الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من يسرق النار هذه المرة؟

سعد سلوم

2006 / 2 / 15
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


"اتسم تاريخنا بخاصية التنوع من جهة، والتوحد من جهة اخرى. فالتأثيرالكبير الذي مارسه نهرا دجلة والفرات على مزاج وذهنية العراقي كان حاسما في اضفاء التميز عن بقية الاقوام والبلدان ومارس تأثيرا موحدا لكل الاطياف العراقية، حيث ترى في العراق تنوعا دينيا ومذهبيا ولغويا، إذ ينحدر وسط وجنوب العراق بغالبية عربية مسلمة شيعية وشمال بغالبية سنية وتنوع عربي وكردي وتركماني وسرياني مسيحي، اما في بغداد بحكم موقعها المتوسط والمحاذي لكل المناطق اصبحت مركز تجمع لكل الأطياف العراقية المختلفة وهي مركز تمازج من كل النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية".إن هذا التنوع البيئي المذهبي اضفى ذلك الطابع المتألق الذي ميزنا عبر التاريخ، أي الطاقة الروحية المنبعثة من روح الحضارة وخاصية الابداع لدى العراقيين.
هذه المقدمة ضرورية بالنسبة لي، لكي افهم البعد العميق والخفي لإصرارنا على المضي قدما كلما تعمقت مستويات التحديات الماثلة في حياتنا، مذ أبصرنا النور كان الباب مشرعا على رعب الحروب والكوارث والدمار، وموصدا أمام الامل بتلك الامكانات المفتوحة التي تتفجر حين تعانق نوافذنا فضاء العالم، لكننا لم نتوقف عن ممارسة حقنا في الحياة وارتكابنا أشد الاحلام خطورة، حين احرق دخان الفوانيس رموش عيوننا. وكان كل منا يكتب ليحشو واقعه بزاد الكلمات، بعد ان تجعدت بطنه من الجوع وانهكت مخيلته في تخيل رؤية وليده الابداعي مطبوعا، وأدمعت العيون من قراءة الكتب المستنسخة بحروف صغيرة-ما نزال على هذا الحال- لان مبدعنا لم يرد ان يشعر بجرح كبريائه المعرفي بكونه متخلفا عن ثقافة الاخرين، وكنت تجد الكتاب ممهورا بملاحظات من سبقك بقراءته فكأنك كنت تقرأ كتابا واحدا مع الجميع، وتحس ان اعين رفاقك واصدقائك ما تزال مفتوحة وهي تؤسس لما هو قادم وترفض ما هو قائم،وحين تدخل المكتبة وتستعير مطبوعا جديدا وتجد بعض صفحاته ممزقة على يد الرقيب لانها تتناول الوضع العراقي تشعر انهم انتزوعها من جلدك. كنت أيضا تجد من ينشرون خارج العراق تحت أسماء مستعارة، فيصبح كل منا متعددا بأسمائه، كأنه قبيلة من المبدعين. لقد كنا جماعة ولم نكن فردا. كنا بحق مشروعا واحدا لاننا همٌّ واحد يريد الانتصار لنفسه ضد العدم.
أكتب هذه الكلمات وأنا افكر بكوني استطيع أن أؤشر على كون مطبوعنا الثقافي(مسارات) يحتفظ بنكهة الشعور الجماعي بالعمل الابداعي، فقد حاول ان يتجاوز-مطبوعنا- منذ عدده الأول بعض الثنائيات البغيضة التي باتت تفتت العقل العراقي كثنائية عراقيي الداخل-عراقيي الخارج، وذلك بتقديمنا نحن (في الداخل) ملفا عن أهم شعرائنا في الخارج في إطار دعوة للانفتاح تحقيقا لغاية تتمثل بإندماج ثقافة الداخل والخارج في مسار واحد يسهم في بناء الأنا العراقية في وقت نحن احوج ما نكون فيه للتوحد والاندماج لبناء ثقافة تؤسس لهوية عراقية ما دمنا نؤمن بانه ليست هناك ثقافة داخل وخارج، بمعنى ان هم المثقف واحد ومصادر الثقافة واحدة والتاريخ واللغة والهموم والمستقبل متصلة بوشائج قوية. وفي أطار من هذه الرؤية جاءت الاعداد اللاحقة متضمنة الاحتفاء بروح الابداع العراقي المؤسس للمستقبل فكان احتفالنا بالروائي علي بدر من خلال تقدبم شهادات عالمية وعربية كما تضمن عددنا الثالث احتفاءا بتجربة المسرحي قاسم مطرود والقاص المبدع لؤي حمزة عباس كما تضمن عددنا الرابع هذا ملفا عن الشاعر البصري طالب عبد العزيز.
وكانت هناك رسالة مضمرة في قلب هذا الاحتفاء تريد ان تقول إن المثقفين العراقيين اليوم قد باتوا أول من يطالبون بتوحيد مشروعهم الثقافي على اساس من رؤية معرفية واضحة أو خريطة طريق فكرية متماسكة وهذا المشروع الثقافي لتأسيس (هوية ما هو دائم) هو الالتزام الوطني الحقيقي لاستيعاب الواقع المتشظي والمحمل بشتى انواع الرؤى الخلاصية التي تعكس منطلقاتها، المصالح الدولية والاقليمية والفئوية، فالمثقف اليوم مطالب بتحليل الواقع القائم بهدف استيعابه والاحاطة بمسالكه ومن ثم ادارته كما يجب وهو بهذا يرسم خطوة ايجابية عن مختلف الطروحات السياسية التبريرية التي تعكس المصالح الخاصة المتطابقة مع او ضد اتجاه ما، قد لا يعبر عن مطمح الشعب في بناء دولته المعاصرة. وقد يكون السياسيون بحاجة لجسر المثقف الذي يصلهم بالواقع في ظل وضع سياسي حرج بات فيه البديل الامريكي(اوالطائفي اوالعرقي) هو الذي يمثل الخلاص على خلفية من الاحتراب الفئوي على المصالح الشخصية والمكاسب الطائفية والعرقية، وعلى اساس من ذلك فمهمة المثقفين اخطر مما يبدو والتصور عن تبعية الثقافي للسياسي ينبغي قلبه بالمعادلة الجديدة التي تضع المثقف في قلب الواقع السياسي والحراك الاجتماعي
قد يعترض البعض بكون المثقف لا يستطيع القيام بهذه المهمة لانعدام منبر للثقافة العراقية يتصل بروح الشعب وهمومه ومطاليبه وحاجاته! لكن ألا تتفقون معي بأن المنابرالفكرية والثقافية اليوم مفتوحة على مصراعيها لينشط من خلالها المثقف من خلال الصحف والمجلات والقنوات الفضائية والارضية والاذاعات. إذا كانت السياسة وباءا على البلد وسياسونا يعجزون عن توفير الخلاص والنزعة العسكرتارية متجذرة والاحتلال وضعنا في نفق متاهة لا تؤدي الى مخرج، وجرى على نطاق لم يشهد له تاريخنا مثيلا طؤافة للسياسة (ردها للطائفة) بل طوافة للاعلام وللعقل الذي ندافع عن بنائه ووحدته، اريد أن اقول انه لم يبق لنا سوى ان نتمسك بالثقافة ونعمقها ونؤسس بها ما هو قادم، فقد باتت تمثل خط الدفاع الاخير عن الهوية وهي رهاننا الاوحد بوصفنا معبرين عن الضمير العراقي ومرتبطين بجذور امتنا كحفظة لهذا التاريخ وحراسه. اذا تدمرت المدن ونهبت المتاحف واحرقت الكتب وزور التاريخ، وتلوثت السياسة وقصف القلب، فلم نزل نحتفظ بوعينا الذي يستطيع ان يؤتمن على كنوز العقل العراقي.
لقد كافح المثقف ضد سياسة الارتزاق وضد بيع كلمته -بيع نفسه- وهو يحارب ضد تمييع موقفه وجعله يدافع عن هذا الاتجاه او ذاك. واذا كان ما يزال ينظر بعين الريبة الى الساسة والسياسة ويرفض تدجينه ويحارب الدوغمائية لانها لا تجدي نفعا في بناء الذات العراقية، ويحتقر مظاهر التقديس للاله الحاكم، فإن مورثات النظام الدكتاتوري ذاتها ما تزال تعمل في لاوعيه لكنه يحاربها حتى لو اضطر لرفض ذاته والانقلاب عليها ورواسب الماضي المظلم تتجلى اليوم بأشكال تحديات جديدة لكن قوة الوعي تجعل من دافع (التحول-الانتقال) حافزا لتحمل الألم الى النهاية والجسر المؤقت على طريق بناء دولتنا الموعودة هو جسر للتطهر أيضا، من التركات الثقيلة للدكتاتورية ومناسبة لحرق خشب السلطوية الموبوء وتفجير الطاقات الكامنة التي حجبت وغيبت قضية تحررنا هي قضية (داخلية-خارجية)، بمقدار ما ننتصر على تناقضاتها، ندشن مشروع بناء هوية (ما هو دائم).
هذا الوعي الذي نحفر به الزمن هو مفتاح وحدتنا، وليس هناك ما يوحد (الداخل-الخارج) أكثر من الاحساس الواعي بوحدة الهوية العراقية، وقد حاولت مساراتنا بجهد المبدعين في (الداخل-الخارج) تعميق هذا الوعي بطرق شتى قد لا يكون أبعدها عن الحقيقة، تأجيج الحراك النقدي بشكل خاص والثقافي بشكل عام من خلال تقديم ملفات مهمة كملف العدد الاول عن النقد الثقافي وملفنا عن التاريخية الجديدة وسعي عددنا الرابع لإصدار ملف يحوي مشاركات غنية عن بول ريكور بهدف تعميق وتقديم رؤى جديدة لتاريخنا وادبنا وثقافتنا فمسارات مجلتنا كما ذكرت في أولى افتتاحياتها متفتحة على الآخر مثلما هي منفتحة على الأنا العراقية ورصيدها الحضاري العظيم واحتياطها الروحي المتجدد، وهي ستظل مسارات لعراق واحد.
*لهذا المقال علاقة بإفتتاحية العدد الرابع من مجلة(مسارات)التي يرأس تحريرها الكاتب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح