أن الإسلام بكامله من الناحيتين: ( النظريّة والعمليّة ) يستطيع أن يقدِم للعالم المعاصر حلَّ مشاكله، يعني بحلَّ مشاكل الإنسان الفرد بصفة خاصة والدولة بصفة عامّة .لأن إقبال كان يجد أن الشرق هو المؤهل الآن لتقديم النور والإشراق الحقيقيين من جديد إلى العالم، وأن الإنسان المسلمَ أينما كان هو شَرْقٌ، أي إنسان كاملٌ حقيقي يرى نفسه عبدا لله وخليفته في الأرض. وهذا الرأي هو الأساس الذي يحتوي في حد ذاته على جواب لكل الإيديولوجيات في القرنين الميلاديين السالفين والقرن الحالي، وهو جواب له أهميّة عظمى في عالم يصبح أكثر فأكثر عالماً واحداً.فهذه الرؤيّة الاصلاحيّة على الرغم من ارتهانها إلى أوضاع الهند الا إنها اكتسبت بعداً كونياً اندمجت فيها حيازات متنوعة يصفها الألماني "هرمان هسه H.Hesseـ" ينتمي إلى ثلاثة أحياز روحيّة، وهذه الأحياز الروحيّة الثلاثة هي منابع آثاره العظيمة، وهي :(حيز القارة الهنديّة، وحيز العالم الإسلامي، وحيز الفكر الغربي). ( )
وقد اثرت تلك الحيازات المتنوعة المشارب في منهجه إذ انصبت على الأبعاد الوجوديّة للحقيقة في اطلاقها وللإنسان في خصوصيّة وتحدده ويرسم الخط بين الثابت بمقابل المتحرك او الله بمقابل الانسان هذه التصورات التي تأخذ بالمرونة والتكيف مع مراعاة جذور الإنسان المسلم و العمق الحضري والتي تركت حضوراً بارزاً في تصوره للذات :
1. تحرير الذات للفرد : من المؤكد أن إقبال في جمعه بين التراث الصوفي الايجابي والتراث الديني المتمثل في (القران الكريم والسنّة النبويّة ) ، وبين الفهم الحديث للذات القائم على بعدها الروحي والوجودي والمعرفي ، لم يترك إقبال الفرد غافلا عن مجتمعه ، ويعمل كل ما ذكره بمعزل عنه ، بل بتوثيق العلاقة وتوطيدها بين الفرد والمجتمع بهذا يمكن تحصيل الكمال التام للإنسان والإنسانيّة ، فهو بهذا يختلف عن التصور الوجودي الذي يرى في الآخر جحيم للذات ويجعلها مرتهنة الى ذاتها وقلقها على وجودها ، وهو يختلف عن التصور الصوفي السلبي المنعزل على الفعل الايجابي في المجتمع ؛فهو يهمل البعد الاجتماعي ويعمل على موت الذات ، أما إقبال فقد ادرك كل هذا إلا إنه أراد أولاً إحياء الذات وخلق قطيعة مع الواقع المتردي ومن ثم جعلها شعلة تنوير تغير المجتمع من التقليد الى التجديد ،أي أن للذات بعدين :(الاول اجتماعي ، والأخر ذاتي عرفاني شخصيّ) .أما الاول فقد كان إقبال يتأمل في مصير الانسان سواء كان جماعة ام فرداً ، فعلى صعيد الجماعة نجد أن إقبال ينظر إليها نظرة تكامليّة من خلال مبادئ : أولها التوحيد ، فهو بمثابة العلاج ، الذي يزيل الشعور بالاغتراب ويزيل آثارهِ المرضيّة ، فيما جاء المبدأ الثاني في أن مقصد " الرسالة المحمديّة " الحريّة والمساواة والأخوّة بين بني آدم وبهذين المبدأين أي: ( التوحيد والرسالة المحمديّة) ، تغدو الوحدة متجاوزة للوطن صوب الأمّة؛ فالأمّة المحمديّة لا يحدّها زمان و لا مكان ، تضم الجميع ، وينظم علاقاتها القرآن ، القانون المنظم لهذه الأمّة العابرة للأوطان ، وما يجعلها أكثر تأدبا وأنضج هو ما يتمثل باتِّباع الشريعة الإلهيّة ،وإن حسن سيرة الأمة بالتَّأدُّب بالآداب المحمديّة، وحياة الأمة تقتضي مركزًا محسوسًا وهو مركز الأمة الإسلاميّة الحرمُ .
أما على المستوى الثاني فقد اثبت إقبال وجود النفس وأقرّ بروحانيتها ووحدة أفعالها وآمن بخلودها وبعثها من جديد. وكانت النفس الإنسانيّة محوراً لفلسفة إقبال وهو ما عرف بالفلسفة الذاتيّة. اذ نجد إقبال يقدم تأملا يقول فيه : أحلُّ لك عقدة من أمر الحياة وأنُبئك بسرِّ الحياة ، ويصف الحياة في فرارها وقرارها، إلى أن يقول:إن الحياة طائرٌ لا عشَّ له. إنها ليست إلا الطيران. إنها طائرٌ طليق وفي القفص حبيسٌ، يخلط تغريده بنواحه. الحياة تعقد العقد في أمورها، ثم تحل ما انعقد بتدبيرها.إن الحياة السريعة تقيد قدمها في الطين ؛لتزيد لذَّة نمائها وسيرها كل حين. وإن في حرقتها ألحانًا لا تنفَد، وإن وليد يومها الأمس والغد.هي كالرائحة حركة لا تقر، ولكن تسكن الصدر فتصير نفسًا حيٍّا.ثم انه يقول "أخرج النغمة التي في قرارة فطرتك ، ياغافل عن نفسك .أخلها من نغمات غيرك"( ) ، ومن كل هذا نفهم بأن منهجه في التحرير يقوم على تحرير الفرد أولا ومن خلاله يتم تحرير الأمّة ونقلها من السلب الى الايجاب وهو بهذا أحدث تحولاً تجاوز الدين السكوني التقليدي كما يظهر في السلفيّة والتقليديّة والمثالية الافلاطونيّة والتصوف السلبي ، من خلال دفاعه عن الذات وهو يحارب التصور السكوني للدين التقليدي الذي انحرف عن جادّة التوحيد ،فهو يقول بالكمال النسبي وليس بالكمال المطلق بقوله : ((يتعرض لطبيعة الذات التي هي بحيث إنها على الرغم من قدرتها على الاستجابة إلى الذوات الأخرى، فإنها متمركزة حول نفسها، ولها دائرة من الفرديّة وبخاصة إنها تستبعد ما عداها من الذوات الأخرى. وهذا وحده هو الذي يؤلف حقيقتها بوصفها ذاتا. وعلى هذا، فإن الإنسان، وقد بلغت ذاتيته كمالها النسبي له مكان حقيقي في صميم القدرة الإلهيّة الخالقة، التي وهبته القدرة على تخيل عالم أفضل، وعلى تحويل ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون)).( ) يتحقق هذا عبر البعد المعنوي للدين الذي يتجلى من خلال التجربة الدينيّة ، اذ في جوهر الدين يكمن في الإيمان الذي يواصل طريقه المجهول طليقا غير عابئ بقيود العقل ، ولذلك لا نستطيع أن نكوِن صورة حقيقة واضحة عن الله. ( ) فالجدليّة بين الذات والجماعة تتحقق عبر وساطة الله وحضوره عبر القران الكريم ،إذ يتحقق التفاعل والحيويّة الاجتماعيّة والذي ينطلق من حيويّة الجانب الاجتماعي في المشروع القرآني الذي له دور فعال في تنظيم المجتمع بالانفتاح على الأنموذج الكامل والذي يكتنز ثوابته في الحريّة والمساواة من ناحيّة والمسؤوليّة بكل تاريخيتها التي تعني التحول والتجدد بما يتناسب مع المتغيرات في الجمع بين الروابط الحقوقيّة والمؤسسات الاجتماعيّة .
انطلاقا من تلك الاطروحة جاءت رؤيّة اقبال التجديديّة التي تقصد إلى إعادة التوازن المفقود بين الدين والدنيا وبين الروح والمادة ، وإصلاح الفكر الديني في العصر الحديث على وفق شروط هذا العصر وظروفه. عبر التأليف بين عنصري/مقولتي الثبات والتحول من ناحيّة وبين مقولة الخارج (المجتمع ) والداخل (الحياة الروحيّة ) تكامل وحيويّة لهذا تجد اقبال يحاول إرضاء عقول المسلمين ووجداناتهم بضوء رباني جديد، باتت معه النفوس المسلمة في كل بلاد الله تعرف ربها. و قد قال بهذه المناسبة ما يشير إلى هذا :(( إن الدول تولد في صدور الشعراء، وتنشأ وتموت في أيدي أهل الساسة)) .( )
وهكذا يمكن ان نفهم تصور إقبال للذات وعلاقتها بالمجتمع لكن ما هي العوامل التي تقوي الذات وما هي العوامل التي تضعفها ؟ سؤال افتراضي ؛ الا أنه من المهم في عملي البحث عن عوامل القوة وعوامل الضعف ، وبالآتي نحن أمام تحليل نفسي وطريقة صوفيّة تقوم على التأمل والعمل معاً في تدريب المثقف وجعلت من المثقف واعيا مدركا لعوامل النقص التي عليه تجاوزها وعوامل القوة التي عليه إدراكها وتفعيلها في نظرة الى ذاته وعلاقتها بعالمها بصورة نقديّة ، وقد صنّف تلك العوامل فنجده يؤكد على :العوامل التي تقوي الذات :وهي تتمثل : بـ(الحب والعشق ،الفقر ،الشجاعة ،والنشاط الخلاق .) ،والعوامل التي تضعف الذات ،وهي تتمثل :بـ(الخوف ،والتسول ،العبوديّة ،إنكار الذات).( )
يظهر واضحا التحليل النفسي الذي أدركه اقبال في الفرد نفسه والذي يخضع إلى المجتمع السكوني التقليدي الطقوسي ؛ فهو فرد يعاني من اغتراب عميق للذات بفعل الضغط الكبير الذي سلطه عليّة المجتمع ونظرته الدينيّة السكونيّة فهو يعمق به الشعور بالتبعيّة التي تعد من أهم ملامحها إنكار الذات والتي هي نتيجة للشعور العميق بالعبوديّة للمجتمع وما فيه من طواغيت يهيمنون ماليا وسلطويا ؛ فهم يمارسون إقصاء الخصوم وهذا يولد لدى الفرد الشعور العميق بالخوف وهو يعيش على التسول ويخضع نفسه الى رهانات المجتمع طامعاً بالعيش كهامش .
اما الحالة التي ينشدها إقبال للذات المثقف المسلم الذي لا ينتمي الى المجتمع التقليدي ويريد أن يحدث فيه نقلة فلابد من أن يحدثها في ذاته أولا وهذا يتطلب معرفتها بذاته ، لأن معرفة الذات مقدمة لا مناص منها لمعرفة الله ، ومن هنا كان إقبال منهاجاً تربوياً للذات إذ اراد أن يصل إلى حقيقة عالية وغاية عظمى من إثبات الذات ألا وهي الوصول الى درجة الإنسان الكامل ، هذا الإنسان ذو الشخصيّة القويّة ، والطاقة الخلاقة المبدعة الذي يكون نائب الحق –سبحانه وتعالى – فيكون يد الله وسمعه وبصره ، ويكون جارحة من جوارحه تعالى .( ) وقد بيّن أنّ الكمال يتحقق في ثلاث مراحل كما جاء في ديوان " الأسرر والرموز" :
1. إطاعة القانون الإلهي :الطاعة هنا الى الله وليس الى انسان بل هي تقوم على الانقياد لأوامر الله ونواهيه ،
ألفه الكد شعارُ الجملِ شيمة الصبر وقارُ
2. ضبط النفس : تبدو رؤيّة اقبال الجامعة بين البعد الخارجي ممثلاً بالطبيعة والبعد الداخلي ممثلاً بالتجربة الذاتيّة كان يعبر عن رؤيّة كونيّة واحدة كما سبق التطرق له ؛ الا إن تناصات اقبال تبدو في جمعه بين التصورات العلميّة التي جاء بها العلم والفلسفة الغربيّة ممثل هنا بشكل أبرز في برجسون الذي تكلم عن " وثبة الحياة" ، وهو مبدأ الانطلاق الخلاق الموجود في الطبيعة وفي الكون كله، وهو مبدأ قريب من المبدأ الكوني في عقيدة جلال الدين الرومي الذي يطلق عليه " العشق الخلاق" .
3. النيابة الإلهيّة (خلافة الانسان لله):إن هذه النقطة مرتبطة جدليا بالنقاط السابقة لها وكأنها الخاتمة التي يكتمل المراد عندها في مدوّنة إقبال الاصلاحيّة التي تنطلق من الذات في رحلتها المعنويّة صوب كمالها في سفرها باتجاه الله ، والتي يشترط بها تغيير الذات عبر جدليّة الظاهر والباطن ما لم يتغير الباطن لا يتغير الظاهر عبر المحبة التي هي أصل الموجودات كما قال بها بن عربي من قبل .فإن الانسان بتغير باطنه يكون قد أصبح سيد نفسه وليس عبد لها وهذا شرط ليكون نائباً او خليفةً لله ((وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الارض خليفة )) ( ) ،ويتناول إقبال معالجة هذا الأمر في مكانين هما : "اسرار الذات" ، و" جاويد نامه" أما في الاول فيقول :
نائبُ الحقِ على الأرضِ سعيدٌ حكمهُ في الكون خالدٌ لا يبيدُ
ويقول في الثاني
((هو كليم وهو مسيح وهو خليل ، وهو محمد زهو الكتاب ،هو جبريل ، خفيّة تنعكس صفات الأنبياء جميعاً ولكنه ليس بنبي هو شمس كائنات أهل القلوب ، من شعاعه حياة أهل القلوب ). ( )
ويعد إقبال الإنسان نائب الحق في الأرض, مثله كمثل الروح للعالم, ووجود ظل للاسم الأعظم, فهو مطّلع على رموز الجزء والكل وهو في الدنيا قائم بأمر الله. ((إذا قهرت كل الصعاب في طريقها بلغت منزلة الاختيار، والذات في نفسها فيها اختيار وجبر؛ ولكنها إذا اقتربت من الذات المطلقة (الله) نالت الحريّة الكاملة، والحياة جهاد لتحصيل الاختيار ومقصد الذات أن تبلغ الاختيار لجهادها.))( )
المطلب الثاني: تجديد الأمة وتجاوز التقليد
بعد تطرقنا الى الرؤيّة والمنهج الوجودي النهضوي وخطابه الصوفي المميّز القائم على العشق والمحبة كل هذا كان يتطلب تقديم خطاب تجديدي وهو ما ظهر في كتابه الذي كان موجه الى هذه الغاية ،وهو حصريا موضوع هذا المطلب .
اذ أدرك إقبال كما مر بنا من قبل أن المسلمين ومنذ العصر الوسيط وهم يقومون بقراءة القرآن بمنظار أرسطو. وبما أن أرسطو كان على نحو ما قد ثبت الزمن، فقد علمنا أن نستعمله وكأنه مقدار فيزيائي، وأن نتصور الزمن في ضوء قانون حركة ينتقل من الداخل إلى الخارج. إقبال فهم البرغسونيّة بوصفها انبثاقا جديدا للزمن الخالص ؛لأن الزمن بالنسبة إلى برغسون ليس فضاءاً تتعاقب في داخله الأحداث. ليس الزمن إطاراً للكائن إنه حبكته: الزمن نفسه يعمل على تغييرنا. وبهذا تكتسب بعض الآيات القرآنيّة الغامضة المعنى. وعلى سبيل المثال فكرة أن الله بدأ الخلق ثم أعاده’: ما الذي يجعل الله يبدأ العمل في الاثنين ثم يتمه يوم الثلاثاء؟ وعلى سبيل المثال أيضا الحديث الغريب "لا تسبوا الدهر فالدهر هو الله". بمجرد ما ندخل إلى هذا الفكر التجديدي، يكتسب النص القرآني دلالة جديدة. يتعلق الأمر إذاً بجعل الإسلام يتجدد عن طريق حركته الخاصة. ولكي نقولها بلُغة برغسون نفسه، الأمر يتعلق بجعل الإسلام يخرج من " أخلاق التأثير"، أي من التكرار إلى المتماهي مع الذات نفسها، وذلك من أجل "أخلاق الانجذاب".( ) بمعنى آخر هنا تباين مع الفهم الفلسفي القائل بالثبات الارسطي الذي استوطن قراءات الفلاسفة العرب وتسلل الى الرؤيّة الجبريّة التي تنظر الى القدر نظرة انتقدها اقبال اذ اكّد في هذا المجال على إن إعادة الحيويّة إلى الفكر الديني ليست مسألة مرتبطة باستيعاب العلوم الحديثة فحسب. بل إن النقطة المحوريّة والمحدِّدة في ذلك تتمثل بالأحرى في تصور ديناميكي للعالم وللإسلام، أو ما يجب أن يعاد اكتشافه من المعنى الحقيقي للإسلام كمقابل ونقيض للمفهوم الاتكالي المضلل لمسألة القضاء والقدر.
فالقدر مثلا يقرأه ويصوغ إقبال لهذا الغرض نظريّة فقهيّة قائمة على مبدأ الإبداع المتجدّد: "إن الزمن ككليّة عضويّة هو ما يعنيه القرآن بعبارة القدر؛ عبارة غالبا ما تم تأويلها على وجه الخطأ سواء في داخل العالم الإسلامي أم في خارجه. إن القدر ليس شيئا آخر غير الزمن منظورا إليه في ما قبل انكشاف إمكانياته المتعددة(..) وإن قدر شيء ما ليس قضاءاً ثابتا متحجرا يفعل فعله من الخارج مثل مرب صارم متعال، بل هو المدى الداخلي لشيء ما ومجمل إمكانياته القابلة للتحقق(...). وإذا ما كان الزمن شيئا واقعيا(...) فإن كل لحظة من لحظات الحياة الواقعيّة ستكون أصيلة إذا وتتمخض عما هو جديد حقا وغير متوقع سلفا. وفي القرآن يرد ما معناه أنّ الله له في خلقه في كل يوم شأن جديد. إن الوجود داخل الزمن الواقعي يعني(..) إعادة خلق الزمن في كل لحظة، وأن يكون المبدع حرا حريّة مطلقة وأصيلا في خلقه. إن الكون في مجمله عبارة عن حركة إبداع متحررة من كل القيود." مقولة مصاغة بشكل مذهل! لكن العهود والمواثيق لن تظهر؛ إلا فيما بعد عندما ينتقل إقبال من مجال الفكر اللاهوتي الحر إلى المجال الدقيق للفقه التشريعي، إذ تكون القواعد والأعراف الاجتماعيّة ومن ورائها القيم المتينة مطروحة للنقاش مع كل كلمة؛ لكن، بما أن المبادئ السرمديّة يمكنها أن تتحول إلى معيق عندما يتم فهمها على كونها إقصاء لكل تحول، فإن الاجتهاد يغدو ضرورة كوسيلة لتنشيط الديناميكيّة.
ومن ناحيّة ثانيّة فبعد استعراض آراء الفلاسفة اليونان ثم المسلمين في هاتين القضيتين، يورد رأي اقبال من خلال محاضراته وأشعاره. فهو يرى أن الايمان بالله فطري بغض النظر عما تسوقه مدرسة الفلسفة الكلاسيكيّة من براهين فلسفيّة على وجوده. وتناول إقبال الأدلة الثلاثة للفلسفة بالتحليل والنقد مبتدئا بالدليل الكوني الذي ينظر الى الكون على إنه معلول متناه ثم الدليل الغائي القائم على إن العالم رُكب على وفق نظام ليحقق غاية ما، وأخيراً الدليل الوجودي الذي يقوم على استنتاج وجود شيء من وجود فكرة عنه. وعملياً فإن اقبال ينقد الأدلة الفلسفيّة الكلاسيكيّة ويبين الهنات التي ترتبط بكل منها، في هذا المجال يرد موقفاً نقديا له من ضمن كتابه عن التجديد اذ يتطرق الى الأدلة الثلاث اذ يرى في الدليل الكوني :إن الانتقال من المتناهي إلى غير المتناهي –كما يتضمن الدليل الكوني – ظاهر البطلان في نظر المنطق وبهذا يتهافت الدليل بجملته .( )
أما الدليل الغائي ،فهو يتقصى المعلول للوصول إلى نوع علّته ، ويستنتج منه آثاراً للبصيرة ومن القصد ومن التوافق مع الطبيعة وجود موجود عالم بنفسه لانهاية لفعله وقدرته ،وهذا الدليل في احسن صورة يزودنا بوجود مخترع خارج العالم خير يبدع الصنع ،صعبة القيادة مسابقة الوجود ،ليس لعناصرها من حيث طبيعتها القدرة على التركيب والتأليف المنتظم ..الصانع إذاً عدّ خارجاً عن مادة صنعه وجب أن يبقى دائماً محدداً بها، فيصبح صانعاً متناقضاً تضطره وسائله المحدودة إلى أن ينقلب على ما يلاقيه من صعاب ،على غرار ما يفعله الصانع من البشر .( ) أما دليل وجوب الوجود ،فقد قيل في ماهيّة الله او في مفهومه فلابد من وجود شيء خارجي . ( )
ثالثا : التجربة الدينيّة : هذا المفهوم يعرف في مجال فلسفة الدين من خلال التركيز على الجوانب المميزة في التجربة الروحيّة أو التجربة المُقدّسة،والتي تعرف بوصفها تعد تجربة ذاتيّة، والتي يُقرر الفرد فيها التواصل مع واقع متسامٍ (متعالي) ، لقاءً أو اتحادًا. وغالبًا ما تتضمن مثل هذه التجربة الوصول إلى بعض المعرفة أو البصيرة التي لم تكن سابقًا متاحةً لهذا الموضوع على الرغم من عدم خضوعها للمساءلة أو عدم توقعها على وفق الإطار المفاهيمي المُعتاد أو النفسي الذي يُستعمل من خلاله الموضوع للتشغيل. تُجلِب التجربة الدينيّة عمومًا فهمًا جزئيًا أو كليًا للأمور الشخصيّة الأساسيّة التي قد تكون سببًا (سواء أكانت مُعترفًا بها بوعي أم لا) للكرب أو الاغتراب للموضوع لمدةٍ ممتدة من الوقت. ويمكن أن تعد هذه التجربة بأنها شكلٌ من أشكال الإبراء أو التنوير أو التحول. وقد مكَّنت أوجه التشابه والاختلاف بين التجارب الدينيّة عبر مختلف الحضارات. فهذا المفهوم راسخ في مسيرة اقبال العلميّة والعرفانيّة على مستوى الخارج أو على مستوى الداخل ؛ اذ يعد محمد إقبال التجربة الروحانيّة الإلهيّة على المستوى نفسه من الواقعيّة مثل بقيّة التجارب البشريّة؛ وبما أن رؤيّة العلوم الطبيعيّة تظل جزئيّة –"فهي مثل طيور كواسر عديدة تتكالب على الجسد الميت للطبيعة، يتناول كل منها قطعة من اللحم وينصرف"-، فإن الدين بحكم مقدرته التأليفيّة القائمة على نظرة شموليّة لمجمل التجارب الإنسانيّة الجزئيّة يتخذ له بالآتي موقعاً مركزياً هنا. ألا وهو هنا يمارس نقداً للأشكال الفلسفيّة التجريديّة التي تبتعد عن نبع القرآن وما يحتويه من معانٍ تجلت في العلوم الطبيعيّة أو التجارب العرفانيّة التي تعتمد على الدين نبعا لها اذ الدين وحده من وجهة نظر اقبال هو الذي يستطيع أن يقيم علاقة حميميّة بالحقيقة ويتمثل في ذلك الموقف الروحاني الذي يدعى "عبادة".
فبعيدا عن العقل التجريدي الذي هيمن على الفلسفة الاسلاميّة نجد أن اقبال"الصوفي" الذي اتخذ من جلال الدّين الرومي هاديًا ومرشدًا وإماماً له، في نظم الشّعر، أو في نقد أهل الصورة من علماء الكلام أو الفلسفة أو الفقه، الذين لا يهتمون بالعلم سوى بقشوره تاركين الألباب، متغافلين عن الإنسان ، وهو المقصود بكافة هذه العلوم والأفكار. يقول إقبال: "إنني بفطرتي وتربيتي أنزع إلى التّصوّفِ، وقد زادتني فلسفة أوروبا نزوعًا إليه، فإن فلسفة أوروبا جملتها تتوجّه إلى وحدة الوجود، ولكنّ تدبّر القرآن الكريم ومطالعة تاريخ الإسلام، قد أشعرني بغلطي، ومن أجل تعاليم القرآن عدلت عن أفكاري السابقة ... إن الرّهبانيّة ظهرت في كلّ أمة وعملت لإبطال الشريعة والقانون. والإسلام في حقيقته هو دعوة استنكار هذه الرهبانيّة... والتّصوف الذي ظهر بين المسلمين –أعني التّصوف الإيراني- أخذ من رهبانيّة كلّ أمّة وجهد أن يجذب إليه كلَّ نحلة ... ليست عقيدة وحدة الوجود من تعليم القرآن، فإن القرآن يبيّن المغايرة التّامة بين الخالق والمخلوق". ( )
كانت له تجربه دينيّة مميزة وجد فيها ومن خلالها سبيلاً للتواصل مع الذات الإلهيّة التي اثبت اقبال وجودها وجوداً فطرياً في الذات البشريّة، كما اثبت مالها الذات الإلهيّة من صفات الخلق والعلم والقدرة وكشف عن حقيقتها من خلال آثارها في الوجود. ولم يرد إقبال في هذه الرحلة العقليّة على البناء الميتافيزيقي للنظريّة في مذهب مجرد يظل نمطاً منفصلاً عن الحياة، بل أرادها رحلة عقليّة وجدانيّة سلوكيّة تمنح الإنسان حياته الحقيقيّة التي تؤهله للخلافة والسيادة والتميز. وهذا هو الوجه البناء في فلسفة إقبال الدينيّة، تلك الفلسفة التي لم تقتصر على الدفاع عن نفسها في وجه مخالفيها، بل أرست الركائز الإيجابيّة لصياغة الحياة الإسلاميّة شاملةَ الأطراف، مُحَدَّدَةَ المعالم، ثابتة الخطى ، واضحة الهدف، من دون ادعاء أو تطرف ومن دون غرور وتزييف، ومن دون صَلاَفَةٍ أو تَحَيُّفٍ، ومن دون انخذال أو تَخَوُّفٍ. إن فكر إقبال هو فكر دينامي نابض، يدعو إلى تأمل الحياة، وإلى صنعها، يصور الكون متحركاً متغيراً متطوراً ، تسري فيه الحياة متمثلة بالعلاقة الدائمة بين الزمن الإلهي والزمان المتجدد مما أتاح الفرصة لإحدى النظريات في الفكر الإسلامي أن تقول بالحق المستمر، وهي فكرة تعني في نهايتها أن الكون ينمو ويزداد. الا أنه مزجها بفهمه المعاصر للزمن وكيف نظر الى تجليات المقدس في الدنيوي اذ تطرّق إقبال إلى خلق العالم والزمان والمكان وأخيراً المعرفة، فبالنسبة إلى العالم يرى أنه دائم التجدد وليس مادة جامدة ؛ فهو تركيب من أحداث متتاليّة ومستمرة وقابلة للزيادة. ويظهر في هذا المنهج تأثر إقبال بنظريات الفلاسفة الغربيين، وبخاصة في ما يتعلق بمسألة الحركة والتطور الخلّاق والخلق المستمر في الكون والانبثات الذري في الوجود. وأما فيما يخص الزمان والمكان فيستعرض الباحث النظريات التي تحدّثت في هذا الأمر. ثم يصل إلى نقد إقبال لتلك النظريات ورؤيته إلى أن الزمان هو من التدفق وله وجود خارجي حقيقي، أي إنه ينقسم في الظاهر إلى أجزاء لامتناهيّة. وقد ربط بين المطلق والمقيّد أو بين الله والإنسان في إطار يواكب حياة العصر في المرونة والتكيُّف، ويؤصل في الوقت نفسه إلى جذور الإنسان المسلم في تربة الإسلام، وفي العمق الحضاري للعصر. لكن هذه الحركة الجامعة بين التشكيل كما يظهر في الطبيعة وبين التصميم كما صوره الله لنا كله في وحدة مترابطة وجمعياً منجذبًا نحو الله جل جلاله مصدر الصنع والإبداع، ومرجعِ السعادة والامتاع. وهذا التصور النابضُ يُلهم العلمَ والفن والخلق في وقت واحد .
أما العلم فيستلهم قانون التطور، وأما الفن فيستلهم بالشوق ـ وهو الحركة الشعوريّة ـ رسم لوحاته الفنيّة بالألوان والومضات والتخييل( ) والكلمات ومعارض الجمال ، كما تجسّدت في تجربته العرفانيّة وأما الخلق فيتمثل بـ( آفاق المكارم )التي تجد نهايتها في ذي الأسماء الحسنى .فهذه المعارف الثلاث تتجسد في القوى الانسانيّة الثلاث : العقليّة والشعوريّة والسلوكيّة، وهي ماكشفت عنه نظرة إقبال في كثير من مناحيها و أهدافها، وهويُعطي لها بعدا عالميا. وهو هنا يحاول تقديم تأويل للنصوص مكتشفا فيها أصول فعالة مثل فكرة "وحدة الأصل الإنساني" المستمدة من آيات قرآنيّة كثيرة، مثل (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة)( )، ومثل (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) ( ). فهذه القراءة تعبير عن انفتاح في القراءة على المعاني المستجدة وهي بهذا تعبير عن تاريخيتها من ناحيّة أولى، ومن ناحيّة ثانيّة تمنح التأويل أصول متعاليّة .
لعل التمركز العرقي الذي جاءت به نظريّة الأعراق الغربيّة أسهمت في خلق العنف الرمزي والتعالي الكونيالي على الآخر الشرقي المسلم ، الا إن قراءة اقبال الاستكشافيّة للنص تمنح انفتاحا في التأويل على أفهام جديدة خلّاقة وهي تعبير عميق عن الهدف الاساسي للدين أي المشروع الاجتماعي القائم على الحريّة والمساواة والمسؤوليّة والأخيرة تقتضي انفتاحاً على اشكاليّة القراءة وما تعيشه من رهانات جديدة على الصعيد الاجتماعي من ضمانات الحقوق والمؤسسات التي تحقق الأمن الاجتماعي .وحده على الصعيد الانساني وحده على الصعيد الكوني في ((تشابك جوانبه، وتكامل ظواهره ، وخضوع موضوعاته للفكر الإنساني ـ تعتبر بحق نوعا مثمرا من حيث إفساحها المجال للعقل البشري لكي يقوم بـأداء وظيفته على النحو الأكمل)). ( )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقطاب طلابي في الجامعات الأمريكية بين مؤيد لغزة ومناهض لمع


.. العملية البرية الإسرائيلية في رفح قد تستغرق 6 أسابيع ومسؤولو




.. حزب الله اللبناني استهداف مبنى يتواجد فيه جنود إسرائيليون في


.. مجلس الجامعة العربية يبحث الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والض




.. أوكرانيا.. انفراجة في الدعم الغربي | #الظهيرة