الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرناندو بيسوّا. . الكاتب المختبئ وراء أنداده السبعين

عدنان حسين أحمد

2017 / 9 / 6
الادب والفن


صدرت عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء "يوميات" الشاعر والكاتب البرتغالي فرناندو بيسوّا بترجمة المهدي أخريف الذي سبق له أن أتحفنا بترجمة "كتاب اللاطمأنينة" الذي نُشر بعد 47 عامًا من وفاة بيسوّا. ظهرت اليوميات، كما يشير المترجم في مقدمته المُقتضبة، أول مرة باللغة البرتغالية عام 2007 وهي تغطي سنوات مهمة من حياة بيسوّا الدراسية وانشغالاته الأدبية والفكرية خاصة في المرحلة الأولى المحصورة بين عامي 1906- 1908، أما المرحلة الثانية الممتدة بين الأعوام 1913- 1915، فهي مرحلة النضج العميق، والقدرة على تحليل الأحداث الشخصية والعامة، والانخراط في الحياة الثقافية، والسياسية، والفلسفية، واضطلاعه بدورٍ رائد في الحداثة الأدبية البرتغالية.
ثمة قصور واضح في عنونة الكتاب، فهو ليس مجرد "يوميات"، وإنما هناك "مُذكّرات شخصية" و "مُخططات سكنيّة وببليوغرافية"، إضافة إلى مسْرد بتأثراته الأدبية التي تبدأ منذ عام 1904 وتنتهي بعام 1913 حينما يستغني عن الجميع بمن فيهم شكسبير وملتون وروسو والنُخبة الأدبية التي كان يمحضها حُبًا من نوع خاص.
يحتاج أي مقال عن بيسوّا إلى توضيح التباس القصد فهو لا يكتب بأسماء مُستعارة Pseudonyms وإنما يختبئ وراء شخصيات خيالية مُخترعة أطلق عليها اسم Heteronyms وهي تختلف تمامًا عن سابقتها لأن هذه الأخيرة لديها هيآتها المفترضة، وسِيرها الذاتية، وأساليبها الخاصة. ويمكن أن نُطلق عليها عربيًا وصف "الأنداد" أو "الأقران السّرييّن" للكاتب، وقد بلغ عددهم في خاتمة المطاف 72 قرينًا كما يشير خبيره ومترجم أعماله ريتشارد زينيث، غير أن هناك ثلاث شخصيات نديّة شعرية بارزة وهي ألبرتو كاييرو، ريكاردو ريس وألفارو دي كامبوس. وهناك شخصيتان نديّتان تكتبان النثر وهما برناردو سواريس مؤلف "كتاب اللاطمأنينة" وباراو دي تيفي الذي دبّج كتاب "التربية الرواقية".
لم ينشر بيسوّا خلال حياته القصيرة سوى أربع مجموعات شعرية بالإنكَليزية وكتاب واحد باللغة البرتغالية وهو "رسالة"، أما بقية الكتب الشعرية، والنثرية، والنقدية، والفلسفية فقد وزّعها على أنداده السبعين الذين قالوا كل شيء تقريبًا من دون خوف أو مراوغة.
قبل أن نلج في تفاصيل هذا الكتاب لابد من الإشارة إلى أن فرناندو بيسوّا هو شاعر،وناثر، وناقد أدبي، ومترجم، وفيلسوف، ومحلل سياسي لكنه يفضل القول بأنه مترجم ولا يجد حرجًا في إضافة كلمة "تجاري" لأنه كان ينهمك يوميًا في ترجمة الرسائل إلى شركات عديدة خلال العقدين الأخيرين من حياته كي يؤمِّن هاجسي المعيشة والسكن، فقد عاش في خمسة عشر منزلاً متنقلاً من غرفة مُستأجرة إلى أخرى بسبب ضيق ذات اليد. ومع ذلك فقد كانت نزعته الإبداعية الثرّة هي المحفِّز القوي لمواصلة الحياة والاستمتاع بها طالما أنه يعيش حياة حُلمية مفترضة لا تمس الواقع الصادم إلاّ مسًّا خفيفًا.
لم تكن حياة بيسوّا سهلة، منسابة فقد تخللها الكثير من الصعوبات والأحداث المفجعة. فبعد ولادته بخمس سنوات توفي والده متأثرًا بمرض التدرّن الرئوي، وبعدها بسنة واحدة مات أخوه الأصغر خورخي وهو لم يجتز عامه الأول. ثم جاء الزواج الثاني لوالدته من ضابط عسكري عُين قنصلاً للبرتغال في دوربان، عاصمة المستعمرة البريطانية السابقة ناتال، الأمر الذي اضطره للالتحاق بوالدته في جنوب أفريقيا ومواصلة تعليمه حيث تألق في دراسته الجامعية ونال جائزة الملكة فكتوريا التذكارية عن أفضل ورقة بحث تُقدّم باللغة الإنكليزية. وعلى الرغم من تفوقه الدراسي وإحرازه نتائج متقدمة إلاّ أنه لم يوفق في مواصلة دراسته في الحقل الدبلوماسي بعد أن عاد إلى لشبونة عام 1905، كما أن اشتراكه بمظاهرة طلابية ضد رئيس الوزراء البرتغالي جواو فرانكو وضعت حدًا لهذا الحلم الدراسي وأجهضته تمامًا.
يمكن القول بأن بيسوّا كان قارئًا نهمًا في شبابه ومن بين قراءاته المهمة "المنطق" لأرسطو طاليس، "تاريخ الفلسفة" لهيغل، و "نقد العقل الخالص" لإمانويل كانت، "رحلات شيلد هارولد" لبايرون، "عشية القديسة أغنيس" لكيتس، "الطائش" لموليير، "الوثيقة المختلسة" لأدغار ألن بو وسواها من الكتب الأدبية والفلسفية والثيوصوفية لاحقًا.
تكشف اليوميات عن التناقضات الحادة التي تنطوي عليها شخصية بيسوّا المعقدة، فهو ميّال للعزلة، ويجد ضالته في القراءة والتأمل. وكان يتساءل بحرقة: "لماذا نصفي معارض لنصفي الآخر؟ ونصرُ أحدهما هو هزيمة للآخر"(ص24). فبالرغم من عُدّته الفلسفية وقدرته على التحليل إلاّ أنه كان عاجزًا عن فهم شخصيته الوعرة، المتشابكة الأطراف، وربما يكون الشاعر أوكتافيو باث هو أفضل من شخّص بيسوّا حينما قال:"إنه الكائن المجهول من لدن ذاته"! ولعل إشكالية هذه الشخصية تكمن في حُلُميتها، ونأيها عن الواقع المحسوس فحتى محبوبته الحلوة التي تتجلى أمامه هي من صنع المخيلة المشتعلة التي تجترح علاقة حُب مجنحة قد لا يعرفها الأسوياء فكيف بالمجانين العباقرة الذين يلهثون وراء الأشياء المستحيلة الأقرب إلى السراب؟ لا ينكر بيسوّا جنونه حينما يقول بالفم الملآن:"أنا مجنون جنونًا عسيرًا على الفهم"(ص29) ثم يجزم بعد عدة سطور بأنه "محضَ حُلُم"(ص30).
لا شك في أن مذكرات بيسوّا الشخصية هي أشدُّ عمقًا من اليوميات، وأكثر جاذبية منها. فبعد أن توقف عن القراءة الجدية ماعدا الصحف، والقصص المسلية، والأدب الخفيف قال:"إنّ القراءة هي شكل مُستَرَق من أشكال الحُلُم"(ص55) والأغرب من ذلك أنّ بإمكانه أن يعوّض لذّة القراءة بالتواصل مع الطبيعة، ومراقبة الحياة، تمامًا مثلما يعوِّض حبيبته الواقعية بعشيقة حُلُمية، ويبدِّل أصحابه الواقعيين بأصدقاء افتراضيين ومع ذلك فلا منجاة من العزلة، ولا خلاص من الإحساس الممضّ بالوحدة الأبدية.
يقترن اسم بيسوّا بالحداثة البرتغالية التي جسّدها عبر ثلاث حركات فنية جمالية بين عامي 1913- 1915 وهي الپاوليّة Paulismo والتقاطعيّة والحسيّة وهي تندرج جميعًا ضمن الحداثة "البيسوّية" دون أن ننسى بأن بيسوّا قد تبنّى المستقبيلة كمذهب حداثي يستجيب لرؤيته الفنية والإبداعية.
أفردَ بيسوّا ثلاث صفحات من كتابه للشعراء والأدباء الذين تأثر بهم منذ 1904 وحتى عام 1913 وهي أغزر فترات حياته قراءة، فقد تأثر بجون ملتون وغالبية شعراء الحقبة الرومانسية وهم بايرون، شيلي، كيتس، ووردزوورث، تنيسون، وأدغار ألن بو، وخاصة بقصصه، وكارليل في النثر. ثم يليهم بودلير، أنتيرو، جونكايرو، سيزاريو بيردي، خوسيه دورا، وأنريكي روزا. ويمتد هذا التأثر بأنطونيو كارييا دي أوليفيرا وأنطونيو نوبري. كما تأثر بالرمزيين الفرنسيين. يختم بيسوّا تأثره بـ Saudosismo وهي حركة أدبية جمالية، دينية وفلسفية ذات طابع وطني ظهرت في البرتغال في الربع الأول من القرن العشرين وتعني "الحنين إلى الماضي" وكانت هذه الحركة قريبة جدًا من مجلة آكَيّا A Águia ذات النزعة الحداثية.
أشْعرته هذه التأثرات المتنوعة بأنه كائن متعدد المشارب ينهل معارفه من الجهات الأربع على الرغم من عزلته الفردية التي تحفِّز عالَمه الافتراضي المتخيل، وتدفعه لأن يكون متفرجًا على الحياة دون أن يتورط فيها، ويخوض تجاربها إلى أقصى مدىً ممكن.
كتبَ بيسوّا سواء باسمه أو بأسماء أنداده أجناسًا أدبية كثيرة كالقصة القصيرة، والرواية، والمسرحية، والشعر، والنقد الأدبي، والمقال السياسي، والبحث الفلسفي، والدراسة الفكرية، كما ترجم العديد من العديد من الكتب من اللغتين الإنكَليزية والفرنسية إلى اللغة الإسبانية ليغذّي نزعة الحداثة السائدة آنذاك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في