الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نمو الطبقة الوسطى وضمورها في العراق

صباح علو

2017 / 8 / 26
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


نمو الطبقة الوسطى وضمورها في العراق صباح علو - 8-8-2017

في مثل هذا اليوم توقفت الحرب العبثية بين العراق وايران والمنتصر بها خاسرا ( 8 – 8 – 1988 )
ترتبط اشكالية الطبقة الوسطى وتطورها في العراق بتطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ منتصف القرن التاسع عشر وخاصة بإشكالية الدولة والسلطة والتطور الاقتصادي، حيث لم تتطور خلال فترة الحكم العثماني الاستبدادي سوى طبقة – طبقات جنينية في رحم المجتمع العراقي.

غير ان بدايات تشكل الطبقة الوسطى كان مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة في مطلع القرن الماضي ثم نموها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أسهمت الدولة في نموها عن طريق تطور رأس المال البشري ونظام الملكية والتعليم والمؤسسات الإدارية، حيث نمت رؤوس الأموال واستثماراتها وتمركزت في القطاع التجاري الذي كان سببا في نشأتها، وهو ما جعل قطاع الصناعة محدودا في بعض الصناعات الاستهلاكية الصغيرة وذلك لحاجة السوق المحلي لها.
وشهدت توسعا مطردا, حيث شكلت بحسب تعداد 1977 حوالي (35%) من سكان المدن و(22%) من أجمالي السكان, وتضم (المهنيين والأطباء والمحامين والمهندسين والمدرسين وضباط الجيش وموظفي الخدمة المدنية وأساتذة الجامعات والمستويات الوسطى في القطاع التجاري) .

ماهي الطبقة الوسطى؟
عرف عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر الطبقة الوسطى بكونها الطبقة التي تجلس في وسط الهرم الاجتماعي، وهي في الاحوال كافة مجموعة واسعة من الناس انبثقت في المجتمع الحديث وحسب المفهوم الاقتصادي الاجتماعي، لتؤدي مساهمة اجتماعية ـ اقتصادية، وهي تقع بين الطبقة العاملة والطبقة العليا الثرية. وان المقياس المشترك لهذه الطبقة هي راس المال البشري ويتم التعامل معها بكونها راس مال ثقافياً.
تعود تسمية الطبقة الوسطى (middle class) إلى الكاتب الايرلندي جيمس برادشو في مؤلفه الصادر عام 1775 الموسوم (مشروع التصدي لتهريب الاصواف الايرلندية الى فرنسا)، إذ عّرج الكاتب متناولاً تعبير (الطبقة الوسطى) بكونها تتوسط موقعاً بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين في اوروبا.
مميزاتها :
يقول صلاح حسن الموسوي، مدير مركز الجنوب للدراسات والتخطيط الاستراتيجي ان
"اهم مميزات الطبقات الوسطى في العالم تصدي نخبها للعمل الثقافي والإنتاج الفكري وحضور المكون الأخلاقي في صلب تكوينها؛ والتي طالما سنحت به الدولة من خلال أبناءها الذين يصعدون الى الحكم".
الطبقة الوسطى في العراق
على صعيد العراق، ، "بان الطبقة الوسطى هي التي تتوسط هموم الطبقتين الاُخريين، إذ تنحدر الطبقة العليا الثرية نحو الخمول الفكري وهي تنغمس في تعظيم الربح وتراكم راس المال، في حين تكابد الطبقة العمالية والفقيرة هموم العيش وضعف قدرتها على بلورة مطالبها".
"إن الطبقة الوسطى هي من اكثر الطبقات قدرة على بلورة افكارها وتنظيم مطالبها وصياغة حركتها في الحراك السياسي، وان الرخاء النسبي الذي تتمتع به الطبقة الوسطى يمنحها الاستقلال والاستقرار في الحراك الاجتماعي وقيادته، كما ان مقوماتها التعليمية وبنيتها الثقافية مكّنها من ان تطرح نفسها كطبقة متخصصة قادرة على قيادة التنظيمات في ظل النظام المدني".

التصنيف الاقتصادي للطبقة الوسطى في العراق
"قد يكون من الصعب تصنيف الطبقة الوسطى العراقية على وفق الدخل السنوي لتحديد شرائح الطبقة الوسطى في اقتصاد ريعي شديد الاحادية الى حدِ ما، إذ ما زال انتاج الثروة النفطية يتقاسم نصف الدخل القومي السنوي، كما ان 95% من الموازنة العامة للبلاد تعتمد على موارد الريع النفطي في ادامة التشغيل والاستثمار.
"وعلى الرغم من ذلك، صنف العراق من البنك الدولي مؤخراً بكونه واحداً من مجموعة البلدان التي تقع في الجزء العلوي من المجموعة الدولية المتوسطة الدخل، فمتوسط دخل الفرد العراقي السنوي يلامس 7000 دولار في الوقت الحاضر مرتفعاً من متوسط بلغ 750 دولار سنوياً في مطلع الالفية الثالثة ذلك ابان فرض العقوبات الدولية على العراق، واذا ما اخذنا معيار متوسط الدخل السنوي للفرد العراقي، فان الواقع يقتضي التعرف على شرائح الطبقة الوسطى ومقدار اقترابها او تشتتها عن المتوسط العام لدخل الفرد السنوي".
تنقسم الطبقة الوسطى عموماً، بين طبقة وسطى عليا/ وطبقة وسطى متوسطة/ وطبقة وسطى دنيا، يفرق بينها مستوى الدخل والمستوى التعليمي والحالة الاجتماعية. ولكن القاسم المشترك الذي يجمع الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها هي كونها الطبقة التي يتساوى فيها الاجر الحدي مع الانتاجية الحدية،( نظرية الإنتاجية الحدية للعمل، هي نظرية اقتصادية بدأت تنتشر منذ مطلع القرن العشرين في أعقاب نظرية تخصيص الأجور وتذهب النظرية إلى أن أجر العامل يميل إلى أن يتطابق مع قيمة ما يعزى إليه من النتائج أوالإنتاج. ) فالمعيار هنا هو انتاجيتها في تحديد سعة دخلها .

يمكن تقسيم الطبقة الوسطى على وفق معيار الدخل الى الشرائح او الفئات الاتية:

الطبقة الوسطى العليا: وتمثل حوالي 15% من إجمالي الطبقة الوسطى وهم رجال الاعمال وكبار موظفي الدولة والتكنوقراط واصحاب المهن الحرة من صناع السوق، إذ يزيد متوسط دخل الفرد فيها على 12 ألف دولار سنوياً، كما ان مجموع الدخل الاسري السنوي لهذه الطبقة هو بنحو 50 ـ 60 الف دولار.
الطبقة الوسطى المتوسطة: وتمثل السواد الاعظم من موظفي الدولة وشرائح مشابهة تعمل في نشاط السوق من مهندسين وفنيين واداريين وشريحة محدودة من المتقاعدين وغيرهم، وبنسبة 50% من إجمالي الطبقة الوسطى. وان متوسط الدخل السنوي للفرد فيها هو بنحو 7000 دولار وان دخل الاسرة السنوي لهذه الطبقة هو ما بين 30 ـ 35 الف دولار.

الطبقة الوسطى الدنيا: فهي تمثل صغار الموظفين والشرائح العاملة في السوق المماثلة لها من الشغيلة وبعض فئات المتقاعدين والعاملين من ذوي المهارات المحدودة ويمثلون نحو 35% من الطبقة المتوسطة ويبلغ متوسط دخل الفرد السنوي بنحو 5 آلاف دولار وإجمالي الدخل السنوي الاسري حوالي 20 ـ 30 الف دولار. وهي تعيش فوق خط الفقر، اي بمعنى انها تمتلك مرونة بنسبة 75% في الحصول على المأكل والملبس والمأوى والتعليم والصحة.
تفاوت الدخل .
وإذ أتفق مع الدكتور مظهر محمد صالح في إبراز التمايز الموجود في الدخل السنوي لمختلف شرائح الطبقة الوسطى، فإن الصورة تبدو أكثر قتامة وأشد قسوة حين نقارنها مع الدخل السنوي لفئات من الشعب الكادح. ( يقول الدكتور مظهر ) إذ إن المشكلة لا تكمن في هذه الأرقام العامة بل في تفاصيلها والتي تطرق إليها الدكتور صالح بوضوح أيضا. لقد أشرت مرة إلى الملاحظة التي يثيرها الاقتصاديون حول المؤشرات الإحصائية التي تشبه المايوه البكيني، فهي تكشف عن جسم المرأة، ولكنها تخفي الأماكن الحساسة والأكثر أهمية من الجسم. فمعدل حصة الفرد الواحد من حجم الإنتاج الإجمالي، أو لنأخذ الدخل القومي، يخفي الحقائق التالية:

 التشوه والتخلف والمكشوفية على الخارج في بنية الإنتاج الإجمالي أو الدخل القومي التي تعتمد على النفط الخام في تشكيل النسبة الأكبر منهما وأكثرمن 95 % من الميزانية الاعتيادية السنوية، وأكثر من ذلك من صادرات العراق.
 التوزيع غير العادل للدخل القومي بين أبناء المجتمع. فهذا التوزيع لا يقوم بأي حال على العدالة الاجتماعية، وهو أشبه بالمثل الذي أوردته عن راتبي المدير العام والفراش. فالفجوة بين الفئات الفقيرة والفئات الغنية تزداد سعة وعمقاً في غير صالح الفقراء والمعوزين في المجتمع. ومعدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي السنوي يغطي ويتستر على هذا التمايز الطبقي المتفاقم. ويزيد في الطين بلة ذلك الفساد المالي السائد بالبلاد.

 كما يبرز التمايز لا في توزيع الدخل القومي فحسب، بل وفي إعادة توزيعه في المجتمع من خلال الخدمات العامة والاجتماعية التي يفترض أن تقدمها الدولة للجميع وبالتساوي (أي استخدام وتوزيع حصة الاستهلاك الاجتماعي) .

و هناك الكثير من الكتاب الاقتصاديين الذين لا شك سيخوضون النقاش أيضاً، إذ لدى العراق من علماء الاقتصاد ما يكفي لأكثر من دولة للمشاركة في تقدمها وتطورها، ولكنهم جميعاً تقريباً مبعدون، ومن يعمل منهم لا يجد ما يسعده على تقديم ما لديه من علوم ومعارف وخبرات تفيد الوطن والشعب وتقدم الاقتصاد الوطني. وهكذا هو حال علماء الاجتماع وعلماء علم النفس الاجتماعي والطب النفسي وبقية الاختصاصات العلمية التي تخضع اليوم كلها لوزارة التعليم العالي التي تقاد من شيوخ دين لا يمتون إلى العلم بصلة ونزعوا عن الوزارة العلم وأبعدوا العلماء.

ان "مشكلة تفاوت الدخول بين مواطني البلد الواحد أصبحت ظاهرة عالمية تعاني منها الدول الغنية و الفقيرة".
ان "التفاوت الكبير في الدخول يخلق مشاكل اجتماعية واقتصادية كثيرة سواء على نطاق الفرد أو المجتمع. التفاوت في الدخول يؤدي إلى زيادة السرقات, الجريمة, الحسد والكراهية بين أبناء البلد الواحد".
ونشير الى ان " اقتصاديا, هناك علاقة طردية بين دخل الأغنياء ونمو البلد الاقتصادي. أي كلما أنتعش الاقتصاد الوطني, زاد دخل الأغنياء أكثر وأكثر".
ونزيد بالقول ثم هناك فارق أخر, الأغنياء هم من يقرر من هو الفائز في الانتخابات المحلية والعامة. لان الأغنياء هم المتبرعون على الحملات الانتخابية والفقراء هم الذين يغسلون صحون بعد انتهاء وليمة العشاء".
نؤكد انه "أصبح هناك تفاوت في الدخول ولكن ليس بالخطير. أي التفاوت ليس بالملايين الدولارات (نعم هناك حوالي 35 مليونير في العراق ) وإنما بالآلاف, لان حوالي ربع الطبقة العاملة هم من طبقة الموظفين والربع الأخر هم من يعمل في قطاع تجارة المفرد والنصف الأخر من يعمل في القطاع الزراعي والصناعي والخدمات".

تباين الدخل في العراق الجديد قد يأتي عن طريقين:

1 . تفاوت الفرص التعليمة: هناك الآلاف من الدراسات العالمية تذهب إلى القول من وجود علاقة قوية ومباشرة بين الدخل السنوي وعدد سنوات الدراسة أي كلما زادة سنوات الدراسة, زاد الدخل.
2 . العقود والمشاريع الحكومية: أنها مشكلة المشاكل والشحم الذي تعتاش عليه القطط السمان. العقود و المناقصات الحكومية بذور الفساد الإداري والمالي وأيضا بذور التفاوت الطبقي.
الانعكاسات السلبية للفقر والتفاوت الطبقي على المجتمع العراقي :
ان "ظاهرة الفقر والتفاوت الطبقي في المجتمع العراقي تلعب دورا خطرا لانعكاساتها السلبية على الحياة العامة وعلى افراد المجتمع الذي بدا عليه التمايز الطبقي واضحا بتميز فئة بمختلف الخدمات التنموية والمعاشية والصحية على حساب الفئات الفقيرة والمحرومة حتى وان حصلت هذه الطبقات على بعض الخدمات لم تحصل عليها بالشكل الطبيعي المطلوب وتبقى منقوصة لا تحقق احتياجاتها".
ونضيف "لقد توسعت هوة التفاوت الطبقي والكل يدرك مخاطرها وعواقبها الوخيمة على المجتمع لان الفقر والتفاوت الطبقي الاكثر خطورة من بين كل المخاطر التي تحيط بالمجتمع، وما نواجهه في مجتمعنا من فقر وتفاوت طبقي جاء نتيجة حتمية لما نعيشه من فوضى سياسية وفساد اداري ومالي وتجاوزات على المال العام تمر بدون رادع حقيقي بعد ان زادت الفقراء فقرا وجعلت العراق يتصدر قوائم الفساد في العالم".


اسباب اتساع الطبقة الوسطى بالعراق فترة السبعينات
1- ان بدايات تشكل الطبقة الوسطى كان مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة في مطلع القرن الماضي ثم نموها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أسهمت الدولة في نموها عن طريق تطور رأس المال البشري ونظام الملكية والتعليم والمؤسسات الإدارية،
2- لعبت الطبقة الوسطى النامية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية دورا رياديا هاما في الحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية واستطاعت توحيد صفوفها في جبهة وطنية عريضة قادت الى ثورة 14 تموز عام 1958.
3- وبعد تزايد واردات النفط الهائلة وتوسع التعليم والمهن الحرة وتزايد أعداد المستخدمين في الوظائف الحكومية الذي ساعد على تطور التجارة والحرف والصناعات والورش الصغيرة في المدن العراقية وخاصة بغداد اصبحت الطبقة الوسطى اللاعب الرئيس في المجتمع العراقي في منتصف القرن الماضي، وذلك بفعل دخول التحديث وعناصر الحضارة والمدنية الغربية وازدهار السوق الاقتصادية والنزعة الاستهلاكية المتولدة عنها والتزايد المطرد لواردات النفط منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي.
4- تاميم النفط في عام 1972اعطى دفعا كبيرا لتزايد الايرادات واعتماد الدولة على الكادر الوطني في عملية ادارة النفط بدا من الاستكشاف والحفر والانتاج والتسويق والادامة والصيانة وهذا خلق كادرا متخصصا في مجال الطاقة وفي نمو الطبقة الوسطى وانسجامها كمحرك اساسي لتطور المجتمع بكل الاتجاهات باستثناء التطور السياسي لقوى المجتمع ( العملية الديمقراطية لم تكن بالمستوى الموازي للتطور الاقتصادي لدخل الفرد المتنامي بعد اعلان الجبهة الوطنية عام 1973 حتى عام 1977 وانفراطها مما سبب نكسة كبرى لتطور العراق وللطبقة الوسطى بشكل خاص ) .

في النهاية نقول مثلما كانت الطبقة الوسطى وليدة الدولة العراقية الحديثة فان انحلال هذه الطبقة كان إيذانا بانحلال الدولة العراقية وتشظى المجتمع الى أثنيات وطوائف وحتى عشائر خلافا لما أسهمت به الطبقة الوسطى وخصوصا نخبتها من تاريخي في دمج الهويات الأثنية والطائفية في إطار هوية عراقية حاضنة لمشروع وطني , دور كاد إن يصل بالعراق الى مستوى من الرفاه والتطور يضاهي مستويات دول جنوب أوربا بحسب تقييم الخبراء الدوليين نهاية السبعينات من القرن الماضي لو تطورت العملية السياسية في استكمال المؤسسات الديمقراطية بشكل طبيعي .
من المعلوم أنه في حال تآكل الطبقة الوسطى ستصبح الأحوال المدنية خطرة والجريمة كبيرة، فمن دون هذه الطبقة لا يمكن للمجتمعات النهوض وفق هيكل اجتماعي حضاري تقدمي.
هناك أهمية بالغة للطبقات الوسطى، ففي العراق كثرة الحروب وعسكرة الحياة و وجود الارهاب على اراضيه أرهقت الحال الاقتصادي للبلد وما يرافقه من فساد وهدر مالي ، واستمرار تآكل هذه الطبقة سيجعل شعب أي بلد يغامر ويقامر بحياته من أجل العيش ولو ارتكب أنواع الجرائم في سبيل الكسب وتجاوز الفقر والعوز وهذا ما يحصل بالعراق بوجود عملية سياسية فاشلة .
ولكن بالرغم من تطور الطبقة الوسطى ونموها في منتصف القرن الماضي فقد اخذت بالضعف والتفكك والضمور منذ بداية الثمانينيات وخاصة بعد هيمنة حزب البعث على السلطة وعسكرة الدولة والمجتمع ودخول العراق الحرب العبيثة مع إيران وإعلان الحصار الاقتصادي الجائر على العراق الذي كسر ظهر العراق واهان كرامته، أخذت الطبقة الوسطى بالضمور بحيث لم تعد تضطلع بدورها القيادي المعهود باعتبارها محور التطور الاجتماعي والطبقة النشطة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا والمحرك الاساس لكل تغير وتغيير.
ان التغيرات البنيوية التي طرأت على الاقتصاد العراقي نتيجة حرب الثماني سنوات مع إيران وحرب الخليج الثانية واحتلال الكويت وما افرزتها من عقوبات فرضتها الأسرة الدولية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي التي تمثلت في برنامج الامم المتحدة : النفط مقابل الغذاء وازدياد اعتماد العراق على عائدات النفط التي أصبحت المصدر الأوحد للعائدات الحكومية، باستثناء المساعدات الخارجية. وقد نتج عن ذلك نزوح ريفي الى المدن وتحول المجتمع المديني الى مجتمع يستهلك المنتجات المستوردة على حساب المنتوجات المحلية.
كما سبب الحصار الاقتصادي الجائر على العراق تضخما نقديا كبيرا قوض القوة الشرائية للمواطن نتيجة انهيار قيمة الدينار العراقي حيث أصبح الدينار، الذي كان يعادل أكثر من ثلاثة دولارات في سبعينيات القرن الماضي، يعادل أكثر من ألفي دينار، ولأن معظم افراد الطبقة الوسطى كانوا يعتمدون في معيشتهم على الرواتب الحكومية فلم تعد الرواتب تستطيع اللحاق بالتضخم الكبير، حيث أصبح راتب المعلم الشهري لا يتجاوز ثلاثة دولارات. ونتيجة للحصار الاقتصادي الجائر الذي فرض على العراق ، شاع الفقر والمجاعة والبؤس وارتفعت نسب البطالة والامراض والتخلف واليأس من المستقبل.
وخلال سنوات الحصار العجاف كان ابناء الطبقة الوسطى قد باعوا معظم مقتنياتهم كالحلي والمجوهرات والتحف للتعويض عن تدهور مدخولاتهم الشهرية. كما ان الوضع الاقتصادي المزري أجبر عددا متزايدا من العوائل على إخراج اولادهم من المدارس. فبحلول عام 2000 كان ربع طلاب المدارس تقريبا قد تركوا الدراسة لأسباب مالية بالدرجة الاولى، حيث كان على الاولاد الصغار البحث عن عمل لمساعدة عوائلهم الفقيرة. وقد زاد ذلك في ارتفاع نسبة الأميّة التي وصلت الى نصف البالغين في العراق. وبسبب البؤس والفاقة والجوع اضطر النظام الى استخدام البطاقة التموينية كحل جزئي للأزمة.
ومن الممكن تقدير الكارثة الاقتصادية التي حلت بالعراق بسبب الحروب والحصار بمعيار الناتج المحلي الاجمالي، وهو المؤشر الرئيس لقياس النمو الاقتصادي، حيث تشير الاحصاءات الرسمية المنشورة بان معدل حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي قد انخفض من 3688 دولارا عام 1980 الى 225 دولارا عام 2002، وهو معدل أقل من الحد الادنى لمقياس خطر الفقر. (صبري زاير السعدي، الاقتصاد السياسي الجديد في العراق، بغداد 2008) وبحلول عام 2003 لم يعد القطاع الزراعي قادرا على توفير الغذاء المطلوب مما اضطر الناس الى التقشف في المعيشة والاعتماد على استيراد المواد الغذائية.
كانت حصة الفرد العراقي من الناتج الوطني الاجمالي عام 1960 459,3 دينار ثم أخذت بالنمو التدريجي حتى وصلت قمتها عام 1980، حيث بلغت 1176,5 دينار عراقي.
غير ان حصة الفرد من الناتج الوطني الاجمالي كانت قد انخفضت بعد حرب الخليج الأولى والحصار الاقتصادي الى 765,9 دينار عام 1990 ثم اصبحت عام 1995 148,1 دينار فقط . ان هذا التراجع والانكماش في دخل الفرد يعني تراجعا مريعا في النشاط الاقتصادي، الذي كان يقابله نمو مستمر في السكان من جهة، ونمو مستمر في اعداد الناشطين اقتصاديا من جهة اخرى، وهو ما أدى الى انتشار البطالة والتضخم المريع والغلاء الفاحش وتوسع الطبقة الفقيرة على حساب الطبقة المتوسطة وهبوط القوة الشرائية لمعظم سكان العراق. ونتيجة لذلك تلاشت مدخرات شرائح الطبقة الوسطى، وأصبحت هناك طبقتان واحدة فقيرة واسعة تشكل معظم افراد الشعب العراقي واخرى صغيرة ولكنها فاحشة الثراء تكونت من المتسلطين الكبار والصغار على الحكم ومن حولهم من كبار تجار الحروب والمقاولين والتجار والصناعيين وغيرهم.
وهناك أمثلة عديدة على انخفاض معدل دخل الفرد العراقي و تدني الدخل الشهري للأستاذ الجامعي خلال التسعينيات بين 4 - 10 دولارات اميركية وتحول كثير من افراد الطبقة الوسطى الى بياعين خردة على ارصفة شوارع بغداد ومدن المحافظات الاخرى لتحقيق أدنى مردود اقتصادي يوفر لقمة العيش والبقاء على الحياة. وهو ما دفع، مع عوامل سياسية اخرى، الى الهجرة الى خارج العراق، ومعظم هؤلاء ينتمون الى الطبقة الوسطى. كما عانت البلاد من هجرة العقول والمتخصصين والتكنوقراط بصورة واسعة النطاق، الأمر الذي ستترتب عليه اثار سلبية على مستقبل العراق. فقد غادر البلاد حوالي نصف مليون عراقي بين تاجر وطبيب ومهندس واستاذ الى الدول العربية والاوربية وغيرها.
ان التجربة المريرة التي مر بها العراق بعد ضمور الطبقة الوسطى والردة الحضارية التي اعقبتها والتي أعادت العراق الى ما قبل تشكيل الدولة العراقية الحديثة، انما تشير في الحقيقة الى ضعف الطبقة الوسطى وعدم استقرارها والى الطبيعة المهزوزة والمتقلبة للاقتصاد الريعي، الذي لا يسمح باطراد نمو هذه الطبقات، بل يؤدي الى انهيار مراتب واسعة وانحدار فئات معتمدة على الرواتب انحدارا شديدا، التي تحمل تطلعات الطبقة الوسطى الحديثة (بفضل التربية والتعليم)، وتعجز عن تلبية تطلعاتها في سوق العمل المتقلب. كما ان بُنى فئات الطبقة الوسطى وشرائحها هي أكثر تعقيدا من ذلك، سواء من حيث المداخيل ونوعية التعليم والمنحدر الاثني او من حيث المحددات الثقافية للمكانة الاجتماعية والدينية او النسب النبيل وايديولوجيا القرابة والعشيرة (فالح عبد الجبار، نظرة في مصادر منهج حنا بطاطو، بغداد2001) التي تعود الى ما قبل تأسيس الدولة الحديثة، والتي ماتزال تلعب دورا هاما في ضعف الطبقات الاجتماعية في العراق.

إذا كان العراق في فترة حكم صدام حسين قد ابتلى بالاستبداد القومي الشوفيني في قوام مجلس قيادة الثورة وبنية الحكومة، ولم يكن فاعلاً على مستوى الشعب، فأن العراق في المرحلة ما بعد السقوط وفي ظل حكم نوري المالكي يعاني من الاستبداد الديني الطائفي السياسي , إن الأحزاب الإسلامية السياسية، شيعة أم سنية، تمارس سياسات خاطئة وتلحق أفدح الأضرار بالدولة والمجتمع والعلاقات اليومية بين الناس، كما تلحق أفدح الأضرار بالتعليم والعلم لصالح المزيد من الخرافات والخرافيين والشعوذات والمشعوذين وأعمال السحر .. إننا نبتعد يوماً بعد أخر عن العلم ونقع في كماشة إخطبوط من السياسات والمواقف التي تعزى إلى الدين لتكافح العلم والعلماء والتي بدأت مع
" أبو حامد محمد الغزالي 450-505 هجرية/ 1058-1111 ميلادية بمحاربة العلم والفلسفة وكل ما كان يمت بصلة إلى التقدم، واعتبار العلم والفلسفة ضد الدين، وبالتالي دفع بالحضارة العربية، التي كانت قد انتعشت بشكل خاص في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، إلى التراجع والتدهور والوقوع في مستنقع الخرافات والشعوذة والسقوط المتسارع في الحضيض الفكري الثقافي والحضاري وتراجع العلم والفلسفة والطب وغيرها .
إن العيوب التي عرفناها حتى الآن في نشاط قطاع الدولة الاقتصادي ليست ناجمة من طبيعة هذا القطاع، بل كانت العيوب وما تزال في الدولة الريعية والاستبدادية وغياب الديمقراطية عن الحياة العامة والحياة الاقتصادية، وكذلك في نهجها في تبديد الموارد المالية المتأتية من اقتصاد النفط الاستخراجي المصدر، وفي عدم وعيها واعتمادها للمعايير والجدوى الاقتصادية في إقامة هذه المشاريع الصناعية والزراعية أو تلك وفي مدى تأثيرها على المجتمع وتحديثه حضارياً ومدى ملائمتها للبيئة لمواجهة التلوث الذي يعاني منه العراق كثيراً، إضافة إلى سوء اختيار النظم الإدارية المناسبة والابتعاد عن الإدارة والتنظيم العلميين من جهة، وسوء اختيار العاملين القائم على العلاقات المريبة في هذا القطاع الاقتصادي المهم من جهة أخرى، وبسبب سيادة الفساد المالي والإداري بما في ذلك المحسوبية والمنسوبية في التوظيف في قطاع الدولة، إضافة إلى سياسة عسكرة المجتمع والاقتصاد الوطني من جهة ثالثة.
لقد كانت نتيجة السياسة المستبدة للنظام الشمولي السابق والحروب والحصار الاقتصادي على العراق وكذلك الغزو والاحتلال وما انتجه من فوضى "هدامة" اعقبت سقوط النظام السابق، هي ان العراق أصبح ناقص السيادة والصلاحيات ويتخبط في مستنقع المحاصصة الطائفية وما سببته من تخلف وبؤس وفساد وانقسام اجتماعي. وقد زاد في حدة هذه التناقضات تعمق الخلافات بين الهويات الفرعية وانحلال القيم والمعايير والسلوك وتغير ثوابت الشخصية العراقية الأصيلة التي كان يتمتع بها العراقيون خلال عقود طويلة، مثلما اختفت معالم النهضة الاجتماعية والثقافية والعلمية والفنية التي تطوّرت بعد الحرب العالمية الثانية على أيدي أبناء الطبقة الوسطى التي أرست معالم مجتمع عراقي كان في طريقه الى التقدم والازدهار.
ان الطبقة الوسطى العراقية التي تطوّرت منذ الحرب العالمية الثانية وأخذت بالضمور بعد حرب الخليج ، كان من المفروض لو قدر لها ان تبقى نشيطة ، ان تقوم بدور ريادي في قيادة سفينة العراق نحو الحرية والاستقلال الناجز والتقدم الاجتماعي، إلا ان ضعفها وتفككها وضمورها ساعد على تحقيق اهداف قوات الاحتلال في اسقاط النظام السابق وتدمير بقايا مؤسسات الدولة وانتاج حالات من " الفوضى" كستراتيجية تستخدمها الولايات المتحدة الاميركية لإعادة رسم خارطة الشرق الاوسط والانطلاق من العراق، بوابة الشرق الاوسط، لتنفيذ مخططاتها، التي كان من نتائجها ضعف الدولة والانفلات الأمني وتأجيج العنف والارهاب والمحاصصة الطائفية التي أدت الى القتل على الهوية والجريمة المنظمة والفساد والرشوة، وهو ما سبب تدميرا ذاتيا وتشويها للشخصية العراقية " وردة حضارية " ارجعت العراق الى مرحلة ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة . وبالرغم من ان الدولة الريعية ما زالت تتولى معظم الانفاق العام على البنى التحتية والاساسية، لأنها تعتمد كلياً على ريع النفط، غير ان القطاع الخاص بدأ يظهر ببطء مما يوفر دخولا جديدة محتملة من خلال دعمه لرجال الاعمال العراقيين في مشروعات صغيرة ومتوسطة وفي شتى المجالات، بما فيها قطاع السلع الاستهلاكية الصغيرة، اضافة الى استثمارات مختلفة للشركات المتعددة الجنسيات. كما ان زيادة رواتب موظفي الدولة وتزايد اعداد رجال الاعمال والتجار والمقاولين وعودة عدد قليل من المهاجرين، الذين يتطلعون الى أمن وسلام وحياة مستقرة.
غير ان الانخفاض الكبير في اسعار النفط في الاسواق العالمية سبب أزمات مالية واقتصادية وسياسية وخيمة وخاصة في الدول الريعية التي تعتمد كليا في اقتصادها على النفط كالعراق، وعمل ويعمل ثانية على انكماش الطبقة الوسطى الضعيفة التي تشكل اليوم قرابة 60% من المجتمع العراقي وهي اليوم نموذج هش لدولة المحاصصة السياسية والانقسام الاثني والطائفي المتعايش على ريوع النفط، ومجتمع استهلاكي تابع لسوق العولمة خارجيا ومغترب داخليا ودولة ريعية ما زالت تستحوذ على نصف قوة العمل في العراق، التي تقدر بما يقارب أربعة ملايين موظف، يعملون على إعادة تركيب الطبقة الوسطى واستعادة انقسامها من خلال التوظيف الريعي. كل ذلك لابد وان يؤثر على استقرار الطبقة الوسطى حيث اصبحت منقسمة اثنيا ودينيا وطائفيا وذلك لأن الدولة الريعية والسوق التابعة لها "لا تستطيع ان تولّد نسيجا اجتماعيا متكاملا بسبب كونها سوقا مستهلكة لا تولّد قوة فاعلة وانموذجاً ديناميكياً موجباً لإعادة بناء الطبقة الوسطى من جديد".
يواجه العراق في هذه المرحلة نموذجين من الاقتصاديين في المرحلة الراهنة. بعضهم يدعو إلى القطاع الخاص والأخذ بما يمليه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ويتجلى ذلك في تصريحات بعض الاقتصاديين والمستشارين وفي كتاباتهم والبعض العامل في أجهزالدولة، في حين يؤكد البعض الآخر على ضرورة وجود قطاع دولة اقتصادي مع الاهتمام بالقطاع الخاص.
ويتجلى ذلك في كتابات الدكتور مظهر محمد صالح والدكتور ماجد الصوري أو في كتابات الدكتور كامل العضاض والدكتور صالح حسن ياسر والدكتور عباس كاظم الفياض ، كما نجده في الرؤية الموضوعية لبعض العاملين في اتحاد أصحاب الأعمال بالعراق الذين يدركون أهمية القطاعين في المرحلة الراهنة للنهوض بعملية التنمية وتوفير فرص التشغيل للعاطلين عن العمل، ومنهم الأستاذ باسم جميل أنطوان أو السيد حسام الساموك.

إننا وفي المرحلة الراهنة ولسنوات طويلة بحاجة ماسة إلى دور الدولة في العملية الاقتصادية مع الاستفادة القصوى والابتعاد عن الأخطاء التي ارتكبت من جانب الدولة الريعية في نشاط قطاع الدولة الاقتصادي والإدارة الاقتصادية والمفاهيم الخاطئة في هذا المجال والذي أدى إلى الاعتقاد بعدم الحاجة إلى قطاع الدولة الاقتصادي. ولكني مدرك تماماً بأن النظام السياسي الطائفي الراهن عاجز عن وعي وغير راغب أصلاً بوضع إستراتيجية تنموية وتنمية القطاعين العام والخاص والقطاعين الإنتاجيين الصناعة والزراعة، بسبب سيره على نهج السلف الطالح في تعميق الطابع الريعي للدولة العراقية والطابع الاستبدادي للحكم والنخبة الحاكمة والحاكم بأمره.

ان نهوض الطبقة الوسطى من جديد مشروط في الحقيقة باستعادة الدولة لهيبتها وعودة الأمن والاستقرار الى البلاد وعودة التوازن الى أسواق النفط العالمية وضرورة تحول الدولة من دولة ريعية الى أخرى أكثر قدرة وكفاءة على تنوع انتاجها وعدم اعتمادها على النفط كمصدر وحيد في الانتاج. واخيرا أقول، مهما حدث للطبقة الوسطى من أزمات وضعف وضمور، فان المخزون الفكري والاجتماعي والاقتصادي لها يبقى غنيا وثريا لوعيها الطبقي العام الذي يرتبط بالمستوى التعليمي والعلمي والثقافي، وامتلاكها القدرة على بناء مشروع وطني متكامل ينتشل البلاد مما حل فيها من دمار ويعيد انتاج البنى التحتية التي تهدمت والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشوهت خلال العقود الأخيرة ودعم مسيرة التحديث والتقدم الاجتماعي.

أ. صباح علو
الباحث في الشأن العراقي
المختص بالسلامة النفطية
8 - 8 – 2017

المصادر والمراجع :-
- الدكتور مظهر محمد صالح
(متلازمة السياسة الاقتصادية في الأنموذج الريعي - الليبرالي في العراق/بغداد 2013.")
- الدكتور مظهر محمد صالح ( الطبقة الوسطى وفق الدخل السنوي لتحديد شرائح الطبقة )
- الدكتور حيدر قاسم الحجامي ( تراجع الطبقة الوسطى 2009 )
- انور ابو العلا - معهد الدراسات العربية – شباط 2014 ( اقتصاديات الطبقة الوسطى )
- فالح عبد الجبار ( نظرة في مصادر منهج حنا بطاطو – بغداد 2001 )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال


.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري




.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا


.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.




.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي