الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا تنعدم ”دولة الحقّ والقانون“ بالمغرب؟

عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)

2017 / 9 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


يزعم الخطاب السياسي الرسمي للدولة بالمغرب، أن «بلاد المغرب بخير»، وأن «الدولة ديمقراطية»، وأن «أمور الدولة تسير بشكل ممتاز». لكن المُراقب يُلاحظ، في الواقع المُعاش، مظاهرَ خاصّة، تـتـكرّر أو تـدوم، منذ عقود مُتوالية. وتفضح هذه المظاهر الشُّـذُوذ التّالي:
1) لا يتساوى المواطنون المغاربة أمام القانون.
2) لا يجتهد القضاء بما فيه الكفاية لكي يكون نزيهًا ومُستـقلًّا في أحكامه، عبر الاعتماد على الحجج المادية الملموسة وحدها، وليس عبر الإيمان الأعمى بِتـقارير ومحاضر الشرطة القضائية(1)، أو تخميناتها، أو اتّهاماتها، وذلك على الخصوص في القضايا التي يكون فيها أحد الأطراف المتَّهَمِين مُنْتَـقِدًا، أو معارضًا سياسيًّا، للنظام السياسي القائم. كما لا يجتهد القضاء بما فيه الكفاية لكي يكون مستقلًّا في أحكامه تُجاه الملك، وتُجاه السلطات السياسية، وتُجاه وزارة الداخلية، وتُجاه الأجهزة الأمنية، وتُجاه الفاعلين الاقتصاديين الأقوياء.
3) لا يهتمّ القضاء بالمغرب بما فيه الكفاية بتمحيص القضايا التي يكون المتّهمون فيها مسؤولين كبار أو متوسطين في أجهزة الدولة، أو أعيان محليّين، أو شخصيات قوية، أو مناصرة للنظام السياسي القائم، أو يكونون أعضاء في الأجهزة الأمنية. وفي المحاكمات التي يُتَابَع فيها معارضون سياسيون، ينحاز القضاء في غالبية الحالات إلى مناصرة أطروحات الأجهزة القمعية. ولا يخصِّـص القضاء عناية كافية، أو جدّية، أو صادقة، لِمَا يشتكي منه المعارضون السياسيون (من اختطاف، أو ضرب، أو تعذيب، أو تحايل في التّهم، أو في الإجراءات، أو انتهاك حرمة المنزل، أو خرق أصناف أخرى من حقوق الإنسان، إلى آخره). ومهما كانت الحجج المقدّمة ضدّ الأجهزة القمعية، أو ضدّ الدولة، فإن القضاء يميل إلى رفضها، أو تجاهلها. ويشهد مجمل تاريخ المحاكمات السياسية بالمغرب، منذ استقلال البلاد في سنة 1956 إلى الآن، على انحيّاز جهاز القضاء لصالح النظام السياسي القائم، ويميل إلى مُعَاداة المعارضين السياسيين. ويتضامن تِلقائيًّا مختلف المسؤولين في أجهزة الدولة فيما بينهم. ويمارسون نوعًا من ”العَصَبِيَّة“(2). ويحمون بعضهم بعضًا. ويحاولون ما أمكن أن لَا تُطَبَّق علي أيّ واحد منهم قوانين الشّـفافية، أو المراقبة، أو المحاسبة، أو المعاقبة. لأنهم يدركون أنه إذا تعرّض أحد منهم للمحاسبة وللمعاقبة، فإن الباقين منهم سيعيشون بالضّرورة مصيرا مشابهًا.
4) تُطَبَّـق المحاسبة والمعقابة، بشكل منهجي (systématique)، على المعارضين السياسيين، وعلى المناضلين الثوريّين، وعلى النقابيّين، وعلى الجَمْعَوِيِّين، وعلى الصّحافيّين المستقلّين، وعلى المواطنين البسطاء، أو الفقراء، أو المسودين. بينما الأفراد الأغنياء، والمسؤولون الكبار، والمتوسّطون، والحُكّام، والسّائدون، يَفْلِتُون في معظم الحالات من المراقبة، ومن الاِتِّهَام، ومن المُساءلة، ومن المحاسبة، ومن المعاقبة.
5) لا تقدر الدولة القائمة حاليًّا بالمغرب على الالتزام الفعلي بتطبيق القانون، بطريقة عادلة، نزيهة، مُحايدة، ومتكاملة، على كلّ المسؤولين فيها.
وبعبارة أخرى مُركّزة، يرى الملاحظ أن الدولة بالمغرب ليست ”دولة الحقّ والقانون“ (État de Droit). ولا تتمتّـع أجهزة الدولة باستقلال (indépendance) كاف، أو بِحِيَّاد (neutralité) مُرْض، تُـجاه الأشخاص الذين يمارسون المسؤوليات، أو الحُكم، أو السُّلطة، أو النُّـفوذ، أو الذين يستثمرون ثروات كبيرة نسبيًّا.
وفي حالة صحّة هذا التّشخيص السّابق، ولو نسبيًّا، يجب أن نَـتَـساءل: لماذا لا تتصرّف الدولة كَـ ”دولة حقّ وقانون“؟ مَا الذي يمنعها من أن تتطوّر إلى ”دولة حقّ وقانون“؟ ولماذا تتهرّب الدولة من التَّـقَـيُّد الإرادي بتطبيق القوانين والمَسَاطِر التي وضعتها هي بنـفسها؟ لماذا هذه الازدواجية المُزمنة في تطبيق القوانين؟ هل دوام هذا الانحيَّاز في تطبيق القوانين يَدُلُّ على أن هذا النمط من الدولة (القائمة حاليًّا في المغرب) لا يقدر على التطوّر نحو ”دولة الحقّ والقانون“؟
وما هي الأسباب التي تمنع الدولة الحالية بالمغرب من التحوّل إلى ”دولة الحقّ والقانون“؟ هل السبب يكمن فقط في كون المسؤولين الكبار في أجهزة الدولة يتصرّفون طبقًا لميولهم الانتهازي، أو الأناني، للدّفاع عن مصالحهم الشخصية، أو الفئوية، أو الطَّبَقِيَّة؟ الاحتمال الأكبر هو أن الأسباب متعدِّدة، ومتداخلة، ومركّبة. ومثلما هو الحال دائما في المجتمع، توجد عوامل متعدّدة، ومؤثِّرة، ومتـفاوتة، ومتطوّرة، ومتكاملة، ومتناقضة. والأسباب الأكثر احتمالًا، التي تُعِيق تطوّر الدولة القائمة حاليًّا بالمغرب إلى ”دولة الحقّ والقانون“، هي خصوصًا التّالية:
السّبب الأوّل هو أن الدولة القائمة حاليّا بالمغرب تخدم، أولًا وقبل كل شيء، مصالح مؤسّـسة الملك، والمقرّبين منه، ثم الطبقة السّائدة. ولا تحمل مؤسّـسات الدولة وإداراتها الولاء للشعب، أو للوطن، أو للعدل، أو للقانون، وإنما فقط للملك، ولمن هم خلف الملك. [ملاحظة: على عكس المظاهر، لا نُناقش هنا شخص الملك، وإنما نفحص النظام السياسي، من منظور عِلْم المُجتمع، ومن زاوية العلوم السياسية]. ومختلف المسؤولين في الدولة يناصرون الملك، ويحرصون على إبراز ولائهم، ويحصلون مقابل ذلك على امتيازات متنوعة، وعلى الإفلات من المراقبة، ومن المحاسبة، ومن العقاب.
والسّبب الثاني هو أن الدولة تدفع الموظّفين إلى الإحساس بأنهم مأجورين لدى الملك، وليس لدى الشعب. ولو أن من يؤدّي أجور وامتيازات موظّفي الدولة هو الشعب، وليس الملك. وقد اعترف الملك هو نفسه (مثلًا في خطاب عيد العرش في 29 يوليوز 2017) بما كانت تنتـقده قوى اليسار، حيث قال: «التسابق على المناصب [في مؤسّـسات الدولة]، هو بغرض الاستفادة من الرِّيع [الاقتصادي]، واستغلال السّلطة والنُّـفوذ ... غير أن هذا لا ينطبق، ولله الحمد، على جميع المسؤولين». ويتجلّى كذلك هذا «التسابق على المناصب» في تهافت بعض المقاولين، والفاعلين الاقتصاديين، والطموحين إلى الاغتناء السّريع(3)، إلى التَّسَرُّب إلى مؤسّـسات الدولة، مثل الحكومة، والبرلمان، والمجالس المحلّية (أنظر مثلا الحالات المفضوحة في الحكومة الحالية، مثل أصحاب المَلَايِير من الدراهم، كالوزيرين عزيز أخنّوش، وحفيط العلمي، إلى آخره).
والسّبب الثالث (الذي يعوق تحوّل الدولة القائمة بالمغرب إلى ”دولة الحق والقانون“) هو أن تَرْسَانَة القوانين الموجودة بالمغرب لا يتوفّر فيها شرط الحيّاد (neutralité) تُجاه مختلف مُكوِّنات المجتمع. لأن مجمل القوانين القائمة وُضِعَت، أوّلًا وقبل كلّ شيء، بهدف حماية النظام السياسي القائم، وضمان دوامه، بدلًا من أن تُوضع بهدف إحقاق الحقّ، بمنهج مُجرّد، ومُحايد. ولا تعمل الدولة بالمغرب طبقًا لِمَسَاطِر قانونية عادلة، ومُحايدة (neutre)، مثلما هو الحال في البلدان الغربية الديمقراطية، التي تكون فيها الدولة ”دولة الحق والقانون“ (État de Droit). ولا تتصرّف الدولة بالمغرب كأجهزة مُحايدة، طبقًا لقانون غير منحاز، وتَـبَـعًا لِقَضاء مستـقل عن مختلف الفاعلين الأقوياء الموجودين في المجتمع. بل يَـتميّز نمط الدولة القائمة بالمغرب بكونه يشتـغل كأنه ”مِلْكِيَّة خصوصية في مِلْكِيَّة مؤسّـسة الملك“. ولو لم يأمر الملك بذلك، تدفع الدّعاية العُمومية المواطنين إلى الإحساس بأن مُصطلح ”المَلِك“ يعني ”المَالِك الوحيد لكل شيء“.
والسبب الرّابع هو أن هذه الدولة ليست مسخّرة لخدمة الشعب، أو لمساعدة المجتمع، طبقًا لِـ ”عَقْد مُجْتَمَعِي“ (contrat social) عادل ومُحايد. وإنما الدولة مسخّرة، أولًا وقبل كل شيء، لخدمة الملك، ولتقويّة النظام السياسي القائم، ولتلبية مصالح أفراد وعائلات الطبقة السّائدة. ويختبئ مجمل أفراد الطبقة السّائدة وراء مؤسّـسة الملك. وتعمل الدولة أَسَاسًا بهدف إغناء الأغنياء، ولو عبر إبقاء الفقراء في مزيد من الفقر، والجهل، والتهميش. والطبقة السائدة، المُختبئة خلف الملك، هي التي تستـفيد أكثر من غيرها من مؤسّـسات الدولة، ومن سلطاتها، ومن خدماتها، ومن برامجها.
والسبب الخامس هو أن الأجهزة القمعية، أي مختلف أنواع قوى الأمن (من بوليس، ودرك، وقوات مساعدة، ومخابرات، وقوات خاصة، وجيوش، إلى آخره) لا تعمل لخدمة دولة الحقّ والقانون، أي لخدمة دولة عادلة ومُحايدة، وإنما تعمل هي أيضاً لخدمة الملك، ولخدمة من هم خلف الملك، وتحصل على امتيّازات مقابل ذلك.
ولكي ندرك بشكل ملموس أن الدولة القائمة (بالمغرب) ليست ”دولة حقّ وقانون“ (État de droit)، يجب أن نفحص مدى توفّر خصائص ”دولة الحقّ والقانون“ في دولة المغرب. فَيُطْرَحُ إذن التساؤل: ما هي خصائص ”دولة الحقّ والقانون“؟
مُمَيِّزات ”دولة الحقّ والقانون“ متعدّدة ومتداخلة. ويمكن، في قضيّتنا الحالية، أن نوجز أبرزها في العناصر التّالية:
أ) أن يكون ”العقد المجتمعي“ (contrat social)، مثل الدستور (الذي ينظم العلاقات القانونية بين الحاكمين وعامّة المواطنين)، عَادِلًا، ومُحايدًا. وأن تكون مجمل القوانين القائمة هي كذلك عادلة، ومحايدة.
ب) أن يكون القضاء مستقلّا، وعادلا، ومحايدا، ونزيها.
ت) أن يكون المواطنون متساوين أمام القانون.
ث) أن يخضع كل المواطنين، وخاصة منهم المسؤولين، وبدون أيّ استثناء، إلى المراقبة، والمساءلة، والمحاسبة، والعقاب.
لنركّز الآن على فحص ميزة واحدة فقط، من بين النقطة السابقة، مثل الميزة الأخيرة، التي تتعلّق بِـ ”ربط المسؤولية بالمحاسبة“.
فَـ ”دولة الحقّ والقانون“ تُوجب أن يُطبَّـق فيها مبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة» على جميع المواطنين المسؤولين، بدون حدوث أيّ استثناء. وإذا ما خضع هذا المبدأ، وَلَوْ لاستثناء واحد، فإنه سيفـقد صفة ”المبدأ“. والمشكل الأكبر في النظام السياسي القائم بالمغرب، هو بالضبط أن الملك هو أوّل من لا يخضع لمبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة»، رغم أنه يرأس مجمل السّلطات الموجودة في الدولة. [ولا نناقش هنا شخص رئيس الدولة، ولا صلاحياته، وإنما نحلّل النظام السياسي القائم، من زاوية علم المجتمع، ونفحص هل هو ديمقراطي، وعقلاني، وعادل، أم لا]. ونلاحظ في المجتمع (بالمغرب)، أن المسؤولين (المُنَـفِّذِين) الذين لا يتوفّرون على سلطة حقيقية، يمكن في حالات محدّدة أن يخضعوا للمحاسبة وللمعاقبة، بينما رئيس الدولة الذي يرأس مجمل السّلط، لا يخضع لها.
ولو كان رئيس الدولة أو الملك هو الفاعل الوحيد في المغرب الذي لا يخضع للمحاسبة، لما كان في ذلك مشكل هام. [ولو أن رؤساء الدول، في الجمهوريات والملكيات، في البلدان الغربية الديمقراطية، يخضعون للمساءلة، وللمحاسبة، أوّلًا في وسائل الإعلام المُتَمَيِّزَة باستقلالها؛ وثانيًّا طبقًا لمساطر قانونية ودستورية محدّدة، مثلما هو الحال في إنجلترا، وإسبانيا، وفرنسا، وهولندا، والدّانمارك، إلى آخره]. لكن في بلد عربي أو مسلم مثل المغرب، أو الجزائر، أو مصر، إلى آخره، نلاحظ استحالة حَصْر استثناء ”عدم الخضوع للمحاسبة“ في رئيس الدولة وحده. لماذا؟ لأن جدلية المجتمع تـفرض بالضّرورة بأن يتوسّع باستمرار ”استثناء“ عدم خضوع رئيس الدولة لمبدأ ”ربط المسؤولية بالمحاسبة“ إلى مسؤولين آخرين في الدولة، وذلك إلى أن يتحول هذا ”الاستثناء“ إلى ظاهرة عامّة، تشمل مجمل المسؤولين الكبار والمتوسّطين في الدولة! وهذا بالضّبط هو ما حدث في بلدان مثل المغرب، والجزائر، ومصر، والسعودية، إلى آخره. وهذا ليس مجرّد رأي شخصي ذاتي، وإنما التجربة في الواقع الملموس هي التي تشهد على ذلك. ونتيجة تلك الظاهرة هي أن الواقع المُعَاش يُؤَكِّد استحالة خضوع جلّ المسؤولين الكبار والمتوسّطين في الدولة لمبدأ ”ربط المسؤولية بالمحاسبة“ (سواءً في المغرب، أم الجزائر، أم مصر، أم السعودية، إلى آخره).
طبعًا، في بلد مَلَكِي مُـفترض، يمكن، من الناحية النظرية، للملك أن يَمْلُك دون أن يحكم (régner sans gouverner). أي أن يُمارس المَلَكِيّة دون أن يُدَبِّر شؤون الدولة. وذلك بهدف تلافي مطالبة هذا الملك بالخضوع لمحاسبة مُحرجة، مثلما هو الحال في بلدان ملكية ديمقراطية مثل إسبانيا، أو هولندا، أو بلجيكا، أو المملكة المتحدة في إنجلترا، أو اليابان، إلى آخره. ومعلوم عن البلدان الغربية الديمقراطية، أن السّلطة الأكثر قوّةً وفعالية في مراقبة ومحاسبة مسؤولي الدولة، هي الصحافة. حيث أن وسائل الإعلام (بما فيها العمومية وكذلك الخصوصية) تُـتَابع، وتُراقب، وتحلّل، وتنـتـقد، أقوال وأفعال جميع المسؤولين في أجهزة الدولة. وتفضح كل من أخطأ أو أجرم منهم، إلى حين أن يستـقيل من مهامّه). لكن هذه القضية ليست مركزية في موضوعنا الحالي. وما يهمّنا أكثر هنا هو فهم: كيف يتحوّل ”الاستثناء“ (في المُحاسبة) إلى ”قاعدة عامّة“؟ الشيء الذي يُرجعنا إلى السؤال الأساسي: كيف يشتغل المُجتمع؟
والجواب يوجد في فهم الدِّينامية المُجتمعية التالية: ما دام رئيس الدولة، في أيّ بلد كان، يرأس معظم السلطات، وهو مُستـثـنى من الخضوع لمبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة»، فإن الأشخاص المقرّبين من رئيس الدولة، يُصبحون هم أيضًا غير خاضعين لهذا المبدأ. لأن ما يقوم به الأشخاص المقربين من رئيس الدولة ينبع من، أو يرتبط بِـ، صلاحيات رئيس الدولة. وبما أن المقرَّبين من رئيس الدولة هم أنواع ودرجات، وبما أننا لا نعرف بوضوح من هم المقرّبين من رئيس الدولة، فإن الممارسة اليومية المعتادة تميل إلى أن يصبح الأشخاص المقرَّبين من المقرَّبين من رئيس الدولة غير خاضعين هم أيضًا لمبدأ ”ربط المسؤولية بالمحاسبة“. ثم ينطبق نفس الشيء على الأشخاص الذين يتبعونهم في هرم المسؤوليّات. ثم ينطبق على من يتبعوهم في هياكل الدولة. ثم ينطبق على من ترتبط مصالحهم الاقتصادية بمصالح عائلة رئيس الدولة. ثم ينطبق على من هم تحت أوامرهم. وهكذا دواليك، إلى أن يتحوّل الاستثناء إلى شبه قاعدة عامّة. لأن مختلف المسؤولين في الدولة يميلون دائمًا (في مختلف بلدان العالم) إلى تـقليد رئيس الدولة. ويتحايلون لكي لا يخضعون، هم أيضًا، لِمبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة». وفي آخر المطاف، تصبح النّـتيجة المُجتمعية الحتمية هي صعوبة، أو استحالة، إخضاع مختلف الفاعلين المجتمعيّين الأقوياء للمراقبة، أو للمحاسبة. وحتى إذا أراد رئيس الدولة (أو الملك)، في ما بعد، أو في يوم مَا (مثلما جاء في خطاب يوم 29 يوليوز 2017)، أن يُطَبَّقَ فعلًا مبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة» على بعض، أو على معظم، المسؤولين في الدولة، تظهر أجهزة الدولة عاجزة تمامًا على تنـفيذ ذلك المبدأ.
وبالفعل، وبمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لجلوسه على العرش (في 29 يوليوز 2017)، ألقى رئيس الدولة خطابًا لم يسبق له مثيل. ويظهر هذا الخطاب كأنه يتضمّن تقييمًا أوّليّا لتجربته في حُكم البلاد، والتي دامت 18 سنة. وجاء في هذا الخطاب تعبير صريح عن خيبة أمله. وظهر في هذا الخطاب اعتراف شُجاع بفشل طموحاته الأصلية. وقد أوَّل بعض الملاحظين هذا الخطاب كاعتراف جرّيء بفشل النظام السياسي الذي شُيِّد خلال السِتِّين سنة الأخيرة. حيث أَقَرَّ ضِمْنِيًّا الملك بأن هذا النظام السياسي لم يقدر على توفير الحاجيات المرجوّة منه. وبعد إلقاء هذا الخطاب، اِنتشرت فجأةً موجة من الشكّ، والقلق، في أفراد الطبة السّائدة. واتّضح بغتـةً زيف الدّعايات التي كانت تروّجها بكثافة وسائل الإعلام العمومية. وقد استعمل رئيس الدولة في خطابه المذكور مقاربة نَاقِدَة وشجاعة. وظهرت بعض أجزاء هذا الخطاب كأنها مستمدة من خطابات معارضين سياسيين. بل أكّد خطابه صحّة العديد من الانتقادات التي كانت قوى اليسار تردّدها(4). حيث قال الملك في خطابه: «نعيش اليوم، في مفارقات صارخة، من الصعب فهمها، أو القبول بها... وتصدمنا الحصيلة والواقع، بتواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يُقال أنها تقع في مغرب اليوم... برامج التنمية البشرية والترابية ... لا تشرفنا، وتبقى دون طموحنا... والإدارة العمومية، التي تعاني من ضعف الحَكَامَة، ومن قلّة المردودية... أما الموظفون العموميون، فالعديد منهم لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطّموح اللازم، ولا تحرّكهم دائما روح المسؤولية. بل منهم من يقضون سوى أوقات معدودة، داخل مقر العمل، ويفضلون الاكتفاء براتب شهري مضمون، على قلته، بدل الجد والاجتهاد والارتقاء الاجتماعي... والمناطق التي تـفتـقر لمعظم المرافق والخدمات الصحية والتعليمية والثقافية، وَلِفُرَص الشُّغْل، تطرح صعوبات أكبر، وتحتاج إلى المزيد من تضافر الجهود... وأمام هذا الوضع، فمن حق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والوُلَّاة والعُمَّال، والسُّفَرَاء والقَنَاصِلَة، إذا كانون هم في وَاد، والشعب وهمومه في واد آخر؟... وإذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثـق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟... لكل هؤلاء أقول: كَفَى، واتّـَقُوا الله في وطنكم. إمّا أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا... ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، لأن الأمر يتعلق بمصالح الوطن والمواطنين... ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم، رغم أنهم يؤدون القسم أمام الله، والوطن، والملك، ولا يقومون بواجبهم؟ ألا يجدر أن تتم محاسبة أو إقالة أي مسؤول، إذا ثبت في حقه تقصير أو إخلال في النهوض بمهامه؟ وهنا أشدد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور، التي تنصّ على ربط المسؤولية بالمحاسبة». (انتهى المقتطف من خطاب الملك).
فـقد جسّد هذا الخطاب صَفْعَة مُدَوِّية لمجمل ”المُعَلِّقِين“، و”الصحافيّين“، و”الخُبراء“، و”الأساتذة الجامعيين“، و”الباحثين“، و”المتخصّصين“، و”الدَّكَاتِرَة“، ومن شابههم، الذين كانوا، خلال السنوات الماضية، يبيعون «تقاريرهم»، و«استجواباتهم»، التي يَمْدَحُون فيها النظام السياسي القائم بالمغرب، ويصفون منجزاته وسياساته بِـكونها «رائدة»، و«عظيمة»، و«حَكِيمة»، و«عبقرية»، و«رشيدة»، و«فريدة من نوعها» في العالم! حيث كانت «تقاريرهم» دائما خالية من رصد أيّ مشكل كان، وخاوية من أيّ ”نقد“ كان، ولو جزئي. وكانت شهاداتهم المُضَلِّلة ”شهادات زُور“. وكانوا يحصلون مقابلها على منافع مادِّية، أو امتيازات مُعتبرة.
وكان بعض المواطنين يتوقّعون أن تحدث، مُباشرةً بعد إلقاء هذا الخطاب الملكي الاستثنائي، «محاسبة، أو إقالة بعض المسؤولين»، المُقَصٍّرين في مهامّهم. لكن شيئًا من هذا القبيل لم يحدث (على الأقل إلى حدود كتابة هذه الوثيقة). وربّما كان بعض موظفي الدولة الفاسدين، أو الرَّدِيئِين، أو الغَشَّاشِين، يقولون داخل قَرارة أنفسهم: «هذا الخطاب الملكي النَّاقِد هو بمثابة سحابة صيف عابرة، وستمر بسرعة مثل سابقاتها، وستعود الأمور إلى أوضاعها القديمة».
وفي بعض خطبه الرسمية، استعمل الملك في بعض الحالات انتـقادات تذكِّر بالانتـقادات التي تستعملها المعارضة السياسية اليساربة. لكن التـقاء بعض انتقادات الملك مع بعض انتقادات قوى اليسار، أو كلامه عن وجود ”نواقص“، أو ”اختلالات“، أو ”مخالفات“، لا يتبعه تَـنْـفِيذٌ صارم للقانون ضدّ الأشخاص المسؤولين عن هذه ”الاختلالات“ التي انْـتَـقَدَها الملك.
ويعتبر عادةً موظَّفُو الدولة خطابات الملك بمثابة ”ظَهَائِر“ (جمع ”ظهير“) مطروحة للتنفيذ. لكن خطاب الذكرى 18 لِعِيد العرش لم يُطبَّق. لأنه كان مُوَجَّهًا بالضّبط ضدّ بعض المسؤولين الكبار والمتوسّطين في الدولة.
ولم يـفهم بعض الملاحظين لماذا لم يأمر فورًا رئيس الدولة (الذي يرأس مجمل السلطات والمؤسّـسات)، المقرّبين منه، أو المسؤولين الكبار، بتطبيق القوانين الزَّجْرِية على كلّ المسؤولين في إدارات الدولة، الذين تكلّم عنهم في خطابه المذكور سابقًا، والذين يرتكبون مثل تلك ”المخالفات“، أو ”الخروقات“، التي تصل إلى علم الملك؟ وإذا كان رئيس الدولة، أو المقرّبون منه، يعرفون وجود تلك ”التّـقصيرات“ (مثلما يشهد خطاب الملك على ذلك)، فلماذا لا يأمرون، بكلّ بساطة، بإجراء التحقيقات القضائية اللّازمة، وبتـنـفيذ القوانين على الأشخاص المُذنبين؟ ولماذا يُطَبَّقُ القانون بشكل فوريّ وصارم على المعارضين السياسيين، وعلى المناضلين، ولا يُطبّق على الموظفين المسؤولين في الدولة؟ ولماذا نسبة هامة من مسؤولي الدولة (الكبار والمتوسّطين) يُهملون عملهم في الإدارات العمومية، ويُخَصِّصُون معظم مجهوداتهم لتدبير أنشطتهم الاقتصادية الخاصّة، بهدف جني الأرباح المالية، ومراكمة المكاسب المادية؟ وهل يمكن لمسؤولي الدولة الذين يُدَبِّرون مقاولاتهم الخاصة أن يخدموا في نفس الوقت حاجيات الشعب؟ ولماذا لا تراقب الدولة اغتناء موظفيها الكبار والمتوسطين؟ ولماذا أعضاء الأجهزة القمعية الذين يمارسون الاختطافات، أو التعذيب، أو يأمرون بضرب المتظاهرين، أو ينتهكون حقوق الإنسان، لا يتعرّضون لأية مساءلة، ولا لأيّة محاسبة، ولا لأيّ عقاب، بالرغم من تعدّد شِكَايات ضحاياهم؟ ولماذا تنتـشر وتدوم ”عقلية الإفلات من العقاب“؟ هل السبب في عدم تـنـفيذ مبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة» هو بالضبط أن النظام السياسي القائم بالمغرب لا يـقبل معاقبة خُدَّامِه الأوفياء، أو أنصاره، أو التّضحية بهم؟ هل السبب هو أن نوعية هذا النظام السياسي القائم تجعل الدولة المبنية بالمغرب عاجزةً على التحوّل إلى ”دولة الحقّ والقانون“؟
وإذا ما حدث في أيّ بلد كان من بلدان العالم، أن رئيس الدولة (أو المقرّبين منه)، بالرّغم من امتلاكهم لثروات مُعتبرة، أو لِشَركات خاصة، لا ينـفـقون من أموالهم الخاصة على القصور أو الإقامات التي يستعملونها، أو لا يؤدّون ضرائبهم كاملة، أو لا يقبلون نَـقد تدبيرهم لشؤون الدولة، فإن معظم أفراد الطبقة السائدة في هذا البلد سيحاولون تقليد رئيس الدولة (أو تقليد المقرّبين منه). وسيقومون، هم كذلك، بكل ما في وسعهم، للانتفاع من كل شيء، دون القبول بأداء أيّ شيء.
والظاهرة المجتمعية الشّائعة، والمتكرّرة، هي: أن مجمل الفاعلين (السياسيين، والاقتصادين) يطالبون دائمًا بأن يُطبّق القانون على غيرهم، لكنهم لا يقبلون بأن يُطبّق القانون عليهم، خاصة حينما يكون القانون ضد مصالحهم الخاصة.
وفي سنة 2017، وَبَعْدَ مظاهرات احتجاجية خاضها سكّان مدينة الحُسَيْمَة في إقليم ”الرِّيف“ بشمال المغرب، خلال قرابة ثَمَانِيّة أشهر، اعترفَ الملكُ في أحد خطبه أن مشاريع اقتصادية أو تنموية كانت مُدْرَجَة في برنامج «الحُسَيْمَة منارة البحر المتوسّط»، لكن مُمَثِّلين ومسؤولين محلّيـين تخلّوا، أو امتـنعوا، خلال شهور أو سنوات، عن تنـفيذ بعض هذه المشاريع، وذلك لاعتبارات وَاهِيَّة، أو ”انتخابية“. حيث جاء في خطاب الملك (في 29 يوليوز 2017): «عندما يقوم مسؤول بتوقيف أو تعطيل مشروع تنموي أو اجتماعي، لحسابات سياسية أو شخصية، فهذا ليس فقط إخلالا بالواجب، وإنما هو خيانة، لأنه يضرّ بمصالح المواطنين، ويحرمهم من حقوقهم المشروعة». وهذا النّـقد ينطبق على الأحزاب اليمينية المناصرة للنظام السياسي القائم، وليس على أحزاب اليسار المُعارضة.
قد يقول قائل أن الكلام عن «الفساد» و«الاستبداد» بالمغرب، وعن «غيّاب دولة الحقّ والقانون»، هو مجرّد دعاية سياسية مُعارضة، أو اتّهام غير مُعَلَّل، أو تَحَامُل مُنحَاز ضدّ الدولة. وفي الواقع الحيّ، تَـقَعُ وَتُنْشَر في الصّحف، في كلّ يوم، العشرات من الأحداث الملموسة، التي تدلّ على وجود ”الفساد“ و”الاستبداد“. [ومظاهر ”الفساد“ و”الاستبداد“ تَنْتُج بالضّبط عن غيّاب ”دولة الحقّ والقانون“]. وفي معظم هذه الحالات، لا يقدر المُلاحظ العادي على إدراك ما تُعبِّر عنه هذه الأحداث من ”فساد“ و”استبداد“ إلَّا إذا بذل مجهودًا لكي يَـتَـعَمَّق في فحص تفاصيل هذه الأحداث. لأن التَّحليل المُتَأَنِّي لهذه الأحداث، (ولو أنها تظهر ”شائعة“، أو ”عاديّة“، أو ”تافهة“)، هو وحده الذي يستطيع إبراز ما تحتوي عليه من دَلَالَات مظاهر ”الفساد“ أو ”الاستبداد“. لذلك ندعو القارئ إلى أن يـتحمّل معنا مجهود الغوص في تـفاصيل أمثلة قليلة ومعبِّرة من الأحداث، من بين العشرات من القضايا، مأخوذة مِمَّا تنشره الجرائد، والتي قد تحدث في كلّ يوم. وتـفضح تفاصيل هذه الأحداث وجود مظاهر ”الفساد“ و”الاستبداد“، أو تُبَيِّن انعدام ”دولة الحقّ والقانون“. ونُـقَدِّم فيما يلي أربعة أمثلة معبِّرة، مأخوذة من الصحف اليومية المنشورة بالمغرب خلال هذه الفترة الحالية:
المثال الأول: نَشر المكتب الجهوي لجهة مراكش أسفي، التّابع لِـ ”الجمعية المغربية لحماية المال العام“، في يوم 7 غشت 2017، نَشَر رسالة مفتوحة موجّهة إلى وزير العدل، يشتكي فيها من تباطؤ أو تهرّب جهاز القضاء من تطبيق القانون على ملفات الفساد ونهب المال العام. ومِمَّا جاء في هذه الرسالة: «إننا في الفرع الجهوي للجمعية المغربية لحماية المال العام لجهة مراكش أسفي، ... تـقدّمنا بعدّة شكايات إلى السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بمراكش، تتعلق بِـتبديد، واختلاس أموال عمومية، والفساد، ونهب المال العام، والتزوير، والرّشوة، ونهب الثّروات، ضدّ مجموعة من المؤسسات، ومن الجماعات الترابية، بجهة مراكش أسفي. إلّا أن التعثّر والبطء الحاصلين بخصوص سير المسطرة القضائية ذات الصلة بهذه الملفات، شكّلا السّمة الأساسية في التّـعاطي معها، حيث أن هناك ملفات لازالت قيد البحث التمهيدي منذ مدّة تفوق أربع سنوات، وأخرى لا زالت قيد التحقيق الذي استغرق هو الآخر وقتًا طويلا، وملفات تعرف المحاكمة دون أن تظهر النتائج المرجوة. هذا وقد سبق وأن راسلنا ”وزير العدل و الحريات“ سابقًا [في الحكومة السّابقة]، وكل الجهات التي لها علاقة بالقضاء، عدّة مرات، من أجل التدخّل لتفعيل المساطر القانونية ضد التعثّر والبطء الذي تعرفه ملفات الفساد، ونهب المال العام بالجهة، المعروضة على محكمة الاستئناف بمراكش»! ونَبَّهت الجمعية إلى أن هذه الظاهرة: «تُشجع العديد من الأشخاص، ومن ورائهم جهات نافذة، تتحدّى أبسط القواعد القانونية, ... مِمَّا نتج عنه انطباع لدى المجتمع يتجلى في أن سيف القانون مسلّط فقط على رقاب البسطاء من أبناء الشعب»! وأشارت الجمعية إلى أن هذا الفساد حوّل «مستشارين جماعيين، وبرلمانيين، وموظفين بالجهة، بين عشية وضحاها، إلى أثرياء، على حساب معاناة ومأساة شرائح واسعة في المجتمعٍ». وأشارت الجمعية إلى أن الثروات المنهوبة «يتم تبييضها بطرق متنوعة، ويتحول أصحابها بقدرة قادر إلى تُجّار، ورجال أعمال، ومُنَعِّشِين عَقَارِيِّين، وأعيان، وممثلين للشعب، وأصحاب رأي، بل أصبحوا يشكلون لوبيا ضاغطا، لا يخضع للمراقبة، ولا للمحاسبة، ولا للمسائلة، متسبّبًا في انتشار الجريمة، والبناءات العشوائية، وفي السّطو على أملاك الدولة، وعلى أملاك الغير، وحاجزا منيعا ضدّ المبادرات التنموية بالجهة». وأرفقت الجمعية رسالتَها بلائحة تُذَكِّر ببعض قضايا الفساد المعنية (على شكل لوحة تحمل الأعمدة التالية: ”عنوان الشّكاية“، و”موضوع الشّكاية“، و”المحكمة المعنية“، و”تاريخها“).
المثال الثاني: صرّح عبد الصّادق البُوشْتَاوِي، أحد محاميي عائلة الشاب عِمَاد العَتَابِي، أن هذا الشاب شارك في مظاهرة احتجاجية في مدينة الحُسيمة، في يوم 20 يوليوز 2017، وضربه أحد رجال الأمن في رأسه بطلقة قنبلة مسيلة للدموع، فسقط فورًا في حالة إغماء. ونُـقل عماد العتابي إلى مركز العناية الفائقة في مستشفى عسكري بالرباط، ثم مات. وتقدم محامو العائلة بشكاية إلى وكيل الملك، وطالبوا بإعادة تشريح الجثة، والاستعانة بخبراء أجانب، وفحص جمجمة الضّحية. لكن القضاء رفض مجمل مطالب هيئة الدفاع. والشّخص، أو الأشخاص المسؤولين، الذين تسبّبوا في موت عماد العتابي، بشكل مباشر أو غير مباشر، لم يتعرضوا للتّحقيق، ولا للمُساءلة، ولا للمحاسبة، ولا للعقاب(5).
المثال الثالث: اشتكى مواطن اسمه ”الغَازِي خَلَّادَة“ إلى السّلطات المحلية من استيلاء أحد الأعيان المحلّيّين الأقوياء، السّائدين في المنطقة، على مسلك طرقي كانت تمرّ منه عائلته للوصول إلى منزلها منذ عُقود. لكن بدون نتيجة. وللاحتجاج على هذه السيطرة على الطريق المؤدية إلى سكنه، دخل الغازي خلادة في إضراب لا محدود عن الطعام في الشارع العام. وبعد محاكمة تنعدم فيها شروط المحاكمة العادلة، رُمِيَ الغازي خلادة في السّجن. وبعد تدهور حالته الصحية داخل السجن، نُـقل المعتقل الغازي خلادة إلى المستشفى الجهوي في يوم 29 يوليوز 2017. وبلغ إضرابه عن الطعام تسعين يوما. وتوفي الغازي خلادة في 2 غشت 2017 داخل قسم العناية المركزة بالمستشفى الجهوي لمدينة بني ملال. وطالبت عائلة الضحية، وهيئة دفاعه، بفتح تحقيق حول أسباب وفاته. وبعد دفن الغازي خلادة، أمرت السلطات المحلية بفتح ذلك المسلك الطرقي الذي كان يطالب به الغازي خلادة، وعائلته، وسكان قريته. لكن خصم الغازي خلادة لم يتعرّض للمحاسبة(6).
المثال الرّابع: خلال شهور متوالية، كان الصّحفي حميد المهداوي (مدير جريدة إلكترونية تحمل اِسم بَدِيل أَنْفُو )، يفضح قضايا الفساد التي يتورّط فيها ”أَعْيَان“ الدولة، أو ”خُدَّام النظام السياسي“. وكان حميد المهداوي يدعو الدولة إلى التركيز على مواجهة مظاهر الفساد، بدلا من قمع المواطنين المتظاهرين أو المُحتجِّين. وكان المهداوي يستنكر عدم خضوع الشخصيات الفاسدة للمُحاسبة أو للمُعاقبة. واشتهر حميد المهداوي بدفاعه عن منهج متميِّز في مجال الصّحافة. حيث كان المهداوي يرفض أن يكون الصحافي مُرْتَزِقًا. وكان يُلحّ على أن يكون الصحافي نزيهًا، جِرِّيئًا، نَاقِدًا، ومنحازًا إلى جانب الجماهير المستضعفة، ومستقلًّا عن مجمل السلطات السياسية والاقتصادية. وذاك ما لم تكن ترضى عنه جهات متعدِّدة في الدولة.
وكان المهداوي ينشر بانتظام مقالات وأشرطة فِيدِيُو (vidéo) يشرح فيها مشروعية مطالب المتظاهرين الذين ظلّوا يحتجّون في إقليم ”الرِّيفْ“ (بشمال المغرب)، وخصوصًا في مدينة الحُسَيمَة، منذ شهر أكتوبر 2016. وكان المهداوي يُـنَـدِّد بعمليات القمع التعسّفية. وكان يُبرز خروقات حقوق الإنسان. وكان عدد زُوَّار الموقع الإلكتروني الذي يديره حميد المهداوي ( بَدِيلْ أَنْفُو ) يُعَدُّ في كل يوم بعشرات الآلاف. وكان حميد المهداوي يُحْدِثُ حرجا كبيرا للدولة. ولو أن حميد المهداوي كان يذكِّر في مجمل مداخلاته أنه يساند الملكية، ويحبّ الملك، ويناصره. وكانت قوات الأمن تتحيّن الفُرصة لإسكاته، أو لِتَكْسِير شوكته، عبر اعتـقاله، أو سجنه بِتُهَم ثـقيلة، مثلما فعلت في الماضي مع كثير من الصحافيّين النَّاقِدِين (أمثال عَلِي لَمْرَابَط، وَبُوبْكَر الجَامْعِي، وأحمد بن شَمْسِي، ورشيد نِينِي، وعَلِي أَنُوزْلَا(7)، إلى آخره).
ولمّا سافر حميد المهداوي من مدينة الدار البيضاء إلى مدينة الحُسَيْمَة، في إقليم الريف ، للقيّام بتغطية صحفية لمظاهرة يوم 20 يوليوز 2017 في مدينة الحُسيمة، أقدمت الدولة المغربية على اعتقال حميد المهداوي داخل هذه المظاهرة. وانتهزت قوّات الأمن فرصة تناول حميد المهداوي للكلمة أثناء وقفة للمظاهرة، حيث كان جزء هام من المتظاهرين يعرفون، ويقدّرون، تضامن حميد المهداوي معهم، وكانوا يسعدون بإعطائه الكلمة. وَوَجَّهَتْ قوات الأمن للمهداوي تُهمة «التحريض على التظاهر»، و«تحريض أشخاص على ارتكاب جُنح بواسطة الخُطب والصّياح في مكان عمومي». وجاء في بيان النيابة العامة أن المهداوي كان «يَصْرُخ»، و«يُحَرِّض» النّاس على التظاهر. وتُـبَـيِّن هذه التّهمة السُّهُولة التي يمكن بها أن تتلاعب الدولة بالقانون لتلفيق التُّهَم إلى مُنْتَـقِدِيها ومُعارضيها. وتفضح هذه التهمة ظاهرة ”استغلال النُّـفُـوذ“ (abus de pouvoir). وتحتوي هذه التّهمة على احتـقار كبير لجماهير الشعب. كأن المهداوي ”هو من حَرّض على المظاهرات“ التي وقعت في مدينة الحُسَيْمَة. ويبعد إقليم الحُسيمة عن مقرّ سكن حميد المهداوي بِمِئَات الكِيلُومِتْرَات. وما وقع، خلال أسابيع متوالية، هو أن العشرات من الجرائد والمواقع الإلكترونية (على الأنترنيت)، كانت تتناقل خبرًا يقول أن بعض سكّان مدينة الحُسَيمَة سَيُنَظِّمون مظاهرة إضافية حاشدة في يوم 20 يوليوز 2017 المقبل. وهل يحقّ للدولة أن تعتـقل كل الصحافيِّين الذين نشروا خبر مشروع تنظيم مظاهرة يوم 20 يوليوز 2017، وأن تتَّهمهم بِـ «التحريض» على التظاهر؟
ومن خلال التّهمة الموجّهة إلى حميد المهداوي، يظهر كأن جهاز القضاء يريد أن يُوهِمَنَا أنه يكفي لأيّ شخص كان أن «يحرّض» جماهير الشعب على التظاهر، لكي تخرج فورًا هذه الجماهير الغفيرة كَالخِرْفَان البليدة، لكي تَـتَـظَاهَر ضدّ الدولة المظلومة! وكأن حميد المهداوي هو الذي تسبّب في هذه المظاهرات! وهذا زعم بعيد عن الواقع. وقد دامت هذه الاحتجاجات الجماهيرية، وتوالت، في مدينة الحُسَيمَة، منذ شهر أكتوبر 2016، أي خلال أزيد من ثمانية أشهر. وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية مُزمنة. وقد سبق لرئيس الدولة أن اعترف هو نفسه في أحد خُطبه بوجود هذه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في إقليم الرِّيف، وفي أقاليم أخرى [حيث قال: «والمناطق التي تـفتـقر لمعظم المرافق والخدمات الصحية والتعليمية والثقافية، وَلِفُرَص الشُّغْل، تطرح صعوبات أكبر، وتحتاج إلى المزيد من تضافر الجهود...»].
وتشهد مجمل الصحف على أن هذه المظاهرات اِنطلقت في مدينة الحُسَيْمَة بعد مقتل بائع السمك مُحْسِن فِكْرِي، نتيجة لِدَهْسِه داخل شاحنة تقوم بضغط النفايات ونقلها. حيث عَصَرَت دَفَّة الشاحنة مُحسن فكري مع أسماكه التي صادرتها السلطات المحلية، وذلك بحجّة عدم قانونيتها(8). وتطوّرت المظاهرات المندِّدة بمقتل محسن فكري إلى مظاهرات تحتج أيضًا على المشاكل المُجتمعية المزمنة، مثل البطالة، والفقر، والتّهميش، التي كانت هي الأسباب الخفيّة لمقتل محسن فكري. وندّد المتظاهرون أيضًا بِمَافْيَا الفساد الموجودة في قطاع الصّيد البحري، وفي مجالات حماية البيئة، والثروة السمكية، إلى آخره.
والغريب هو أن قيادات الأحزاب المشاركة في الحكومة(9)، وهي كلّها خاضعة للسّلطة السياسية، اجتمعت مع وزير الداخلية، ثم قدّمت تصريحات مباشرة على وسائل الإعلام العمومية تقول فيها: إن المظاهرات الجارية في إقليم الرِّيفْ في شمال المغرب، هي حركة «انفصالية»، وتخضع لتأثيرات «شيعيّة»، وتتلقّى «تمويلات من الخارج»، و«تَمَسُّ بالثّوابت والمقدّسات الوطنية»! ومثل هذه الاتهامات لا يمكن تُوجد إلّا في مَخِيلَة أنصار النظام السياسي القائم، الذين يظنّون أن «الأوضاع بالمغرب ممتازة جِدًّا، وإذا ما وقعت مظاهرة أو احتجاج، فهي مؤامرة مدّبرة من طرف أعدائنا في الخارج»! وقد تَبيَّن فيما بعد كذب تتلك الاتِّهامات. وانفضح أن وزارة الداخلية (وكذلك قيادات الأحزاب المذكورة سابقًا) عاجزة على تقديم أيّ دليل ملموس ومُقنع على صحّة تلك الاتهامات المُغْرِضَة. ولم يُحاسب أحد لا وزارة الداخلية، ولا زعماء أحزاب الأغلبية الحكومية، على تلك الاتّهامات المُلفّـقة، وعلى ذلك الأسلوب ”التَّخْوِنِي“، أو ”التّآمُرِي“. الشيء الذي يجعل المواطن البسيط يتساءل: أين هي المُحاسبة على صناعة التُّهم المُخْتَلَـقَة؟ أين هي العدالة؟ أين هي ”دولة الحق والقانون“؟
وخلال أشهر ماي، ويونيو، ويوليوز، وغشت، من سنة 2017، اعتقلت قوات الأمن قرابة 290 شخصًا من بين المتظاهرين. وقدمت معظمهم للمحاكمة بِتُهَم مختلفة. ثم حكمت المحكمة على أغلبهم بشهور متعدّدة من السّجن النّافذ. وحكمت على بعضهم بعدّة سنوات سجنًا نافذًا. ووزّعتهم على عدّة سجون بين مدن الحُسيمة والدار البيضاء. وأشار كثيرون من بين محاميِّي الدِّفاع إلى «غيّاب شروط المحاكمة العادلة» في هذه المحاكمات. وخاضت عدّة مجموعات من المعتقلين إضرابات متكرّرة عن الطعام، للتّنديد بما أَحسّت به من ظلم. وفي يوم 11 يونيو 2017، نُظِّمت مظاهرة جماهيرية حاشدة في العاصمة الرباط، شارك فيها قرابة 50 ألف مواطن. وجاء بعض المتظاهرين من مدن مجاورة أو نائية. وعبّروا عن «تضامنهم» مع الجماهير المتظاهرة في مدينة الحُسَيْمَة، وفي إقليم ”الرِّيف“. وساندوا مطالبها، وأكّدوا على أنها «عادلة» و«مشروعة». وشارك في هذه المظاهرة مواطنون من مجمل الأحزاب التقدّمية، وكذلك من النقابات، والجمعيات، والشخصيات المثـقّفة أو الوطنية.
لنتساءل الآن: هل من العدل أن تتّـهم الدولة حميد المهداوي بالتّحريض على ”التظاهر“ في مدينة الحُسَيمة؟ هل حقيقةً حميد المهداوي هو الذي «حرّض» سكان مدينة الحسيمة على ”التظاهر“؟ هل حقيقةً المعتقل نَاصِر الزَّفْزَافِي ورفاقه هم الذين «حرّضوا» سكان إقليم الرّيف على ”التظاهر“؟ هل تقدر قوات الأمن (التي اتّهمت المهداوي بالتحريض على التظاهر)، أن تأتي ولو بعشرة شهود من بين عشرات الآلاف من السُّكَان المتظاهرين في مدينة الحُسَيْمَة، لكي يشهدوا ويقولوا مثلا: «أنهم لا يُعانون من أيّة مشاكل جِدِّية تُبرّر تظاهرهم، وأنه لولا تحريض ناصر الزفزافي، أو حميد المهداوي، لما خرجوا للتظاهر والاحتجاج»؟ وفي الواقع، لا تقدر الدولة أن تأتي بِشُهود نزهين (أي أحرار، ومستقلّين) يستطيعون الإدلاء بمثل هذه الشهادة. ألا تُبَيِّن إذن «تُهمة التّحريض على التظاهر» أن هذه الدولة تقلب الحقائق على رأسها؟ أَلَا يرى الملاحظ النّـزيه أن من «حَرَّضَ» حقيقةً المواطنين على ”التظاهر“، وعلى ”الاحتجاج“، هو الدولة نفسها. لأن الدولة هي المسؤولة الحقيقية عن وجود تلك المشاكل المُجتمعية المؤلمة والمزمنة. وهي المسؤولية عن تفاقم ودوام هذه المشاكل. ولأنه، حينما تخلّت الدولة، خلال عشرات السّنين المُتوالية، عن توفير التّعليم، والتّكوين المهني، والعلاج الطّبي، والشّغل، لسكّان أقاليم مُعيَّنة، منها مثلًا مدينة الحسيمة، فإن هذه الدولة تصبح هي السبب الحقيقي الذي دفع بقوّة هؤلاء المواطنين إلى المطالبة بحقوقهم، عبر ”التظاهر“ الجماعي السِّلمي، وعبر ”الاحتجاج“ المشترك. وإذا ما حاولنا أن نتصوّر أنفسنا داخل أجِسامِ هؤلاء المتظاهرين المحتجّين، سندرك بسهولة المعاناة التي يعيشونها. لأنه حينما يرى هؤلاء المواطنين سنّهم يكبر من 15 إلى 20 سنة، ثم من 20 إلى 30 سنة، ثم من 30 إلى 40 سنة، وهم يبقون عَاطِلين عن العمل، بدون الحصول على تعليم، ولا تكوين مهني، ولا علاج طبّي، ولا شُغل، ولا مدخول، وبدون إمكانية عقد زواج، ولا إمكانية اقتناء سكن خاص، فإن هؤلاء المواطنين يحسّون كأن حياتهم، وكرامتهم، تُـنْـتَـزع منهم، بشكل قاهر وظالم. خاصّة وأن الدولة تعرف جيّدًا، أن عددا من ”الحلول التَّرْقِيعِيّة“ (dépannage, bricolage) التي كان المواطنون يستعملونها في الماضي للحصول على مورد متواضع للعيش، قد أصبحت اليوم مستحيلة. (وأبرز تلك ”الحُلول الترقيعية“ هي: الهجرة إلى بلدان أوروبّا للاشتغال فيها؛ أو الإتّجار في ترويج السّلع المُهرّبة من الحدود المجاورة؛ أو اللّجوء إلى صيد السمك في البحر المتوسّط؛ إلى آخره).
وفي مثل هذه الحالة من التّهميش، والحرمان، واليأس، لا يحتاج هؤلاء المواطنون المحرومون إلى من «يحرّضهم» على التظاهر. ولا توجد أيّة قوّة في الدنيا تقدر على منع هؤلاء المواطنين من ”التظاهر“، ومن ”الاحتجاج“! وربّما حتّى من أشكال أخرى من النضال، ومن الدّفاع عن النفس! بل السؤال الإضافي المطروح، هو: هل يحقّ للدولة (في مثل هذه الحالات من التّهميش، والحرمان، واليأس) أن تمنع هؤلاء المواطنين المظلومين من ”التظاهر“، ومن ”الاحتجاج“، بهدف إثارة انتباه الدولة إلى ما يُعانونه من مشاكل مزمنة؟ وهل المطالبة بالشّغل أصبحت اليوم جريمة؟ وهل يمكن لأيّ عقل سليم أن يقبل بأن تَحْرُمَ الدولة أجيالاً بكاملها من التعليم، ومن العلاج الطبّي، ومن الشّغل، وأن تقول لهم: «إِبْقُوا هكذا عاطلين ومهمّشين، طِوَالَ حياتكم كلّها، ولا يحقّ لكم أن تتظاهروا، ولا أن تحتجّوا، ضدّ الدولة»! إن كلّ من يدافع عن هذا الظلم، أو يسانده، سيصبح شريكًا فيه، ولو بشكل غير مباشر.
والخلاصة إذن، هي أن المشكل لا يكمن في «تظاهر» المواطنين «بدون ترخيص قانوني من وزارة الداخلية»، مثلما تزعم الدولة. [كأنه يكفي للمواطنين الرّاغبين في التظاهر أن يطلبوا «رُخصة للتظاهر» لكي يحصلوا عليها فورًا، بينما يعرف جيّدًا المواطنين أنهم لن يحصلوا أبدًا على أيّ «ترخيص للتظاهر» مُسَلَّم من طرف وزارة الداخلية]. والمشكل الحقيقي يكمن في كون الدولة بالمغرب عاجزة على القيام بواجباتها، وغير قادرة على توفير التعليم الجيّد، والعلاج الطبّي، والشّغل، والكرامة، والحرّية، لعموم المواطنين الضعفاء والفقراء. والمشكل الفعلي هو إذن أن الدولة، بمجمل مؤسّـساتها، أصبحت مريضة. المشكل هو أن الدولة بالمغرب مسخّرة أساسًا لإغناء الأغنياء، ولو عبر إبقاء المواطنين الضعفاء في الفقر، والجهل، والبِطَالة، والتّهميش، واليأس، والمعاناة الدّائمة. هذه هي الحقيقة المُرّة. وكلّ من يتجاهل هذه الحقيقة، أو يرغب في طمسها، أو يريد تحميل مسؤوليتها إلى «المتظاهرين بدون ترخيص»، فإنه لا يرقى إلى مستوى الموضوعية، والنزاهة الفكرية.
وفي الحقيقة، ما لم تكن الدولة تَغْفِرُه للصحافي حميد المهداوي وأمثاله، ليس هو «التحريض على التظاهر»، وإنّما هو اهتمامه بمظاهرات إقليم ”الرِّيف“، والتَّعْرِيف بها، وفضحه للفساد والاستبداد، وتضامنه المُعلن مع المحتجين المتظاهرين.
وبعدما قضى حميد المهداوي قرابة شهر في الاعتقال الاحتياطي في السجن، حكمت عليه المحكمة بثلاثة أشهر سجنا نافذًا، وغرامة مالية قدرها عشرون ألف درهمًا (أو قرابة ألفي دولار أمريكي). ومِمَّا زاد القضية غرابةً أنه، بعد صدور هذا الحكم بيوم واحد، (والذي اعتبره خصوم المهداوي غير كاف)، أصدر الوكيل العام للملك بمدينة الدار البيضاء بيانًا أعلن فيه أنه فحص من جديد قضية هذا المعتقل، وأنه يُوَجِّه له تُهَمًا إضافية تتعلق بِـ «عدم التبليغ عن جناية المس بسلامة وأمن الدولة»! وصرّح أن حميد المهداوي سيحاكم في محاكمة جديدة، وَبِتُهَم إضافية، معروفة بثـقل عقوباتها. وهي التُهم التي تتعلّق بِـ «المسّ بأمن وسلامة الدولة»! وقد رُفِعَت فعلًا عقوبة المهداوي من ثلاثة أشهر إلى سنة حبسًا نافذًا(10). فهل يحقّ للنيابة العامة أن تـقوم باستدراك في صَكِّ الاتِّهَام الموجّه إلى معتقل مسجون، ومحكوم، لكي تضيف إليه تُهمًا إضافية أو تكميلية؟ ألَا يدلّ هذا التلاعب بالتّهم الموجّهة إلى معتـقل ضعيف على أن القضاء بالمغرب منحاز، وغير مستـقل؟
وقد أثارت هذه التّهم الإضافية استغراب مجمل المتتبّـعين، نظرا لغرابة الوقائع التي اعتمدتها النيابة العامة لتوجيه هذه التهم لحميد المهدوي (حيث اعتمدت على تفريغ مكالمات هاتفية تافهة، جاءت في إطار المزاح، والثرثرة، والقيل والقال). كأن هدف الدولة ليس هو إحقاق الحقّ، والعدل، وإنما هو البحث عن وسائل إضافية لإبقاء المعارضين المُزعجين في السجن خلال مدد أطول من تلك التي سبق أن حُوكِمُوا بها. وأيّ دولة تتحايل في تطبيق القانون، وتنتـقم من مُنتـقديها، أو من معارضيها، (ولو لم يرتكب هؤلاء المعارضين جرائم حقيقية مصنّفة طبقًا لِقانون عادل)، تصبح دولة استبدادية، ولا ترقى إلى درجة ”دولة الحق والقانون“.
قد يقول أنصار النظام السياسي القائم، أن الدولة، كما هي عادتها، احترمت القانون في جميع الإجراءات المتعلّقة بتلك الأحداث الأربعة المذكورة أعلاه. ولكنهم لن يقدروا على الاعتراف أن ذلك القانون غير عادل في جوهره، وأن القمع الذي تسلّطه الدولة على المعارضين مناف للأخلاق، وغير نزيه، وغير عادل. فالنظام السياسي لا يهتمّ سوى بالدّفاع عن دوامه، ولو عبر اضطهاد المواطنين المنتـقِدين، و سحق المعارضين.
وقد لاحظنا من خلال الأحداث الأربعة المعروضة أعلاه (والتي هي أحداث شائعة)، أن التعمّق في فحص تفاصيل هذه الأحداث، هو السّبيل الذي يُساعد على إدراك أن السلطات السياسية بالمغرب تستغلّ نفوذها، وتتلاعب بالقانون، بهدف الانتـقام من المعارضين السياسيين. وهو ما يؤكّد غيّاب ”دولة الحقّ والقانون“.
ويُمارس خُدَّام النظام السياسي القائم ”الصراع الطبقي“ بشراسة ضدّ المعارضين السياسيين، ويزعمون في نفس الوقت أن هذا ”الصِّراع الطبقي“ غير موجود!
ويمكن أن يستمرّ النظام السياسي، خلال زمن طويل جدًّا، في إقامة قوانين قاهرة، وفيِ ابتكار التُّهم، وتمرير المحاكمات الصورية، ورمي كل من يعارضه، أو يزعجه، في السجون؛ لكن هذه السياسة لن تحلّ أيّ مشكل، ولم يسبق لها أن حلّت أيّ مشكل، في أيّ بلد كان من العالم. لماذا؟ لأن الشعب يحتاج إلى تعليم جيّد، وإلى علاج طبّي، وإلى الشّغل، وإلى معيشة مُشَرِّفَة، وإلى الحرّية، وإلى الكرامة؛ وكل نظام سياسي لا يوفر هذه الحاجيات المشروعة، سينتهي الشعب حَتْمًا إلى إزالته؛ وما في ذلك أيّ شكّ.
رحمان النوضة
(وحرّرت الصِّيغة الأولى في الدار البيضاء، في 18 شتنبر 2017).
________________________________________________
الـهـوامـش :
(1) محمد بودهان، عندما يُستعمل القضاء للقضاء على العدالة ، (http://lakome2.com/opinion/30896.htm).
(2) ”عَـصَـبِـيَّـة“ فئة مجتمعية محدّدة تعني: الموالاة بشكل تامّ لأفراد هذه الفئة، ومناصرتهم، سواءً كانوا ظالمين أم مظلومين. وهي أنواع: عصبية عائلية، أو قبلية، أو عشائرية، أو طائفية، أو دينية، أو مذهبية، أو مَنَاطِقِيّة، أو حزبية، إلى آخره.
(3) أنظر دراسة نـقد النخب ، لرحمان النوضة، صدرت في مجلّة الربيع ، العدد المزدوج 2 و 3، سنة 2015، الصفحة 158. وتوجد أيضا في الأنترنيت، على المدوّنة: https://livreschauds.wordpress.com/2016/02/21/%d9%88%d8%ab%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d9%86%d9%8e%d9%80%d9%82%d9%92%d9%80%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%91%d9%80%d8%ae%d9%80%d8%a8-%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d9%85%d8%a7%d9%86-%d8%a7/
(4) عندما نشر رحمان النوضة وثيقة نـقد النّـخب في أكتوبر 2015، احتجّ بعض المثـقّـفين قائلين أن هذه الدراسة تـقسو على النّـخب، وتبالغ في نـقدها. بينما جاء خطاب الملك في يوم 29 يوليوز 2017 ليؤكّد استفحال رداءة النّـخب بالمغرب. [ توجد هذه الوثيقة في مجلة الربيع ، السنة الأولى، عدد مزدوج 2-3، صيف سنة 2015. وتوجد أيضًا هذه الوثيقة على المدوّنة: https://livreschauds.wordpress.com/2016/02/21/%d9%88%d8%ab%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d9%86%d9%8e%d9%80%d9%82%d9%92%d9%80%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%91%d9%80%d8%ae%d9%80%d8%a8-%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d9%85%d8%a7%d9%86-%d8%a7/].
(5) عن جريدة آخر ساعة، ليوم 17 غشت 2017، العدد 518، الصفحة 3.
(6) عن جريدة آخر ساعة ، ليوم 19 غشت 2017، العدد 520، الصفحة 2.
(7) الصحافيون المستقلّون، أو النّاقدون، أمثال علي لَمْرَابَطْ، وبوبكر الجامعي، وأحمد بن شَمْسِي، وعلي أَنُوزْلَا، ورشيد نِينِي، تعرّضوا إلى مضايقات، واتهامات، ومحاكمات، وعقوبات، وغرامات مالية، كسّرت حياتهم المهنية، وأدخلتهم في جحيم لا يُطاق. واضطر الصحافيون الثلاثة الأوائل المذكورين إلى ترك المغرب، والهجرة إلى بلدان في أوروبّا أو أمريكا الشمالية. كما أتُّهِمَ وسُجِن الصحفي عَلِي أَنُوزْلَا، فتكسَّرت حياته المهنية. وسُجِنَ الصحافي رَشِيد نِينِي خلال سنة كاملة لإرغامه على الابتعاد عن نقد المسؤولين في الدولة.
(8) http://ara.reuters.com/article/ME_TOPNEWS_MORE/idARAKBN1AA20J
(9) الأحزاب المشاركة في الحكومة آنذاك، وهي كلّها يمينية ومحافظة، هي: حزب العدالة والتنمية (إسلامي أصولي)، حزب التجمُّع الوطني للأحرار، حزب الحركة الشعبية، حزب التقدم والاشتراكية، حزب الاتحاد الاشتراكي.
(10) عن جريدة آخر ساعة ، ليوم 14 شتنبر 2017، العدد 539، الصفحة 3.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة