الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصريون البسطاء بين مصر القديمة ومصر الحديثة، قراءة في كتاب ابداع الاميين المصريين للمفكر طلعت رضوان

احمد الباسوسي

2017 / 9 / 22
الادب والفن


صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة المصرية مؤخرا وفي الثلث الأخير من عام 2017 كتاب جديد للكاتب والمفكر طلعت رضوان بعنوان " ابداع الأميين المصريين".
وللوهلة الأولى يتضح الكتاب من عنوانه من خلال مؤلفه المتسق مع نفسه دائما، ومع مشروعه الفكري المطالب بالعودة الى جذورنا وهويتنا المصرية القديمة الأصيلة لغة وفكرا وسلوكا، وإن كافة الغزاة الذين تواكبوا على احتلال مصر بمختلف أشكالهم وصنوفهم وجنسياتهم وأعراقهم لم يتمكنوا من طمس هوية المصريين الأصيلة العميقة الضاربة في جذور الأرض الخضراء ونهر النيل المتدفق، ومصريون اصحاب عقول عبقرية سيطروا على النهر والأرض وانتجوا لغة وثقافة وحضارة عبقرية تحدت وما تزال الأزمنة والغزاة وقرون من القهر والتخلف.
الكتاب يتكون من مقدمة تمهيدية كاشفة لمضمونه بقلم الدكتور كمال مغيث، ومقدمة بقلم المؤلف نفسه يشرح فيها الفرق بين "الجهل، والأمية"، وينفي عن ملايين المصريين البسطاء صفة الجهل لمجرد إنهم يجهلون مهارة القراءة والكتابة، ويوضح إن لكل شعب من الشعوب ثقافته القومية الخاصة به والتي تميزه عن غيره. وإن هذه الثقافة القومية لاعلاقة لها بالتعليم، حيث تسري في نسيج الامي الذي لم يذهب الى المدرسة.
والثقافة عبارة عن مجموع أنساق القيم التي أبدعها الشعب عبر تاريخه الممتد. ومرورا بفصول الكتاب التسعة يحاول المؤلف التأصيل للشخصية القومية المصرية في سياق عدد من الظواهر الإجتماعية المتحدية للفناء عبر الأزمنة، وعبر الأماكن، وعبر الاختلافات الدينية والمذهبية مثل الموالد وزيارات الأضرحة.
يفسر الكتاب هذا الأمر على اعتبار إن شعبنا مؤمن بالتعددية، وإن الحضارة المصرية حضارة اتصال، وإن تعدد الأولياء هو امتداد لتعدد الآلهة حيث كان اتباع آمون يحتفلون مع اتباع "رع"، واتباع ايزيس يحتفلون مع اتباع حتحور....الخ. وإن ظاهرة الموالد رغم مظهرها الديني تؤكد على ان الثقافة المصرية ثقافة اتصال، وذكر مثالين على هذا الأمر، الأول يتعلق باحتفال شعبنا بمولد سيدي الحجاج بالأقصر، حيث إن ضريح هذا الولي مقام داخل مسجد، وهذا المسجد مقام على جزء من معبد الإله آمون. وكما كان الإله آمون يخرج من معبده مرة كل عام في سفينته المقدسة فيطوف أرجاء مدينته التي يتولاها بحمايته، فان سيدي ابو الحجاج يخرج هو ايضا مرة كل عام.
أيضا اطلق شعبنا المعاصر على السيدة زينب بعض من الصفات التي اطلقها جدودنا القدماء على الإلة ايزيس مثل صفة الطاهرة من بين صفات عديدة. كما ان علاقة شعبنا بالاولياء تمتد جذورها الى الحضارة المصرية القديمة، والمتأمل في ظاهرة إرسال خطابات بالشكوى من الظلم الى الأولياء سواء عن طريق البريد أو داخل صندوق الضريح يستطيع بسهولة أن يكشف عن الصلة بين الإمام الشافعي كقاض يرأس المحكمة الباطنية كما يعتقد في هذا بعض مرسلي الرسائل من المصريين المسلمين وبين الإله اوزير كقاض لمحكمة الإله الأعظم في مدينة الأموات التي يرأسها.
كذلك انتقلت مكانة الآلة المصرية في فترات التحول في تاريخنا المصري بعملية توفيقية الى الأنبياء والقديسين ثم إلى الأوليا.
وظاهرة الأمثال الشعبية المصرية تؤكد أيضا على مسألة إن الحضارة المصرية حضارة اتصال، ويستشهد الكتاب بالكثير من الأمثال الشعبية ذات الجذور المصرية القديمة منها على سبيل المثال: يحذر الحكيم بتاح/حتب من البخل ويدعو الى الاستمتاع بمباهج الحياة فيقول" إقض اليوم في سعادة، إن احدا لن يأخذ متاعه معه في رحلة الغرب"، ويستخدم المصري كلمة الغرب كناية عن الموت، وهو ذات المعنى الذي صاغه المصري بعد آلاف السنين بقوله " الكفن مالوش جيوب، وكذلك ساعة الحظ ما تتعوضشي".
وخاطب الملك خيتي ابنه قائلا " لاتجعل عقيدتك في طول الحياة الدنيا، ولا تغتر بها، فان وقت الحياة الدنيا قصير، ولا يبق للانسان في آخرته إلا عمله، فهو أي العمل كما الكنز الثمين". والمصري المعاصر يردد المثل الشائع ما ينفع الإنسان إلا عمله. ويقول أحد الحكماء المصريين " لاتقولن لا أحمل خطيئة فليس بين يدي الإله انسان كامل، وهو نفس المعنى الذي صاغه المصري الحديث في المثل الشائع" الكمال لله وحده، وآخر يقول الحلو ما يكملشي....الخ.
المصري على وجه العموم يحتفظ بشخصيته وبتقاليده. وهناك صفات مميزة للشعب المصري ينفرد بها دون غيره منها خاصية الجذب والصهر، اجتذبت مصر عبر العديد من الأجيال العديد من البشر من كل جنس ولون، جاؤها غزاة، فاتحين، تجار،أو مغامرين مهاجرين، استقروا بها وذابوا فيها، فتكلموا عاميتها، وبرعوا فيها كأهلها، ومارسوا عاداتها، وعاشوا مصر حتى النخاع، حتى لايكادون يميزون عن أهالها، ولايستطيعون أن يميزوا انفسهم عن المصريين.
وعن احتفالات المصريين وخصوصيتهم الثقافية يفرد الكتاب فصلا كاملا يوضح فيه مدى شغف المصريون بالاحتفال بالأولياء ويشترك في ذلك المسلمون والمسيحيون، لإنهم أبناء ثقافة قومية واحدة تعود جذورها الى الاحتفال بالآلهة المصرية. المصريون المسلمون يحتفلون بمولد النبي محمد بينما العرب لايحتفلون بهذه المناسبة، حيث يرى الاصوليون إنها بدعة ضارة!. كما إن الاحتفال بعيد رأس السنة من ابداع الحضارة المصرية، وإن المصريون القدماء كانوا يحتفلون بعيد ميلاد الطفل بعد مرور عام على ولادته، وهذا التقليد أخذه اليونانيون من مصر ثم انتقل الى اوربا.
يستعرض الكتاب الكثير من المناسبات التي احتفى بها المصريون في مصر القديمة وما يزال صداها قائما حتى يومنا هذا مثل عيد ميلاد الشمس (عيد شم النسيم)، وفي عيد قيامة اوزير يقومون بزرع شجرته (عيد شجرة اوزير) الذي يوافق 24ديسمبر 15 كهيك وما يزال موجودا يتم الاحتفال به في نفس الموعد لدى طوائف عديدة من المسيحيين في شتى بقاع العالم تحت المسمى الحديث شجرة الكريسماس.
وكذلك ظاهرة السخرية المصرية التي تعود جذورها الى مصر القديمة حيث سخر مؤلف الاساطير المصرية من أحد الآلهة الكبار "رع" فوصفه إنه كبير السن، بدأ يخرف، يخرج الرذاذ من شفتيه ويترك لعابه يتساقط على الأرض. وقد عثر علماء الآثار على الكثير من البرديات والجداريات تشهد بوجود فن الكاريكاتير في مصر القديمة، وفي فن الجرافيك الكثير من اللوحات الساخرة من حكام الأقاليم. وتظل قصة شكوى الفلاح الفصيح الواقعية نستخلص منها التشابه بين القديم والحديث، مثل العدل أساس الملك، وقال الحكيم آني لإبنه، " ابتعد عن أهل السلطة تسلم"، وفي عصرنا الحديث نقول "ابعد عن الشر وغني له".
كما إن هناك الكثير من الأمثال التي عبر بها مبدعها الامي على رفض الظلم الذي يسببه أي نظام مستبد مثل "حاميها حراميها"، جبناكي ياحكومة تحمينا حميتي النار وكويتينا". وعبر شعبنا عن شعوره بالظلم في زمن صلاح الدين، فاذا اراد المصري ان يسخر من شخص قال له "بطل استكراد" نظرا لجنسية صلاح الدين الكردية.
الكتاب في مجمله محاولة جادة لسبر غور شخصية ملايين المصريين البسطاء الذين لم يتغول التعليم الحديث الاحادي النظرة والموجه من قبل السلطة في السيطرة على عقولهم ومسخها، وكذلك هؤلاء المصريون الذين لم يغير النفط الخليجي، ولامواسم السفر الى الخليج اضطرارا وطلبا للرزق نتيجة لتدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية من قيمهم المصرية الأصيلة المتسامحة الايجابية لحساب قيم البداوة الصحراوية التي تشجع وتدعم التعصب واحادية النظرة، والجفاء، والقبلية، والانحياز الذكوري الأعمى ضد المرأة وسلبها هويتها وكرامتها.
الكتاب محاولة جادة في سبيل استعادة الهوية المصرية المفقودة (عن قصد سياسي باهت). ومحاولة لتأصيل وترسيخ هوية المصري الأصيل، وتسامحه، وايمانه بالتعددية، واختلافه عما عداه من شعوب المنطقة، وقد نحج الكتاب في ربط ماضي المصري القديم الذي انقضى منذ الآف السنين بحاضره الواقعي بمنتهى الذكاء والدهشة. حتى لو كانت بعض الفصول والعناوين المتأخرة للكتاب تحمل تكرارا ومضامين ربما تبتعد قليلا عن الفكرة المركزية للكتاب، لكن يظل هذا الكتاب نصا ابداعيا مدهشا يحمل درجة كبيرة من التنوير والابداع الفائق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر