الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القلق؛ فعل فكّر ومسألة الشعور :دراسة فلسفية

احسان طالب

2017 / 9 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل القلق مسألة وجود في الوجود ؛ القلق الذاتي كأحد مبررات الوجود وما مدى ارتباطه بالتفكير ؟ هل القلق أحد أدوات الوعي و التفكير الوجودي ؟

الشعور وفعل فَكر

” لا يمكن أن نسأل عن الكون دون أن نسأل عن ماهية الإنسان” مارتن هايدغر



ينتقل الإنسان خلال تطوره العقلي من مرحلة ردود الانفعال المنبثقة من عقله الباطن ، أي استجابة غير واعية للحواس والمشاعر والأحداث ـ إلى مرحلة الاستجابة الواعية المنبثقة من منطقة الإدراك التي تتحول لأداة تحكم بالسلوك كلما ارتقت وزادت معارف الإنسان وعلومه ، وبالمقابل عندما تضمحل ثرواتنا المعرفية والثقافية يزداد اتكاؤنا على رقعة العواطف والوجدانيات ، الجميل هنا أن بعض انفعالاتنا وردود أفعالنا اللا إرادية تكون خيرة وايجابية ـ كتقديم الصدقة مباشرة بعد رؤية محتاج ـ ومرد ذلك لتربيتنا السليمة في مراحل الطفولة المتقدمة جد ا، أليس مستغربا أن يبدأ وعينا بالشعور ويرتكز إدراكنا عليه أيضا ، لدرجة أن تصبح مشاعر كالقلق والخوف والسأم محرضات لتفكيرنا ، فلا نفكر بما لا نشعر به ولا نشعر بما لا نفكر به وكأنه مبتدأ ونهاية ، أي تفكيرنا مرتكز على شعورنا، أية حقائق تلك التي ستقر بوعينا وأية مشاعر هي التي ستسيطر على منهج تفكيرنا، إذا كان وجودنا واقعة والعالم انفتاح وجود لواقعة ، فوجودنا مرتبط بهذه الواقعة ، قلقنا من عدم الاستمرار وخوفنا من خطر يهددنا بالزوال يجعلنا نشعر بالخوف من الموت بما أنه حقيقة ، يرتبط المفهوم بتحديدنا لمعنى الزمن، هل هو فعلا شيء نظري موجود اقتراناً بالحركة وبدونها يفنى كما عند هيراقليطس أو أنه ذو أصالة داخلية كما عند هايدغر ، يرى ابن رشد الزمان صيرورة ،كان وكائن وسيكون ، لا تلزمه الحركة ولا يحيطه المكان فهو كلي وربما ماهوي ، الوجود الإنساني وعي بالعالم وبذاته وبالزمان كصيرورة ، “تواصل بين الكائن والآخر، وتواصل بين زمانية الكائن وتاريخيته” فالشخص هو الذي يقرر طريقة وجوده بنفسه، فهو المسؤول عن ذاته، وهذه الخاصية يكون فيها الموجود غالبًا مستغرقًا في عالم الاهتمام، ويعني نسيان حقيقة الوجود، والإشراق في الوجود مع الآخرين” (10) وعي العالم والآخرين من خلال وعينا لذاتنا ، ومعرفة العالم بدءً من معرفتنا لنا ، أي الوجود الإنساني محور لوعي الوجود الكوني ، فبالنهاية يرتكز جدوى الفلسفة على قدرتها على إعادة الإنسان لوعيه ليكون منطلقا لتفكيره، حيث لا تكون نتيجة توظيف معارف سببا لتدمير الفرد والمجتمع والعالم.

“ الغرض من الفلسفة تكوين ملكة تهيء الفيلسوف أن يعيش حتى لو فرض وألغيت كل الشرائع كما كان يعيش وعي قائمة” ارسطبس

الأفكار مادة أولية مدفونة في أعماق الوعي تؤهل العقل لإدراك المعاني وكشف الحقائق ، وهي كالذهب و النحاس والنفط وما شابهها لا تدخل حيز النفع إلا بالخروج للعلن وبالاستخدام الصالح حتما. عندما يكون الخروج واعيا ، لكنه أحيانا يكون خروجا تلقائيا قد يصح وصفه بلا شعوريا، فيأتي مدمرا أو قد يأتي ايجابيا حسب غلبة؛ بل أفضلية الخير أو الشر أو الفضيلة الراسخة في عقلنا الباطن ، لذلك يصبح للمنابر ومنصات النشر والتعليم قيمة إضافية بارتباطها بمدى تأهيل البشر، ولما كانت ـ حسب تقديري ـ كل سلوكيات البشر وردود أفعالهم وأفعالهم الواعية تنطلق من الطاقة المتولدة ضمن منطقة اللاوعي المتشكلة من تربية وتعليم وخبرة مختزنة ، ومخيلة مجتمعية متحكمة ، ومن منطقة الوعي المبنية من إرادة امتلاك العلم والفكرـ المعرفة ـ ووجود مادة توليد الطاقة وأقصد التفكير ،مرورا بالشعور كمحرض للتفكير كان واجبا إدراك أهمية تأثُرنا المباشر واللاإرادي بما نتعلم وما نبحث عنه وما نعتقد بصوابه، ما يردنا للاهتمام بالمشاعر المولدة للأفكار ـ الوجدان ـ تلك هي منصة ذات فاعلية قصوى يفترض التنبه لقدرتها على توليد أفكار مرتبطة بما خلفته المشاعر من انطباعات عن فكر بذاته ومفاهيم بذاتها ، كي نتمكن من امتلاك مفاتيح التحليل والفهم لما يجري في حياتنا كأفراد ومجتمعات، حتى ندرك الهدف والقصد والغاية قبل الحركة والسعي والعمل ، فكم من تحركات عفوية متمردة تمنينا لو أنها ما خرجت وكم من أخرى أصابت ـ خاصة تلك المحرّضَةُ من مشاعر خيّرة كحب الكرم والمروءة والتعاطف مع الضعيف والمظلوم ، حقا تسكن الغرابة الشديدة عالم الكوجيتو أنا أفكر إذن أنا موجود ، وأنا أفكر إذن أنا المفكر فيه ، أنا في تعيين آنيتي ومعرفتي لأهمية وجودي أنطلق لإدراك الآخرين والعالم من حولي ، فأنا أنت، ومجموع نحن وهم . هكذا تغدو حياتنا جملة معارف تصنعنا ونصنعها ، وبتمام أو قرب تمام معرفتنا لنا ووعينا بالأنا ، نكون أقدر على فهم حريتنا باعتبارها مفهوماً بنيوياً وجودياً وعقلياً مجردا.

لنفهم أو لندرك مكانة المشاعر كمولدة للأفكار علينا الاقتراب من هايدغر كأحد الفلاسفة الذين أسسوا للوجودية بمنهاج تطبيقي بارع للغاية يقبل تعدد الرؤى وصرامة تحديد المصطلحات وإنشاء المفاهيم حتى غدا بتقديري من أكثر المنتجين للمفاهيم بعد العصر القديم للفلسفة ” وركيزة فكره بعض المشاعر التي لا ترتبط لا بهذا الموضوع الجزئي أو ذاك ، بل بالوجود بصفة عامة وأحواله : القلق والهم والألفة ، السأم ، العزلة ، الدهشة ، الضيق ، فمشاعر من هذا القبيل هي التي تجلو ماهية العالم … المعطى ، أو الوجود الفعلي هو الوجود في العالم ، وليس المقصود بذلك مجرد التعاطي مع الأشياء الخارجية التي تحيط بنا بالشعور بالوجود في كلية الوجود”(11)

فنظرية المعرفة تنطلق بالضرورة من نظرية الوجود، فهو الحقيقة المطلقة التي لا خلاف على جوهريتها في كل معرفة ، ولما ندرك أهمية ومحورية وجودنا وسط العالم والعالمين من حولنا نبدأ بتحديد اختياراتنا من الخيارات الممكنة، أعطى هايدغر الوجود كما يتجلى وسيتجلى مصطلح ” الدازاين ” وأولاه أهمية محورية بالغة في كتابه ” الكينونة والزمان ” وبالمنهج الظاهراتي يكون الدازاين هو الوجود كما يظهر أي يكشف عن ذاته وكما سيكشف، وعليه يستطيع الإنسان فهم وجوده من خلال فهم الدازاين وعلاقته به فإذا نجح الإنسان في فهم وتقرير وجوده بالدازاين يصل إلى حالة التسامي والانسجام بالوجود أي الألفة مع الوجود كعائلة أما حالة الفشل فهي اللاتسامي المفضي إلى الكأبة ، نلاحظ هنا أن الدازاين حالة وجودية لكل موجود أو شخص بالوجود وتاليا الإنسان في حالة الدازاين والأشياء حولة أي العالم.

المعنى الحرفي لكلمة دازاين تعني الوجود الحاضر أو الوجود المقابل لللاوجود، وهي كلمة ألمانية مكونة من مقطعين :

DASEIN الدازاين كلمة ألمانيّة مكونة من كلمة DA بمعنى هناك و SEIN بمعنى يكون. .

ويستخدم هايدغر هذه الكلمة للدلالة على كينونة الموجود الإنساني أو كيفيّة وجوده؛ أي الإنسان من حيث هو الكائن المنفتح على الكون في تغيّره وعدم استقراره، وهذا يعني أنّ الدازاين يختلف عن سائر الكائنات من حيث أنّه ينجز كونه، فماهية الإنسان إذن، وجوده وحقيقته نزوعه إلى ما يريد أن يكون، فهو من يصنع ذاته بذاته ويجاوز بفعله حدود الواقع وينفتح على العالم.”(12)

يقول هايدغر في مقابلة تلفزيونية شهيرة مختصرا فلسفته وتعريفه: : سؤال الكون وبسط هذا السؤال يفترضان بالضبط تأويلا للدازاين، أي تحديدا لماهية الإنسان. والفكرة الأساسية لتفكيري هي بالضبط أن الكون وبالتالي انفتاح الكون يحتاج إلى الإنسان، وأن الإنسان لا يكون بدوره إنسانا إلا لأنه يقيم في انفتاح الكون. بذلك يجب أن يكون قد تم الحسم في السؤال: إلى أي حد اهتممت فقط بالكون ونسيت الإنسان. لا يمكن أن نسأل عن الكون دون أن نسأل عن ماهية الإنسان.

يستعمل هايدجر هذا المفهوم للدلالة على الإنسان من حيث إنه الكائن المنفتح على الكون، ويعني ذلك أن الدازاين يختلف عن كل الكائنات الأخرى من حيث إنه ينجز كونه ـ عالمه ـ ، وبذلك تكون له علاقة بكونه وبكون الكائنات الأخرى. وحيث أنه ينجز كونه، فهو لا يتوفر على خصائص بالمعنى المتداول للكلمة، بل إن “خصائصه” هي كيفيات لكونه (13) ” الدازاين له ضروب عدة في أن يكون ذاته وأشكال في أن يعاني عدم استمرار ذاته ؛ حيث يتحول إلى شخص آخر متعددة في أن يحافظ على استمرار ذاته مثلما أنه له ضروبا عدة لا يكون ذاته ، وأشكالا عدة… هو الكائن الذي هو أنا نفسي في كل مرة ، الذي كينونته هي لي في كل مرة ” (14) هكذا تغدو المفردة مصطلحا ملحاً في الظهور المتكرر، لما أصبح مركزا تدور حوله عديد المفاهيم الأخرى، ويغدو بيانه وكشف مكنوناته ضرورة لجلاء الفهم ووضوح التأويل.

ما الخوف ؟

“وما القلق الا حالة الخوف المطلق أمام العراء المطلق”

حالة حيوية تدفع الكائن الحي للفعل أو الكف عنه، والخوف سمة عقلية عاطفية فالمجنون لا يخاف وميت الإحساس لا يخاف ، وهو شيء مختلف تماما عن الجبن رغم تشابه تأثيرهما ، فالجبن أيضا قد يكون مثبطا أو محفزا، والخوف نقيض الاستقرار العقلي والعاطفي، خلاف الاطمئنان النفسي والعقلي ، والجَسُور يطرح الخوف جانبا فينسى وجوده ، والجريء أو الشجاع يتغلب على مخاوفه. مع إدراكه لوجودها ، ولا علاقة للخوف بالخير والشر ، بقدر ارتباطه بالتربية والتعليم والتدريب والوعي ، فالكائن الحي يخاف مما يجهل ، أجمل الخوف وأروعه خوف الورع والتقي الصادق الكامن خلف عيون الناس ودون رقابة المجتمع. ربما من هنا جاءت الحكمة الشهيرة رأس الحكمة مخافة الله .فقيم الخير مقدمة لاجتناب الشرور، ومحفز لفعل الخيرات ، ولعل جماعة التصوف ارتقت أو بالغت في تجاوز مسألة الخوف من العقاب أو الرغبة بالثواب ليصبح فعل الخير مجردا إلا من حب وصفاء نفس ، هكذا يمكننا فهم المقولة المأثورة عن رابعة العدوية : اللهم اني ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكنني عبدتك لأنك أهلا لذلك. وليس في ذلك استغناء أو لا مبالاة بقدر ما هو وعي وإدراك ل حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق بعيدا عن الخوف وتعاليا عن المنفعة. مر معنا أهمية الشعور وارتباطه بالتفكير والوعي ومدى سيطرته على بنيوية ميكانزما تفكيرنا ، فعملية إنتاج الوعي داخل النفس باعتبارها شق عقلي لإدراكاتنا المنتجة لوعينا بالأشياء والموضوعات وبالمقام الأول بذاتنا ومن ثمة وجودنا ووجود العالم من حولنا، الخوف مثلا واحد من مشاعر وجدانية ـ القصد أنها مرتبطة بمسألة وجودنا ـ كان لها على مدى تاريخ الإنسان تأثيرات متباينة بناءة وأخرى سلبية ، بيد أنه عند هايدغر يأخذ بعداً مختلف كلية فهو تعبير عن انهمام بقضية البداية والنهاية لوجود الأنا ـ الدازاين “

” الإنهمام ـ القلق ـ هو مفهوم متميز عند هيدجر لأنه يعبر عن تجربة خوف يعيشها الإنسان في مواجهته للتناهي والشعور بالضياع في العالم وانتفاء القيمة واصطدامه بالعدم وليس مجرد خوف من مخاطر واقعية تهدد الحياة الإنسانية بالانتفاء، كما يعبر الانهمام عن تجربة الوجود نحو الموت … يتجلى الوجود الزائف للدازاين في مظاهر القلق والشعور بالغربة والتباعد والسقوط واللغو والالتباس والتوسط والتأثر الوجداني وهي مظاهر فردية رغم اندراجها ضمن مظاهر جماعية مثل الناس والشعب والحشد والحياة اليومية فإنه يمكن رفع هذا الوجود الزائف وإلغائه نحو الاهتمام المستبصر… كما يتضح الوجود الحقيقي للدازاين في مظاهر الخوف والهم والانهمام والقلق والعدم والوجود في العالم وهي مظاهر تتجاوز وتتعالى على الوجود الزائف وتعبر عنها تجارب الوجود من أجل الموت والضمير والذنب والتصميم والتاريخية والزمانية والنداء والحضور والانعطاء” (15)

لقد تحول المعنى من مجرد شعور نفسي يهم بالمقام الأول علم النفس إلى فكرة جوهرية لتعلقها بماهية وجود الإنسان، وعلة ـ سبب محرض ـ لأفعال الفكر بالإحساس أو الصور ـ قبلية كانت أم ظاهرة واقعة ـ فلإدراك الحسي أو الحدس الحسي مقدمة ومرحلة لبلوغ الحدس العقلي ، فبالرغم من ظهور تناقض بينهما إلا أن قضية الإدراك الحقيقية لا تتم بأحدهما دون الآخر ولم تستطع مدرسة فلسفية ما في إنهاء دور أي منهما أو حتى تكاملهما، حتى المثل الفطرية ما هي في حقيقتها إلا صور قبلية وتصورات فطرية لا بد لها في النهاية من إدراك بصري بالنظر إلى اعتبار العقل الكلي لا حاجة له إلى الاحساس ـ أي الحواس ـ لأنه تخطى وجودها ولم يعدم وجودها.

الألم واللذة:

” عندما نقول إن اللذة هي الغاية لا نقصد الكلام عن لذة الفساق والماجنين ” أبيقور 341 – 270 ق.م

الألم جزئي وكلي، بمعنى ؛ كمفهوم مجرد هو كلي متعدد الطبقات ومختلف الصفات ، وباقترانه بصفة أو بطبقة أو بعضو يغدو جزئيا، وباستقراء المفاهيم الجزئية يمكننا استنباط المعنى الكلي.

الألم حالة نفسية عصبية ذات منشأ عضوي أو نفسي أو عقلي، بمؤثرات خارجية وداخلية وأحيانا تكون العوامل والمؤثرات النفسية بالغة القدرة وضخمة التأثير بما تتفوق به على المؤثرات العضوية ، يصيب جزءا أو فردا ثم يتعدى للكل أو المجموع، من السهل مكافحة الألم ذو المنشأ العضوي، ومن الصعب معالجة الآلام النفسية فهي أشد إيلاما وأعقد مداواة ، لكنها قابلة للعلاج خاصة مع تطور الطب النفسي والعقاقير النفسية، ومعرفة أسباب العديد من الأمراض العصبية كالصرع مثلا.

الألم العقلي: قد يبدو للكثيرين غريبا أو غير موجودا ! والواقع يكشف عن آلام يسببها التفكير المركّز أو صعوبة الوصول لحلول لمأزق فكري أو عقلي بعد طول جهد، الألم العقلي يبدأ بالظهور والنمو من تطور التفكير وعمق الأفكار، وكثيرا ما يستحوذ على الجسد أو الرأس بعد بلوغ حفريات الفكر لمناطق لا يريد كثيرون الوصول إليها بل ويخشون كثيرا بلوغها. وفي مرات أخرى يظهر الألم مع التناقض الفج بين القناعات والسلوكيات. هل المقصد هو التخلص من كل ألم أيا كان مصدره أم القصد هو الوصول للذة ، كثيرا ما تترافق اللذة بالألم والعذوبة بالعذاب، فالمتبتل يتلذذ بألم العبادة للوصول ويستهين بمشقة الحصول ـ حصول الرضا ـ وما العذاب والألم في سبيل الأعلى المحبوب إلا لذة مقصودة .

عرف أبيقور أخلاق اللذة بهذه الكلمات ” ليست بهجة الحياة لا في الشراب ، ولا في لذة النساء ، ولا في فاخر الموائد وإنما في الفكر الزاهد الذي يميط اللثام عن أسباب كل شهوة وكل نفور ويطرد الظنون والأحكام الخاطئة التي تعكر صفو النفوس.” (16)

لقد بات مفهوم اللذة والألم مختلفا نوعا ما عن الشائع والمشهور ، فقصدية اللذة معيار لمعرفة علة اللاذ وعلة المؤلم ـ كما مر معنا ـ وهي سبب لحصول السعادة والطمأنينة النفسية، إن الجهود الجسدية أو التفكيرية ترافقها آلام، بيد أنها في عديد المرار تفضي للوصول إلى اللذة كونها غاية أولية لغاية أسمى ، وقد تكون المتعة أو اللذة غاية بنفسها وتبقى مع ذلك مرحلة وسيطة ؛ بمعنى لذة الاستمتاع بالجماع مقصودة بذاتها وهي هدف مُرام قبل غيره ، وبالنظر إلى نتائج العملية وكيف ستنعكس في الغالب العام راحة نفسية ونشاطا جسديا ما يساعد على نقاء العقل وراحة النفس ، دون نسيان ما تعنية ممارسة الجنس من حفظ للنوع. فلسفة اللذة هي التحرر من الألم وبلوغ المتعة بما هي حاجة طبيعية ونفسية، الحاجات الطبيعية تلبية لضرورات عقلية وجسدية ، فلكل غاية أولية أو وسطى غاية أعلى ، فالصوم ألم هدفه تحقيق لذة الطاعة والتدرب على قيم التعاطف ، كما هو ألم بغاية بلوغ لذة الأكل والشبع لأقصاها، علاقة جدلية بين تراتب الغايات للوصول لغاية أولية لا بَعد لها ، المعرفة غاية نهائية للعقل البشري وبذات السمت غاية أولية لفهم الوجود والبحث عن جوهره وغايته حتى ولو كان بلا غاية ، يسعى الإنسان للألم كما يسعى للذة وكل منهما سبب لحصول إشباع أو تلبية لشهوة تتمظهر بصورة، متغيرة كل مرة، مرتبطة بالتجارب السابقة والتصورات المخزونة ، فرؤية طفل جائع تؤلم، وصورة أخرى ـ قبلة بين شاب وفتاة ـ تحرك شهوة مفضية للذة ـ صورة من الانفعال أي شعور بحالة اللذة ـ أحيانا ذات المشهد ينعكس متناقضا ، مشهد موت عدوك المفترض في المعركة يؤدي لانفعال يدخل الفرح ذات المشهد على المقلب الآخر، رد فعله معاكس تماما ، إذن كي نفهم ببعد فلسفي ننظر بتجرد لمبعث الانفعال ورد الفعل، هنا نلاحظ علاقة جدلية بين المشاعر المرتبة للإحساس بل وبالمخيلة أيضا ـ استحضار الواقعة و الصور وفق تصور مسبق ـ ندرك أهمية المعالجة العقلية لتحديد موقف الجسد وتحريكه باتجاه احساس بذاته ، مثلا حادثة أو واقعة أو مشهد تحرك حدسا عقليا ما يرجع حالة شعورية ما ليطلق حكما مرتبطا بحدس حسي مسبق بناء عليه تتحدد طبيعة الشعور. إذن الأحاسيس ليست مستقلة أو معزولة إلا بالتحليل الفلسفي في حين هي بالواقع مختلطة ومتداخلة ، ويستمر دائما عودنا للظاهراتية التي تبنّْت الشعور كمحرض للتفكير وتاليا فالمشاعر فعل تفكير ينتج منه حدس عقلي ذاتي ـ أي هو مختلف من فرد لآخر ويكون متطابقا أو متشابها بين مجموعة ـ يصبح مؤثرا كحدس حسي مباشر كلما تكرر عرض الصورة والمشهد في الواقع وفي الذاكرة والخيال.

هل من علاقة بين الموت واللذة ؟ وهل القلق من النهاية يبعث على استجلاب مزيد من اللذات والانغماس فيها راهنا ؟ وهل من الممكن أن تكون فكرة إسعاد الغير لذة بذاتها ؟ متى تكون التضحية بالحياة نهاية لإشباع وامتلاء ما بعده غير الفراغ والعدم ، في حين تصبح التضحية بالروح فداء ـ لوطن ، قيمة ، فكر ، انقاذ آخر ـ بدافع رغبة مسبقة بإسعاد الغير أو بسعادة ما بعد الحياة ، أي بدافع لذة مفضية للسعادة ؟ كلها أسئلة منطقية تتكامل إجاباتها وفق سياق فلسفي يبحث في معرفة وثيقة بالإنسان وما يمكن تقديمة كي يصبح محور التدقيق والتحقيق فتكون وجوديته ماضيا وراهنا ومستقبلا مبعثا لمنع استغراقه بعبودية ميتافيزيقية تصطنع مشاهد للعب بمشاعره وتحويلها لردود أفعال متسقة لمنتجات وسلع تدعي قدرتها على تحقيق سعادته ومنع شقائه في حين أنها تتركه نهبا لمشاعر وانفعالات مفتعلة مدروسة وفق مناهج أيديولوجية واستهلاكية . ” شهوات تقوم تصورات فارغة ” .

“ نعم أعرف نفسك لعلك تعرف أي مدى يمكنك تنغمس في لذائذ الحياة من غير أن تتجاوز الحد الذي تنقلب عنده اللذة ألما ” الفيلسوف ارسطبس القرن الخامس قبل الميلاد (17)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل