الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعلم في قوالب تشبيه

عزيز سمعان دعيم

2017 / 9 / 11
المجتمع المدني


التعليم مهنة سامية لها أسسها وأصولها وأدواتها ومهاراتها ومضامينها ومعاييرها، ويُتوخى في صاحبها أن يكون حاملًا لرسالة إنسانية مجتمعية راقية. المجتمعات الإنسانية المتقدمة تنظر لمهنة التعليم بجديّة وخطورة لا مثيل لها وتعتبرها عماد المجتمع وأساس تقدمُه وتطوره، وتنظر إليها وإلى جودتها كعامل أساس لرُقي المجتمع أو انحطاطه، لسمُوه أو انحداره، لسلامه أو اندثاره.
كلّ منا له علاقة وصلة وثيقة جدًا بمهنة التعليم، من خلال التجربة الشخصية اليومية تقريبًا، كطالب أو أهل أو كممارس أو من خلال علاقة معرفة أو قرابة مع ممارس لهذه المهنة.
في حوار مع مجموعة معلمات ومعلمين، حول صور تشبيه أو استعارات نشبّه بها المعلم/ة، حظيت بمجموعة مقترحات رائعة، وجدت أنه من المفيد المُثري الخوض في بعضها وتسليط الأضواء على ما تحويه من رموز ومضامين تظهر نواحٍ متعددة ومتنوعة من شخصية ودور ومهام المعلم/ة في جوانبها التربوية –التعليمية المتنوعة، فلكل صورة تشبيه وتحديدًا "تشبيه بليغ" إضاءاتها وإيحاءاتها الخاصة، وكل تشبيه يأخذنا لسياحة خاصة مميزة في مساحات جديدة.
المعلّم بستانيّ يعتني بمزروعاته من نباتات وخضار، ورود وأزهار، شجيرات وأشجار، يهتم بكل نوع وفقًا لظروفه واحتياجاته، من ريّ مناسب، وتوفير مكان مظلل أو مشمس حسب الحاجة، وتربة غنية ملائمة، وتقليم وعناية خاصة، وإفساح مجال لتطوّر ونمو كل نبتة دون أن تضايق امتداد الأخرى مع إمكانية اندماج مبدع بين النبات. له انتماء مميز لبستانه، جنة النباتات (الجنينة)، يسهر عليه، يهتم بدوام انسياب ورقرقة جدوله الجاري، ولا ينسى الاهتمام بجداره وسياجه، فيتنبه، بل يمنع كل دخول غريب أو أيّ شكّ بإيذاء نباتاته. يدرك عظم هذا الامتياز بإشرافه على هذه الجنّة الصغيرة الرائعة، ويفهم كبر المسؤولية التي يتحملها في رعاية البستان ككل وكل نبتة مهما كانت حالتها، فيعتبرها عالمًا قائمًا بذاته، يهمه بل يُفرّح قلبه أن يكون بستانه نابضًا بالحياة، مُشرقا بالنضارة، مزينًا بكل جميل وطيّب.
المعلم قاطرة في مقدمة قطار، مرتبطة بعربات عديدة متماسكة معًا، قد تظهر أحيانًا أنها متشابهة مع أنه في الحقيقة كل منها تحمل وتشمل ألوانًل وأنواعًا متميّزة. عندما تجرّ القاطرة العربات تسيّرها على هواها ووفقا لاتجاهها، وعندما تقودها ترشدها للطريق وتصوّب أنظارها نحو الهدف، وفي كل الأحوال، فإنَّ أي انحراف للقاطرة قد يشكّل خطورة كبيرة على العربات وتتسبب بأذيتها، وعندما تسير القاطرة بثبات ويقين على الطريق الصحيح تقود عرباتها للمقصد، لمحطة الامتياز وهدأة البال.
المعلّم عتّال، يحمل الأثقال والأحمال بكل مسؤولية وبروح طيبة دون تذمر، وقد يضطر لحملها لمسافات طويلة وساعات عديدة، ومن سخرّه ميلًا قد يسير معه ميلين، ومن طلب مساعدته لمرة ساعده مرات، جُلّ همه أن يوصل حمله لمقصده، ويطمئن لسلامته، وحتى عندما ينام بعد أن سلم الأحمال، لا يستطيع التخلص من أحلام أحماله، فيستفيق أحيانًا كالمجنون صارخًا حاسبًا أنه قد أخلّ بالمسؤولية وضيّع الأمانة. يحاول دائمًا الاهتمام بالتوازن بين أجزاء الأحمال لكي يستطيع القيام بمهمته، أحيانًا ينجح في حملها وأحيانًا أخرى يقع تحتها. فقد علموه ودربوه على التعليم، وعندما شغّلوه خدعوه، إذ طلبوا منه أن يكون أبًا وأمًا لكل طالب وطالبة، وأن يكون مربيًا، بل مستشارًا نفسيًا واجتماعيًا ومسعفًا ومطببًا عند الحاجة ومهرجًا للمتعة ومفرّجُا للهم، وغيرها وغيرها، وعندما يقع تحتها، لا مِنْ معين، بل ترتفع الأصوات معلنة مهنة التعليم هي رزمة من كل شيء، إما أن تحملها منتصبًا أو تحني ظهرك أو تكسره، أو تحملك هذه الرزمة في مهب الريح، أو تغوص بك وتغرقك في لجج عميقة.
المعلّم مايسترو، أي يُشبِه ضابط الايقاع في فرقة موسيقية، أوركسترا، فكلمة مايسترو مشتقة من الإيطالية ومعناها المعلم أو السيّد. وكل طالب في صفه هو عازف على آلة خاصة ومميزة، قد تكون من آلات الإيقاع أو النفخ أو آلة وترية أو آلة مفاتيح، وقد تكون يدويّة أو كهربائيّة، وعلى المايسترو أن يلاحظ ويهتم بكل فرد وبكل مجموعة عازفين (ثنائي، ثلاثي، رباعي...)، لتقوم الفرقة الكبيرة الكاملة بدورها كفريق عمل رائع، فإذا وجّه المعلم طلابه بالشكل الصحيح على مختلف أنواعهم وألوانهم وإمكانياتهم ومواهبهم ومهاراتهم، تخرج المعزوفة متناسقة ومنسجمة، إذ يقوم كل واحد منهم بدوره على أفضل وجه، مدركًا لأهميته، ومساهمًا في انجاز العمل النهائي، لخلق اللحن الجميل. ليت كل معلم ومعلمة يذكر ويتذكر أنّ لكل عضو في فريقه وجوقته دوره ومكانه حتى تصعد الألحان متناسقة متناغمة مكلَمة لبعضها البعض. فغالبا للأسف ننسى بعض الأدوات، بل نستخف بها أو نتنازل عنها ونعتبرها أقل قيمة وحاجة، وهكذا نتخلى عن البعض فيصيبهم ضررًا، وهم بدورهم غير الفعّال أو الفعّال سلبيًا لسبب الاستهتار بهم، يسببون ضررًا وتشويشًا على السيرورة والنتاج النهائي.
المعلّم طبّاخ، يحضّر مكونات ومركبات طبخته، يخلطها معًا بالمعايير والمقادير المناسبة، ويعالجها بالظروف الملائمة من تسخين وتبريد ووقت مناسب وغيرها، ويعمل كل جهده ليحصل على أشهى طبخة. وأحيانًا قد يتراخى أو يلتهي بأمور أخرى أو يستخف بعمله أو تكون لديه ثقة مفرطة، فتخرج الطبخة بلا نكهة مناسبة وأقل من المعايير الملائمة، أو قد تخرب أو تحترق فتصير غير مناسبة للأكل. والطباخ الماهر دائمًا يبحث عن كل جديد وعن اكتشافات وتطوير مأكولات شهية تناسب الأذواق المختلفة، فيتحدى الموجود ويبدع في وضع مركبات جديدة أو تغيير الظروف أو تغيير المقادير لإنتاج طبخة جديدة، تتحلى بأشهى طعم وأطيب رائحة ونكهة، ليقدمها على أجمل طبق في أروع تشكيل وتزيين.
المعلّم وعاء كبير، إذ برحابة صدره وطول أناته ومحبته ومعرفته وعلمه وتقبله يتسع ليحتوي كل الأواني الصغيرة، ويمكّن لكلّ واحد منها حيّزه المناسب، فكل إناء بما فيه ينضح، وهو ينضح معتزًا ومفتخرًا بالأواني التي احتواها، لتحتويه هي بدورها وتغمره بسعادة فياضة بأطيب ثمار القيم والأخلاق الحميدة والمعرفة والبناءة السديدة.
المعلّم قبطان، المعلم كالربان أي قائد سفينة أو طائرة، هو صاحب رؤيا ومسؤولية ولا يتهرب من المساءلة، يقود سفينته أو طائرته محددًا وجهتها نحو الهدف المنشود بكل مهنية ومسؤولية ودراية. مع أننا في بعض الأحيان قد نجد قباطنة، يخاطرون بسفينتهم وبمن عليها في عباب البحر، فتضيع البوصلة ويفقدون الاتجاه. وقد يشّل بعض قباطين السفن حركة وأدوار بحاريهم ليحولهم إلى خاملين لا فائدة تُرجى منهم، وغيرهم قد يحولون ركاب السفينة إلى بحارة موهوبين يقوم كلّ منهم بإدارة الجانب الذي أوكل له، وبالتمتع بامتياز البحارة المهرة وبادراك خطورة المسؤولية الملقاة على عاتقهم.
المعلّم والد، هو أب وأم للطلاب، فإن كانت العائلة هي البيت الأول للطفل وفضل التربية الأساس يعود للوالدين، فالمدرسة هي البيت الثاني، وتعود لها مسؤولية التعليم المصاحَب بالتربية السليمة والقدوة الحسنة والرعاية الصالحة. يوكل الأهل فلذات أكبادهم تحت رعاية المعلم لساعات طويلة وعديدة في اليوم، وغالبًا ما يُدركون أن هناك من يقوم بالاعتناء والاهتمام بأولادهم على أفضل وجه ليجهزوهم للحياة، ويكسبوهم أنجع الأدوات والمهارات، فيتوجهون لأشغالهم ومهامهم وهم مطمئنون. في حين أن البعض الآخر قد يشكك في مدى أهلية المعلم الذي يؤمّنه على أولاده أو يتساءل بخصوص جدارته وقدرته على رعايتهم. أولاد المجتمع هم مستقبله، وهم الجيل الذي سيحمل رسالة متابعة تقدمه والحفاظ على تراثه، واثراء ثقافته وحضارته، والحفاظ على أمنه وسلامه، وبالتالي مهمة رعاية الأجيال هي مسؤولية مشتركة للأهل وللمعلمين وتتطلب السهر والعمل المستمر بكل جدارة وأمانة أمام الله والمجتمع.
المعلّم راعٍ، يُتوقع من المعلم أن يكون راعيًا صالحًا يقدم حياته بكل كينونتها من قدوة وخبرة ودراية وحكمة في سبيل رعيّته، ليقودهم إلى المياه النقيّة والأرض الخصبة، لينعش نفوسهم وحياتهم ويسهر على حمايتهم، فيساهم بدوره في نموهم في القامة والنعمة والحكمة، وليس أجيرًا منشغلًا في أجرته وامتيازاته وراحته تاركًا مسؤوليته ووكالته.
المعلم كشبكة العنكبوت، فهو يبني خيوطًا غير مرئية بينه وبين طلابه وزملائه من أجل التشبيك والتواصل البناء، ليتمكن من التواصل والوصول لكل واحد، للقريب والبعيد، للذين في المركز ولمن هم على الأطراف والحواشي، فالمعلم الماهر لا يترك أي طالب على الحاشية ولا يترك أماكن غير مرتبطة، بل يهتم بإصلاح كل خلل وكل خيط مقطوع في شبكته الملوكية. شبكة العنكبوت هي عمل فنيُّ وهندسيّ رائع، ومن المفترض أن تكون شخصيّة وتركيبة من يقوم بمهمة التربية والتعليم شخصية فريدة متميزة، تمتهن فن ربط كل الخيوط معًا لتحقيق العمل المتكامل. ومن المعلوم أنّ خيوط العنكبوت من أقوى المواد الطبيعية من حيث القدرة على تحمّل الشد دون قطع كما أنهت تشابه الحرير في نعومتها وملمسها، ومن المطلوب من المعلم أن تكون قدرة تحمله على التوتر والتحديات والمواقف الصعبة التي تواجهه وتفاجئه وتتربص له قدرة خاصة وعالية. وقد استعمل الاغريق قديمًا خيوط العنكبوت كضماد للجروح والحروق لما فيه من خصائص طبية تمنع الالتهاب وتسرع من تخثر الدم، وهكذا المعلم يُفترض به أن يكون مضمدًا للجروح النفسية والمجتمعية ومطببًا لها، مانعًا من انتشار التهاب العنف والجهل والشرّ في الأفراد والمجتمع. وقد وضع الفلكيون القدماء شبكة العنكبوت وخيوطها فوق عدسات التلسكوب، إذ اعتبروها أدق إمكانية ومؤشر لتحديد الاتجاه والزوايا، وهكذا المعلم يساهم في تصويب أنظار طلابه إلى آفاق وأفلاك بعيدة ليحددوا أهدافهم واتجاهاتهم. شبكة العنكبوت ليست بيتًا، بل هي وسيلة إما للصيد أو التنقل، فالمعلم يرتفع عن الشكليات، ويكسب طلابه أدواتٍ تساعدهم في تحقيق مستقبل أفضل من خلال تعلم مهنة مناسبة تمكنهم من العيش الكريم وخدمة المجتمع، إضافة لإكسابهم مهارات ومؤهلات تساعدهم على التواصل الفعال البناء الناجع مع الآخرين. كما أن بعض عناكب الماء تنسج خيوطها بمهارة على شكل كرات وهي في داخلها تستخدمها للغوص في الماء بحيث تحتجز فيها كمية من الاكسجين تساعدها على البقاء تحت الماء لمدة ما، وهكذا المعلم الماهر يدرب طلابه على الابداع والاستكشاف والاختراع، إضافة الى تدريبهم على احتمال الظروف الصعبة والاستعداد الحكيم لحالات الطوارئ.
المعلم عامل، تُروى قصّة عن ثلاثة عمال كانوا يشتغلون في ورشة بناء تحت حرّ الشمس لتجهيز حجارة لناطحة سحاب. وعندما سأل مشرف العمل الجديد واحدًا منهم عن ماذا يعمل، أجابه بعصبية وغضب: "أنا أشتغل بهذا العمل الحقير تحت حرارة الشمس الساطعة براتب ضئيل لكي أوفر لعائلتي بعض الدخل ولا أضطر للتوسل". عندها تقدم المشرف للعامل الثاني وسأله ذات السؤال، وكان جوابه أنه يعمل بعرق جبينه وفقًا لتعليمات المهندس ليحضّر الحجارة المناسبة للبناية. ثمّ توجّه للعامل الثالث سائلًا: ماذا تعمل؟ وكان الجواب: "ألا ترى أني أساهم في بناء ناطحة السحاب هذه!" وهكذا لسان حال بعض العاملين في سلك التعليم "الشغل مش عيب"، والبعض الأخر "أعمل المطلوب لا أكثر ولا أقل، حُط الجحش وين ما بدو صاحبه"، ولا يخلو منهم من يقولها بصوت مرتفع "أنا معلم وأفتخر، أنا صاحب رسالة، وقائد مجتمع، ومهنتي صناعة جيل المستقبل".
هذه بعض من التشبيهات البليغة التي تدُلّ بجوانبها المتنوعة على الطيف الواسع من مركبات وظيفة وشخصية المعلم، أتركُ لك انتقاء ما يناسبك منها وما تراه أكثر وضوحًا وشمولًا، وأشجعك على محاورة التشبيهات وتفاصيلها في تعمق ومقارنتها مع الواقع والتعلّم منها، كما وأثق أن في جعبتك أكثر من تشبيه يمكنك إضافته لمجموعة التشبيهات أعلاه، لتزيدها زخمًا.
إنَّ هذه المقالة لا تهدف فقط لتصوير لوحة أدبية مزخرفة بالتشبيهات، بل ترمي إلى تطوير أرضية للحوار والدراسة والمناقشة والبحث في مهنة ورسالة المعلم ما بين الموجود والمنشود من أجل رفع مستوى التربية والتعليم لصناعة راقية متقدمة مميزة.
ختامًا أقدّم أجلّ التحيات وأسماها لكل معلمة ومعلم حمل ويحمل رسالة المحبة والتربية والعلم لأجيال الإنسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط