الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على خطى يسوع-11- من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر أولا

طوني سماحة

2017 / 10 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أوقفوها في الوسط. كانت كل العيون مثبتة عليها. كانت شبه عارية بعدما أمسكوها في ذات الفعل. جروها من الفراش. أطلقوا شريكها حرا وأتوا بها مقيدة الى الهيكل. كانوا يكيلون لها الشتائم والإهانات. كانت تشعر في ذلك الوقت أنها أشبه بالبهيمة. وضعت رأسها في الأرض وتمنت لو ان الأرض تبتلعها. حتى الدموع خانتها. كانت ترتجف وترتعد شعورا منها بالعار وخوفا من الذل والموت. كانت تتوقع ان يشق الحجر الأول رأسها في أي لحظة. كانت كلمة زانية تتبعها مثل ظلها. وقف الرجال حولها مثل الجزارين. كانت لحاهم الطويلة تهتز تحت شفاههم وهم يصيحون مثل البرابرة "ارجمها، ارجمها". خلعوا عمائمهم ورموها على الأرض غضبا. داسوا عليها. للحظة بدا وكأن شرف الامة مجتمعا كان مرتبطا بهذه المرأة. بدت اللحظات ساعات. نادت في سرها وقالت "أسقط أيها الحجر. أسقط وارحمني. فج رأسي. أخرج الدم من جبيني ليغسل عاري. خير لي أن أسقط في يد الموت من أن أسقط بيد هؤلاء الرجال. خير لي أن يعانقني الموت من أن أحيا هذا الذل وهذه الاهانات. خذني أيها العدم. خذني من هذا العالم. خذني من براثنهم، هؤلاء الذين نهشوني البارحة لحما، يرمونني اليوم جيفة. هؤلاء الذين بادلوني الحب البارحة يشربون دمي اليوم. أسقط عليّ أيها الحجر، وخذني من عالم الاحياء الى عالم الأموات. ليتني لم أولد لأحيا هذه اللحظة. ليت أمي لم تحبل بي. ليتني مت عندما ولدتني امي. كان خير لي ان اموت بريئة لحظة الولادة من ان اموت آثمة وقد عشت العمر بأكمله.

رفعت عينيها خلسة وهي ترتعد. بدا لها وكأنها أصبحت شبه صماء كفيفة. كانت أصوات الرجال تحيط بها مثل عاصفة هوجاء، لكنها لم تكن تفهم شيئا مما يقولونه. كانت أجسادهم المسعورة تشبه الاشباح الراقصة وأياديهم الممسكة بالحجارة تبدو وكأنها تراقص الموت. لكن، وفي مشهد متناقض، هناك في الوسط، وقف رجل كانت العيون تشخص إليه. كان هادئا وصامتا. كان ينظر الى الجميع دون ان ينطق بكلمة. كانت الحجارة تنتظر الأمر منه كيما تتساقط عليها مثل حبات المطر. كانوا يهتفون وكان ما يزال صامتا. تمنت لو أنه يفتح فمه وينهي هذه المعاناة "هيا أيها الرجل، قل كلمتك فأنا ما عدت أستطيع الاحتمال. قل كلمتك مهما تكن قاسية، فوقع الحجارة عليّ أكثر رحمة من نظرات هؤلاء الرجال. ألم الحجارة أخف من شتائمهم. الموت أسهل من هذا العار عليّ. هيا أيها الرجل، قل كلمتك وأنهِ هذه المعاناة."

تقدم الرجل خطوة. نظر اليهم جميعا. هدأت الحجارة في أيديهم. اقترب منه شيخ القوم وهو يحمل الحجر الأكبر. صمت الجميع. قال له الشيخ "يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟" صمت الجميع بانتظار الجواب. كانت المرأة في الوسط تجهل أن هذه المحاكمة هي للإيقاع به أكثر منها بها. كانت تجهل أن الحجارة في أيديهم كانت تريد أن تستهدفه بالدرجة الأولى قبل أن تستهدفها. كانت تجهل أنهم يريدون موته أكثر منها. بل لو هي بقيت على قيد الحياة، لكانوا أكثر فرحا، إذ أنها سوف تبقى مصدر لذة ومتعة لهم. أما هو فصوته يقلقهم، يرعبهم، يخيفهم. صمتَ الرجل. صمته كان دليلا على وقوعه في الفخ. فلو أمر برجمها، لناقض نفسه ونسف رسالته، رسالة التوبة والرحمة التي كان يبشر بها، إذ أنه هو القائل "أما ابن الانسان فقد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك". وإن هو أمر بإطلاقها، يكون قد حارب الناموس، ناموس موسى والأمة، وهو القائل "ما جئت لأنقض بل لأكمل". طال صمته، شعروا بنشوة النصر. بل ها هي الحجارة تتأهب للسقوط عليه ما أن ينطق بكلمة تبدو لهم تجديفا. رأوه ينحني الى الأسفل. بدا وكأنه قد هزم. انفرجت اساريرهم. هدأت قلوبهم. لقد اصابوا اليوم عصفورين بحجر واحد. امرأة ترجم حتى الموت ورجل هز الامة بتعاليمه يقع في فخ دهائهم. نظروا إليه، أما يسوع فقد ابتدأ يكتب على الأرض. ماذا تراه يكتب؟ أتراه يوقع صك الحكم عليه؟ أعجز عن النطق، فلم يجد طريقا للهرب سوى بالكتابة على الأرض؟

اقترب الشيخ من يسوع ليرى بعينيه الكتابة. وقف هنيهة. طال وقوفه. انتظر الجميع منه ان يرمي الحجر الأول كيما يكون ذلك إيذانا لهم بالرجم. لكن الحجر لم ينطلق من يده نحو هدفه المنشود. أطال الرجل النظر الى الأرض. نظر اليه يسوع أولا ثم الى الجمع وقال "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر أولا". عاد يسوع ونظر الى الشيخ الذي كان ينظر الى الكتابة. عندها وقع الحجر من يده وانصرف. ذهل الجميع. لماذا مضى الشيخ؟ لماذا لم يطلق الحجر الأول؟ لماذا لم يقل لهم شيئا؟ اقترب الجميع واحدا تلو الآخر. نظروا بدورهم الى الكتابة. رموا الحجارة أرضا وانصرفوا هم أيضا واحدا وحدا. لم يبق في الوسط سوى يسوع واقفا والمرأة منحنية، أما في الخلف كان التلاميذ واقفين مع جمع من اليهود يشاهدون ما يحدث. تقدم يسوع الى المرأة، غطّاها بردائه، أمسك بيدها، رفعها وقال لها " يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ" فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ، يَا سَيِّدُ!». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا".

مضت المرأة. كانت قد ولدت من جديد. حصلت على حياة جديدة. عمرها الماضي كان ضياعا. كان معجونا بالزنا، مجبولا بالعار، موصوما بالعيب، مكتوبا بالذل، منقوشا بالشعور بالذنب. مضت لتكتشف عمرا جديدا، لتولد من جديد، لتحيا. أدركت أنها كانت في الماضي ميتة حتى ولو كانت تتنفس وتأكل وتشرب وتحيا. أدركت أنها كانت تحيا في الظلمة دون أن تدري، وها هي اليوم تولد تحت نور الشمس. نظرت الى يسوع. كانت تريد أن تقول شيئا. لم تخرج الكلمات من شفتيها. كانت تريد أن تشكره، لم تقدر على الكلام. مضت وقد تركت ذلها وعيبها وإثمها وخطيئتها عند قدميه. أتوا بها ليقدموها ذبيحة للموت، فإذ بها تعود أدراجها حية، نقية. أما أولئك الذين أتوا بها ليذبحوها، فقد عادوا أدراجهم أكثر تلوثا من ذي قبل. مضت المرأة وهي تسمع يسوع يقول لتلاميذه واليهود "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ". أدركت أنهم أتوا بها مقيدة في الليل وأنها عادت حرة، طليقة يشع نور العالم من قلبها وعينيها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
nasha ( 2017 / 10 / 14 - 23:06 )
لا استطيع ان اقول الا رائع
لأول مرة افهم مغزى وحكمة هذه الواقعة بعقلي وعواطفي
فعلا حكمة إلهية لا تقبل المجادلة.
العقل والمنطق المجرد من العواطف لا يكفي للتعبير عن الواقع ويبقى ناقص دون إدخال العواطف في الواقع الفعلي.
تحية من القلب ومن العقل للأستاذ طوني


2 - رائع
طوني سماحة ( 2017 / 10 / 15 - 02:15 )
تحية أخي الحبيب ناشا
روعة القصة مردها الى السيد الذي حول حادثة يشوبها الرغبة في الاذاء والموت الى فرصة للحياة والرحمة. أنا أيضا احني رأسي أمام روعة هذا المعلم الذي أعطى الحياة معنى جديدا. واقبل مني ايضا تحية من القلب والعقل


3 - يكتب على الأرض
معلق قديم ( 2017 / 10 / 15 - 15:11 )
أول مرة أفهم ما قصده متى الانجيلي بـ(يكتب في الأرض)...شكرا أستاذ طوني

لعل المقصود هو

1) أنكم تبررون الرجم بما في كتبكم القديمة التي تعزونها لله..أما أنا اليوم فأكتب لكم كتابا جديدا أفضل مما عندكم..ساوى نفسه بمعطي الكتاب القديم

2) الكتاب الجديد لم يكتب على رقوق وبرديات بحروف لغة قديمة لا يفهمها إلا اليهود لأن الحرف يقتل
كتابي يراه فقط من أراد من البشر من كل جنس ومن كل جيل


بهذا ساوى نفسه بالله وكذلك ساوى بين اليهود أول المختارين وباقي شعوب الدنيا باشارة يفهمها من أراد أن يفهم


4 - يكتب على الارض
طوني سماحة ( 2017 / 10 / 15 - 23:19 )
أخي -معلق قديم
من الصعب التأكد مما كان يكتبه يسوع على الارض اذ ان الانجيلي لم يذكر ذلك، لكن هناك شبه توافق بين المفسرين انه كان ربما يكتب خطايا الشيوخ الذين ربما كانوا من شركائها في فعل الزنا، وما كان انسحابهم سوى تحاشيا لتبيان فضائحهم
قد يكون ما ذكرته انت ايضا في سبيل الوارد، لكن ما يهم، أنه بغض النظر عما كتب يسوع، ، أن القضية تحولت من قضية دينونة الى قضية رحمة ومن قضية موت الى قضية حياة.
أشكرك على مشاركتك القيمة ولك مني كل التحية

اخر الافلام

.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية


.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في




.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك




.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر