الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زوجان واثنتا عشرة قصيدة

ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم

(Majid Alhydar)

2017 / 10 / 2
الادب والفن


زوجان.. واثنتا عشرة قصيدة!
ترجمة وتقديم: ماجد الحيدر

يحفلُ تاريخ الثقافة والأدب الغربيين بالعديد من النماذج التي اجتمع فيها الحب أو الزواج مع الإبداع الأدبي المميز لكلا الزوجين. ولعل من أشهر تلك النماذج الشاعرة الانكليزية الشهيرة إليزابيث باريت براوننغ (1806-1861) وزوجها الشاعر والمسرحي الكبير روبرت براوننغ (1812-1889) اللذين جمعتهما قصة حب جميلة خلدتها مجموعة من أروع قصائد الحب ورسائله في تاريخ الأدب الانكليزي. كما عرف تاريخ الأدب والفلسفة في فرنسا الثنائي الفلسفي والثقافي الأبرز في القرن العشرين سيمون دو بوفوار (1908-1986) و جان بول سارتر (1905-1980) اللذين تزاملا وترافقا وعملا معا وارتبطا برباط لم يحله الموت نفسه (دُفنا كما هو معروف الى جانب بعض).
لكن حكاية (بل قل مأساة) العلاقة الأدبية والزوجية العاصفة الغريبة بين الشاعرة الأمريكية الأشهر في القرن العشرين سلفيا بلاث (1932-1963) وزوجها الشاعر الانكليزي الكبير تيد هيوز (1930-1998) تختلف عما سواها من قصص وحكايات بسبب الخاتمة المريعة التي آلت اليها بانتحار بلاث في أوج شبابها وعطائها الأدبي، الأمر الذي أثار رد فعل جماهيري وإعلامي كبير وجعل أصابع الاتهام تتجه نحو هيوز وتحمّله مسؤولية انهيارها وانتحارها.
رد الفعل هذا وما رافقه من جدلٍ وتساؤلات لم يتوقفا الى الآن وبرغم كل تلك السنوات الطوال: ما الذي دفع سلفيا بلاث، الشاعرة المتألقة والروائية الواعدة والأم الشابة الجميلة للتفكير بالانتحار وتنفيذ فكرتها هذه المرة (فقد سبق لها أن حاولت ذلك وفشلت في سن العشرين) بكل هذا التصميم والهدوء والاتقان إن صح التعبير؟ هل هي الكآبة المتأصلة في نفسها بسبب عذابات طفولتها؟ هل هو التوق الغريب الى إلقاء النفس في أحضان ذلك المجهول الذي ما فتئ يتردد ثيمةً أساسية في شعرها؟ أم أن للأمر علاقة مباشرة بالمأزق الذي وصلت اليه علاقتها مع زوجها؟

سلفيا

عُرفت أعمال سلفيا بلاث، الشاعرة والقاصة الأمريكية التي ولدت لأبٍ من أصل ألماني وأم من أبوين نمساويين، بخيالاتها الوحشية وانهماكها في مواضيع الموت والاغتراب وتدمير الإنسان لذاته، لكنها لم تحز شهرتها إلا بعد انتحارها حيث تنامت شعبيتها ومكانتها حتى عدت مع حلول السبعينات من القرن الماضي واحدة من أعظم الشعراء المعاصرين.
في مقتبل عمرها هيمنت عليها رغبة شديدة في كتابة أشياء متميزة تفوق بها أقرانها فكان أن نشرت أول قصائدها ولمّا تزل في الثامنة من عمرها (السن الذي فقدت فيه والدها مما ترك أثراً عميقاً في شعرها وفي نفسيتها وفي حياتها اللاحقة). دخلت العديد من المسابقات الأدبية وفازت فيها وحصلت عام 1955 على منحة دراسية في كلية سمث ثم غادرت الى جامعة كامبرج في بريطانيا في منحة مماثلة حيث التقت بهيوز (الذي كان قد سبقها الى الشهرة) في إحدى حفلات كامبرج عام 1954.
أصدرت عام 1960 أول أعمالها المهمة (الصرح العظيم وقصائد أخرى) وهو مجموعة من الأشعار كتبت بين عامي 1956 و 1960 كشفت عن أسلوبها البارع الدقيق الشديد الخصوصية، ثم أردفتها عام 1963 بروايتها الوحيدة (الناقوس الزجاجي) التي أشار بعض النقاد الى أنها تأثرت فيها برواية سالنجر الشهيرة (الحارس في حقل الشوفان) وتصف فيها الانهيار العقلي لفتاة جامعية تتعرض لضغوط الحياة في الولايات المتحدة مما يدفعها الى محاولة الانتحار (كما فعلت هي ثلاث مرات).
أما الأعمال التي نشرت بعد وفاتها فتشمل (آرئيل) عام 1965 وهو ديوانها الأشهر الذي عده النقاد أفضل أعمالها التي عكست هواجس الموت واستغراقها المتزايد في الذات وواحدا من أهم الأعمال الشعرية في القرن العشرين،، ثم (أشجار الشتاء) و (عبور الماء) عام 1971 ثم (رعب جون وإنجيل الأحلام) 1977 وهي مجموعة من القصص القصيرة والقطع النثرية، و (المرآة السحرية) 1989 إضافة الى عدد من كتب الأطفال والمراسلات كما فازت "الأعمال الشعرية الكاملة لسلفيا بلاث" بجائزة "بولتزر" لعام 1982، وهو الكتاب الذي أعده "تيد هيوز" بنفسه.
تبدو بلاث في شعرها ونثرها مسكونة بفكرة الموت "الموت حرفة، وأنا أتقنها بشكل استثنائي... نحن دائما نشتهي الأمور الأخرى، اليوم المقبل، الفصل الجديد، وما هذه كلّها إلا شهوة الموت".
وعند حديثها عن أبرز الأدباء الذين أثروا في حياتها أشارت بلاث إلى ييتس وروبرت لويل و أودن وديلان توماس علاوة على آن سيكستون (1928-1974) التي تبدو شديدة الشبه بها سواء في أجوائها الشعرية أو في اضطراباتها النفسي أو في حياتها القلقة المعذبة التي وضعت لها حداً، هي الأخرى، بالانتحار (بغاز عادم السيارة).

هيوز

أما تيد هيوز (الذي تحمّل طيلة حياته اللوم والنقد سواء من الحركات النسوية الذي رأت فيه "الذكر العدو" و"قـاتل المرأة" أو من أنصار ومعجبي سلفيا بلاث الذين حملوه مسؤولية موتها) فكان رجلاً من طينةٍ أخرى وذا طبيعةٍ تختلف تماماً عن بلاث، برغم الحب العظيم الذي جمع بينهما: ولد هذا الشاعر الفذ في عام 1930 وبدأ بإثارة اهتمام القراء والنقاد عند صدور مجموعته الشعرية (الصقر في المطر) عام 1957، ليأخذ مكانه بعدها كواحد من أهم الشعراء الإنكليز في النصف الثاني من القرن العشرين (حمل لقب شاعر البلاط منذ عام 1984 حتى وفاته) وأصدر عشرات الكتب في الشعر والنقد والمسرح وأدب الاطفال منها (الغراب) ، (أزهار وحشرات) ، (الكلاب) ، (منزل الحمير) ، (وقت صناعة الشعر) والعديد من الترجمات ليهودا عميخاي ولوركا واسخيلوس ويوربيديس وراسين، كما وتحولت قصته المكتوبة للأطفال "الرجل الحديدي" إلى فيلم سينمائي شهير.
يرى الشاعر الايرلندي الحائز على جائزة نوبل للآداب شيموس هيني Seamus Justin Heaney (1939-2013) في هيوز شاعراً للبصيرة ذا إحساسٍ عال، ارتقى بفنية القصيدة وحلق بأجوائها، ويصفه بأنه "كان وصياً على الارض في شعره، مثلما كان وريثاً للغة شكسبير ووليم بليك وتعبيريتهما، وأضاف إليها نضجاً معاصراً وحسية خلاقة، كما أنه أحد أهم الشعراء الذين كانوا مسكونين بمصير هذا الكوكب في قصائده".

حكاية عاصفة

بعد أربعة أشهر فقط من تعارفهما وبداية قصة الحب العاصفة بينهما، تزوج الشاعران وبدأت بينهما شراكة (ومنافسة) أدبية واعدة فسافرا الى الولايات المتحدة ليقوما بالتدريس في جامعاتها ثم عادا عام 1960 الى انكلترا ليبدأ زواجهما بالتفكك ثم الانهيار بعد عامين وبعد انجابهما لطفلين (فريدا ونيكولاس) وذلك في أعقاب تزايد شكوكها بعلاقته مع زميلتها الشاعرة آسيا ويفيل، فإذا بالحياة السعيدة التي وصفتها في إحدى يومياتها: (العيش مع تيد شبيه بالاستماع إلى حكاية سرمدية. إن عقله لامع وخياله عظيم).‏ تستحيل بروداً وجفاءً يدفعها للكتابة في مكان آخر من يومياتها (نحن الاثنان غريبان لا يكلم أحدهما الآخر)
في عام 1962 انفصل الزوجان لتعيش سلفيا مستقلة مع طفليها في ظروف صعبة رغم أنها شهدت كتابتها لأفضل أعمالها التي تميزت بالحرية والذاتية والصراحة الشديدة والأسلوب المتمرد الى أن وضعت حدا لحياتها منتحرة بالغاز في الحادي عشر من شباط 1963 في مطبخ منزلها بأن حشرت رأسها في الفرن بعد أن وضعت مناشف مبللة تحت الأبواب الخشبية حتى لا يتسرب الغاز إلى باقي أرجاء المنزل وأغلقت غرفة الأطفال كي لا تصل رائحة الغاز إليهما، تاركة طعام الإفطار لهما عندما يستيقظان من النوم"

لعنة الانتحار

لعنة الانتحار التي رسمت محطات كبرى في حياة هيوز لم تفارقه بموت سلفيا، فبعد ستّة أعوام على انتحارها وعلى تولّي آسيا ويفيل، الزوجة الجديدة التي ترك هيوز سيلفيا من أجلها، رعاية الطفلين نيكولاس وفريدا، قرّرت هي الأخرى الانتحار بدورها مع ابنتها شورا، البالغة من العمر أربعة أعوام وبطريقة مشابهة، مستخدمة جهاز الغاز.
وفي شهر آذار- مارس من العام 2009 أقدم نيكولاس الابن الوحيد للشاعر تيد هيوز من سيلفيا بلاث على الانتحار في منزله بولاية الاسكا بعد أن عانا من الكآبة الشديدة.

رسائل عيد الميلاد

تجنّب تيد هيوز على مدى سني حياته، الكلام الصريح عن موت سلفيا. لكنه في كتابه الاخير (رسائل عيد الميلاد) المنشور في عام 1998، كسر صمته سعياً، كما يبدو، لتأكيد حبّه لها وإيضاح جوانب من حياتهما معا. وكان لهذا الكتاب الذي كتب في تقديمه "إلى سيلفيا بلاث بشخصيتها الجميلة: بلاث الشاعرة" دور كبير في تحول آراء شطر كبير من القراء والنقاد منه، لأنها أظهرت وكرّست صورة الرجل المحب الوفي لزوجته بدلاً من صورة الرجل الكاره المتسبب بموتها.‏
حظي الكتاب بالكثير من الإعجاب كونه منجزا شعريا متكاملا ينتمي إلى أحد أبرز الأساليب الكتابية التي عرف بها هيوز، من ناحية الشكل واللغة والصور الشعرية والنظرة الفلسفية الى العالم
ما نجده في "رسائل عيد الميلاد" أيضا يمثل اتجاهاً راديكالياً متحولاً آخر، ففي قصائده البالغ عددها 88 نجده أكثر مأساوية وعاطفية ودرامية من أي عمل سبق لهيوز أن أنجزه خلال رحلته الشعرية والأدبية اللامعة.
وفي الجانب الآخر هناك في الكتاب صورة بلاث المرأة التي أحبها إلى أقصى درجة، فقصة حبه لها لم تمت بموتها، ولكنها استمرت ستة وثلاثين عاما بعدما غادرت بلاث عالمه بلا رجعة. إنها قصة حب معقدة، تعكس رقة متناهية، واحتراما إنسانيا. قصة استمرت طويلا وامتزج فيها مع مرور الزمن، الغضب، والإحباط، والشفقة، والضياع. وفوق هذا فإن الإنجازات الكتابية التي حققها هيوز في هذا الكتاب جعلته يختصر فيها كل مشاعره العبثية والفوضوية في إطار العلاقة الزوجية الغريبة.

بلاث-هيوز، حكاية لا تنتهي

الاهتمام بحياة بلاث (التي أصبحت في الغرب أشبه بقديسة وشهيدة للأدب المعاصر أو أيقونة تمثل الشاعرة المتمردة المعذبة) وبقصتها مع هيوز لم يخبُ رغم مرور السنين، وكثيرا ما يعود الى دائرة الأضواء في كل حدث ثقافي أو فني أو إعلامي يتعلق بهما مثلما حدث عام 2011 عندما جرى الاحتفال بوضع حجر تذكاري يحمل اسم هيوز في زاوية الشعراء بكنيسة ويستمنستر وسط العاصمة البريطانية لندن بعد ثلاثة عشر عاما من رحيله الى جوار أحجار مماثلة لعدد من أعظم شخصيات الأدب البريطاني مثل "تشارلز ديكنز" و"صامويل جونسون" و "روديارد كبلنغ" و "ت. س. اليوت" و"وليام بليك" و اللورد "تينيسون" و"روبرت براوننغ"، أو كما حدث عام 2003 عندما انتج فيلم انكليزي عن حياتها بعنوان "سيلفيا" أدت فيه "غوينيث باترو" دور بلاث الى جانب "دانيال كريغ" في دور هيوز حين اتهمت ابنتهما فريدا صنّاع الفلم بالسعي الى جني الأرباح من مأساة أمها.


سلفيا بلاث – ست قصائد
(1)
آخر الكلمات

لا أريدُ صندوقاً عاديّاً
أريدُ تابوتاً من حجرٍ
بِخطوطٍ كجلدِ النمورِ
ووجهٍ مستديرٍ كالقمرِ كي أحدِّقَ فيه
أريدُ أن أراهُم حين يجيئونَ ..
ينقّبونَ عن الجذورِ
بين المعادنِ البكماءَ.
بل أكادُ الساعةَ أراهُم :
بوجوهِهِم الشاحبةِ البعيدةِ كالنجوم.
هم الآنَ لا شيءَ، ولا حتى أطفال
أخالُهم دونَ آباء أو أمهات
مثل الآلهة الأولى.
سيتساءلونَ عن أهميتي
علي أن أُحَلِّيَ أيامي وأحفظَها كالفاكهة !
مرآتي تغيبُ في الضباب
بضعةُ أنفاسٍ وتنطفي تماما.
الزهورُ والوجوهُ تستحيلُ ملاءةً بيضاء.
أنا لا أثقُ بالروحِ
إنها تفرُّ كالبخارِ في الأحلامِ
من ثقبٍ في الفمِ أو ثقوبٍ في العيون.
ليس في وسعي إيقافُها
ويوما ما لن تعودَ.
لكنَّ الأشياءَ ليست هكذا
إنها تبقى ببريقها الخصوصيِّ الصغير
الذي يُلهِبُهُ كُثرُ الاستعمال
وتكادُ تُخَرخِرُ كالقِطط
وحين تبردُ أخامِصي
ستمُدُّني أعينُ فيروزاتي بالعزاء.
دعوني أستصحِب أوانيَ مطبخي النحاسيةَ
لسوف تُزهِرُ قدوريَ الحمراءُ كأزهارٍ ليليَّةٍ عَبِقة
ستلُفُّني بضماداتٍ ، ستحفَظُ قلبي
في رُزمةٍ أنيقةٍ تحتَ أقدامي.
سيصعُبُ عَلَيَّ أن أعرفَ نفسي
في الظلامِ الدامسِ
وبريقُ هذه الأشياءِ الصغيرة
أحلى من مُحَيّا عشتار

(2)
أغنية حب الصبيّة المجنونة

أغمضُ عيني فيخرُّ الكونُ ميتا
أفتح أجفاني فتولَدُ الأشياءُ من جديد
(أظنُّ أنني صنعتُك في رأسي)

تَخرجُ النجومُ لترقصَ الفالسَ
بثيابٍ حمرٍ وزرق
ويعدو الظلامُ مقتحما كيفما شاءَ
أغمضُ عيني فيخرُّ الكون ميتا

حلمتُ بأنك أغويتَني للسريرِ
وغنّيتَ لي ذاهلا
قبَّلْتَني في جنون
(أظن أنني صنعتك في رأسي)

تهوي الآلهةُ من السماء
تنطفي نيرانُ الجحيمِ
وتَخرجُ الملائكةُ وحاشيةُ الشيطانِ
أغمضُ عيني فيخرُّ الكون ميتا

خِلتُ أنكَ عُدتَ كما وعدت
لكنني شختُ ونسيتُ اسمَك
(أظن أنني صنعتك في رأسي)

كان الأجدرُ بي
أن أعشقَ طائرَ الرعودِ
فهو في الأقل
يهدرُ عائدا في الربيع
أغمض عيني فيخر الكون ميتا
(أظن أنني صنعتك في رأسي)




(3)
شكوى الملكة

وسطَ صخَبِ رجالِ البِلاطِ وعِراكِهم
يبدو هذا العملاقُ الذي تضَخَّمَ ،صدِّقْني، على مشهدٍ منها
بيديهِ اللتينِ كالرافعاتِ..
يبدو مفترسا وحالكاً كالغُداف (1)
عجباً.. كلُّ النوافذِ تكسَّرَتْ
حين دخلَ في خُيَلاء.
قد صالَ هائجاً في أطيانها الخلاّبة
وعذَّبَ في قسوةٍ حماماتِها الوديعة.
لا أعرفُ أيَّةَ نوبةِ غضبٍ مسعورةٍ
دفعَتْهُ لذبحِ ظبيِها الذي لم يؤذِهِ بشيء.

كانت تملأُ أذنيهِ بالمَلامِ
حتى تأخذُهُ ببكائِها بعضُ رحمةٍ
فيروحُ يُعَرّي أكتافَها
من ثيابِها النفيسةِ
ويغويها.. لكنه يهجُرُها
مع صياحِ الديك.

قد أرسلَتْ ألفَ رسولٍ
ليستدعوا الى حضرةِ ازدرائها
كلَّ قويٍّ شجاعٍ
يُمكِن لقوَّتِهِ أن تُلائِمَ
شكلَ نومِها.. شكلَ تفكيرها
لكنَّ أحداً من أولئكَ الأغرارِ الكُثر
لم يضارعْ تاجَها المشرق
فانتهت الى هذا المأزقِ الغريبِ
الذي تخوضُ فيه في الدماء
تحتَ الشمسِ وعواصفِ المطر
وتغني لكم هكذا:
كمْ مُؤسِفٌ أن أرى شعبيَ
ينكمشُ الى كلِّ هذا القَدْرِ
كلِّ هذا القدْرِ
مِن الضآلة !


(4)
طلوع القمر

ثمارُ التوتِ البيضاء كاليرقات
تحمَرُّ بين أوراق الأشجار
ونسَغُ تموز يكوِّرُ حلماتها.
سأخرجُ وأجلسُ مثلهم دون عملٍ..
في بيضِ الثياب.
هذا المتنزهُ سمينٌ يعجُّ بالتويجاتِ الغبية.
أزهار الكاتالبا البيضاء تعلو ، تَسقطُ (2)
وتلقي في موتها ظلاً مستديراً أبيضَ.
ثمةَ حمامةٌ تديرَ الدفّةَ الى الأسفل
بَراعةُ بياضِ ذيلِها المروحيِّ تبدو كافية :
فتحٌ وإغلاقٌ للتويجاتِ البيضاء ،
والذيول المروحية البيضاء.. عشرة أصابع بيضاء.
كفى الأظفار صنعاً لأهلَّةٍ
تحمرُّ في راحات أكفٍّ بيضاءَ لا تحمرُّ من عمل.
الأبيض يتخدش ويتلون كي لا ينهار.
حبات التوت تحمرُّ. وكتلةٌ من البياض تتعفنُ
وتفوح عفونتُها من تحت شاهِدِ قبرِها
رغم أن جسدَها ينسحبُ احتجاجاً
ملتفاً في ملاءاته البيضاء.
أشمُّ ذاكَ البياض هنا.. تحت الشواهد
حيث تُدحرِجُ النمالُ الصغيرةُ بيوضَها
وحيث تسمنُ الديدانُ.
قد يبيَضُّ الموتُ في الشمس أو بعيدا عنها.
قد يبيَضُّ الموت.. في البيضةِ أو خارجها.
لا أستطيع أن أرى لوناً لهذا البياض.
البياض: أنه سحنة للعقل.
أنني اتعب من تخيُّلِ نياغارات بيضاء (3)
مبنيةٍ من جذور صخرة
كما تنبني الينابيع قبالة الصورة الثقيلة لسقوطها.
لوسينا أيتها الأم التي بان منها العظم (4)
يا من يأتيها المخاض وسط النجوم البيضاء
المزودة بمقابس كهربائية ،
وجهك المجبول من صدقٍ ونقاء
يكشط اللحم الأبيض حتى بياض العظم.
أيتها التي جرجرت آباءنا الأولين من أعقاب أقدامهم
متعَبين .. بيض اللحى.
التوت يصير أرجوانيا وينزف
والبطن البيضاء قد تنضج فوق ذاك.


(5)
سونيتة الى الشيطان

في غرفةِ التحميضِ المُظلِمةِ داخلَ عينيك
يتَشَقْلبُ العقلُ القَمَريُّ ليَصنعَ نسخةً مزوَّرةً للكسوف؛
والملائكةُ المضيئةُ يُغمى عليها فوقَ أرضِ المَنطِقِ
تحتَ مصاريعِ كاميراتِ عجزِها وعَوَقِها.
تأمرُ المذنباتِ الشبيهةَ بنازعاتِ السَدّاداتِ اللولَبيّة
بأن تَنفُثَ الحبرَ
لتُسَخِّمَ العالَمَ الأبيضَ في الأسفلِ في طوفانٍ مُدَوِّم ،
تُعَتِّمُ جُندَ السماءِ النهارِييّن بكلِّ مراتبهم
وتُحيلُ صورةَ الربِّ المشرقةِ الى ظِلال.
والحيّةُ المتسلِّقةُ في ذلك الضياءِ المُعاكِسِ
تغزو العدسةَ المتوسِّعةَ للخَليقةِ
لتَطبَعَ صورتَك الملتهبةَ في موضعِ الوِلادةِ
بحروفٍ لا يقدرُ فجرٌ على طمسها.
آهٍ يا صانعَ الصور السالبة للكوكبِ السَيّار
احجبٍ الشمسَ الحرّاقةَ
حتى تكفَّ الساعاتُ كلّها عن الحَراك.


(6)
آثارُ الحريق

يتسكّعونَ ويحدِّقون
وقد جذبهم مغناطيسُ الكارثةِ
كما لو أن البيتَ الذي احترقَ كان بيتَهم
أو أن فضيحةً ما سَتنضَحُ في أيّةِ لحظةٍ
من الخزانةِ المختنقةِ بالدخانِ .. خارجةً نحو الضوء.
لا وفياتٍ .. لا جروحَ خطيرة
تُشبِعُ هؤلاء الصائدين الساعين الى لحمٍ بائتٍ
أو آثارِ دمٍ لهذي المآسي المريعة.

أُمُّنا ميديا.. وسطَ هالةٍ من دخان أخضر (5)
تتنقَّلُ بانكسارٍ كما تفعلُ أيّةُ رَبَّةِ بيتٍ
في أرجاءِ شقَّتِها المدمَّرة
وتقدِّرُ خسائرَها
من الأحذيةِ المتفحمةِ .. والستائرِ ..
والأثاثِ المنَجَّد المُشبَع بالماء.
أما الحشدُ الذي خُدِع عن الخرابِ والحريقِ
فيمتصُّ آخرَ دموعِها .. ويغادرُ المكان.

تيد هيوز – ست قصائد

(1)
سقوطُ الغراب

حين كانَ الغرابُ أبيضَ
قررَ أن الشمس مسرفةٌ البياض.
ارتأى أنها تسطعُ ببياضٍ مفرط.
وقررَ أن يهاجمها وأن يهزمها.
واستجمع بأسه، وحميّاه
وفي كمال بهائه
شقَّ الريحَ
نافخاً ريشَ غيضهِ
وسدد منقاره نحو القلب منها.
وضحك من أعماق قلبه
وانقضَّ عليها.
من صرخة حربهِ شاخت الأشجار فجأةً
والتصقت الظِلالُ بالأرض.
بيدَ أن الشمسَ زادت سطوعاً.
سطعتْ وعاد الغراب
فاحماً، مجللا بسخامِ الحريق.
وفتح فاهُ ، لكن
لم يخرج منه.. غير فاحم السواد.
...
-"هناك"
قال بالكاد
-"هناك حيثُ الأبيض أسود، والأسودُ هو الأبيضُ،
كنتُ أنا الفائز !"


(2)
مصّاص الدماء

يكادُ ضيوفُك أن يسَرّوا
لتطفّلهِ، لقدومهِ دون دعوةٍ.
أنظر كيف تبرقُ عيناه لرؤية الويسكي
وكيف يدفع ظُرفُه الصُحبةَ
كي يقعوا من طولهم
كمن ضربته صاعقه.
وها أنت تدهش، تتساءل
من أين جاء بكل هذه الطاقة؟

لكن، وفي اللحظة عينها،
هنا، بعيدا تحت أعماق الأرض
تحرّكُ هذي الجثةُ المتفسخةُ
كفنَها ، وتشرعُ بالانتفاخ

"توقف، توقف، توقف لأجلِ الله! "
تصرخ ودموعك تنهمل
لكنه يمضي ويمضي دون رحمة
حتى لتظنَّ أن أضلاعَك
توشك أن تتصدع

بينا تلوي هذي الجثةُ عينيها
وقد خيطت الى كلاّبةِ الامتحان (6)
وعصارةٌ من دمٍ
تزحف الى خصلاتها
كما العقاربُ

ها أنت تتضرعُ، تدفعُ عن نفسك،
تترنح، تتخبط بصوته المجنون
حتى يختنقَ، فجأةً، ويسعل دماً
ويغادر مرتعشاً بعد لحظاتٍ، لترتمي أنت
في حضنٍ كرسيٍّ،
بارداً مثل ورقة
وقلبك بالكادِ ينبض.

وعميقاً
تحت أعمق أحجار المدينة
يتفجر هذا الكيسُ المكشّرُ
ناثراً دمك.

(3)
الغرابُ تخونه أعصابه

الغراب، إذ يشعر أن عقله يفلت منه،
يرى كلَّ ريشةٍ
أحفورةً متحجرةً لجريمةٍ.
من قتل كل هؤلاء؟
هؤلاء الموتى الأحياء، الضاربين جذورهم
في دمه وأعصابه
حتى صار بيّن السواد؟
وكيف سيقدر أن يطيرَ عن ريشه؟
ولماذا لم يتخذوا مسكنهم إلا عليه؟
أ هو أرشيف لاتهاماتهم؟
أم نواياهم الشبحية، وتوقهم للانتقام؟
أم سجّانهم غير المغفور له؟
...
الأرضُ سجنهُ
فهيهات أن ينالَ الغفران.
هو ذا يطير متثاقلاً
متسربلاً بأدلّةِ إدانته،
جاهداً
كي يتذكرَ جرائمه!

(4)
خطُّ النَسَب

في البدءِ كانتِ الصرخةُ
الصرخةُ ولدَتِ الدمَ
الدمُ ولَدَ العينَ
العينُ ولدت الخوفَ
الخوفُ ولدَ الجَناحَ
الجناحُ ولدَ العظمَ
العظمُ ولد الصوّانَ
الصوّانُ ولدَ البنفسجَ
البنفسجُ ولدَ القيثارَ
القيثارُ ولدَ العرَقَ
العرقُ ولدَ آدمَ
آدمُ ولدَ مريمَ
مريمُ ولدتِ الربَّ
الربُّ ولدَ اللاشيءَ
اللاشيءُ ولدَ كَلاّ أبداً أبداً
كَلأ أبدا ولدَ الغراب
الذي يصرخ من أجل الدَمِ،
الديدان، كِسَرِ الخبر
أيِّ شيء
ترتعشُ مرافقهُ العارية من الريش
في قَذَرِ العش.


(5)
فحصٌ عند بابِ الرحم

من يملكُ هذي الأقدامَ الصغيرةَ الهزيلةَ؟ الموت.
من يملكً هذا الوجهَ الشائكَ المسفوع الجلد؟ الموت.
من يملك هاتين الرئتين اللتين لم تتوقفا عن العمل؟ الموت.
من يملك هذه السترة النافعة من العضلات؟ الموت.
من يملك هذي الأحشاء البشعة؟ الموت.
من يملك هذا العقل المشكوك بأمره؟ الموت.
من يملكُ هذا الدم الغارق بالفوضى؟ الموت.
من يملك هاتين العينين بالحد الأدنى من الكفاءة؟ الموت.
هذا اللسان الصغير المولع بالأذى؟ الموت.
هذه اليقظة العرَضية؟ الموت.

المحاكمة المقامة أو المسروقة أو المعلَّقة؟
أجريت.

من يملكُ كل هذي الأرض الممطرة الحجرية؟ الموت.
من يملك كل هذا الفضاء؟ الموت.

من أقوى من الأمل؟ الموت.
من أقوى من الإرادة؟ الموت.
أقوى من الحب؟ الموت.
أقوى من الحياة؟ الموت.

ولكن، من أقوى من الموت؟
أنا، بكل وضوح.

شقَّ طريقك يا غراب!

(6)
أغنية حب

أحبها، وأحبته.
وكانت قبلاته تمتص كل ماضيها، كل غدها،
أو تحاول ذاك.
ما كان يشتهي سواها
وكانت تعضه، تقضمه، تمتصه،
تريده أن يرقد في أعماقها
كاملاً، آمنا، راسخا الى أبد الآبدين.

صرخاتهما الصغيرة كانت تهز الستائر.
عيناها ما أرادتا تفويت شيء.
نظراتها كانت
تسمّر يديه، معصميه ومرفقيه.
في قوة كان يضمها
كي لا تنزعها الحياة
من تلكم اللحظة.
أراد للمستقبل كله
أن يتوقف عن الحراك.
أراد أن يهوي وذراعاه يطوقانها
من شفا تلكم اللحظة
صوب العدم، صوب الخلود، أو صوب أيما شيء.

عناقها كان مطبعة هائلة
تدمغه في عظامها.
بسماته كانت غرفاً علوية
في قصورٍ من حكايات الجان
لا يأتيها عالم الصحو.
وبسماتها عضات عناكب
تشله فيرقد دون حراك
حتى تشعر بالجوع.

كلماته كانت جيوش احتلال،
وضحكاتها محاولات اغتيال.
نظراته كانت طلقاتٍ ، خناجرَ انتقام.
لمحاته كانت أشباحا في الزوايا
تخفي مرعب الأسرار.
همساته كانت سياطاً وأحذيةً عسكر ثقال،
وقبلاتها.. محامين عاكفين على التدوين.

تربيتاته كانت آخر الخطاطيف
لغرقى ألقاهم اليم الى الشطآن.
حيلها الغرامية كانت أقفالاً ترسل الصرير،
وعميق صرخاتهما تزحف على أرضيات الغرف
كحيوان يجرجر فخاً عظيماً.

وُعودُه كانت عكام جراح، (7)
ووعودها تنزع قمة قحفه
لتصنع منها دبوس زينةٍ.

أَيمانه كانت تنزع أوتار أحشائها
ليريها كيف تُصنع أنشوطة الغرام، (8)
وأيمانها تنقع عيناه في الفورمالين (9)
في قعر دولابها السري.

صيحاتهما علقت بالجدار.
رأساهما كانا ينفصلان عن النوم
كنصفي بطيخة مشطورة،
بيد أن الحب عصي على الإيقاف.

في نومهما المتشابك
كانا يتبادلات الأذرع والسيقان،
وفي أحلامهما كان دماغاهما
كل يحتجز الآخر رهينة.

وفي الصباح
يلبس كل منهما
وجه الآخر.

هوامش

1- الغُداف : الغراب الأسود الكبير.
2- شجرة ذات أوراق كبيرة على شكل قلب
3- Niagara : الشلال العظيم المعروف قرب الحدود الأمريكية الكندية.
4- lucina إلهة القبالة والتوليد في الميثولوجيا الرومانية.
5- ميديا : في الميثولوجيا الاغريقية، أميرة ساحرة ساعدت "جاسون" في مغامرته لسرقة الجزة الذهبية من والدها ملك "كولخيس" مضحية بأخيها لانقاذ حبيبها وزوجها الذي يهجرها (في مسرحية يوربيديس) من أجل ابنة كريون ملك كورنثه فتنتقم ميديا بقتل كريون وابنته وولديها هي من جاسون.
6- الامتحان (ordeal) طريقة بدائية لمعرفة براءة المتهم أو جرمه بإخضاعه الى ضروب من المخاطرة أو الألم إذا نجا منهما عدَّ بريئاً.

7- العكام (gag) : آلة يضعها الجراح في فم المريض ليبقيه مفتوحاً.

8- عقدة أو أنشوطة الغرام .(lovers knot) عقدة مميزة (غالبا ما تكون معقدة الشكل) من الذهب أو الفضة أو القماش تضفر أحيانا في شعر الرأس أو تلبس كحلية أو قلادة وترمز الى الوفاء والبقاء على الحب.
9- الفورمالين: محلول كيميائي تحفظ فيه عينات الجسم أو أجزائه المستأصلة.

مصادر :
1- محب جميل، في ذكراها.سيلفيا بلاث شاعرة احترفت الموت حتى الانتحار، http://www.dotmsr.com/
2- لميس علي، الموت.. فن..سليفيا بلاث وتيد هيوز.. ثنائي الشعر والحب، http://thawra.sy/_-print-_veiw.asp?FileName=96388772620111128231208
3- عباس محسن (مترجم) ، بين شاعرة انتحرت وأخرى ستنتحر ولدت صورة الشاعر الوحش، http://www.alarab.co.uk/?p=46517
4- كرم نعمة، هيوز يفاقم الجدل حول حياته بعد 13 عاماً من مماته، http://www.middle-east-online.com/?id=121617
5- إليف شافاق، مقتطفات من كتاب حليب أسود، http://raffy.ws/page/370
6- https://en.wikipedia.org/wiki/Sylvia_Plath
7- https://en.wikipedia.org/wiki/Ted_Hughes
8- http://www.poemhunter.com/ted-hughes/
9- http://www.poemhunter.com/sylvia-plath/
10- http://www.poetryfoundation.org/poems-and-poets/poets/detail/ted-hughes
11- http://www.poetryfoundation.org/search?q=Sylvia+Plath
12- https://en.wikipedia.org/wiki/Anne_Sexton








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما