الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فخ المديونية في العراق

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2017 / 10 / 18
الادارة و الاقتصاد



للسنة الخامسة على التوالي ستتكبد الموازنة العامة للدولة العراقية عجزا كبيرا بمليارات الدولارات في العام المقبل. لم يُكشف حتى الأن عن مشروع الموازنة لعام 2018 وكل ما تسرب من أرقام هي مجرد تقديرات عمومية تفتقر للتفاصيل. فقد ذكر د. مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء في تصريحات صحفية تناقلتها وسائل الإعلام أن "الموزانة تقدر من 100 إلى 110 ترليونات دينار". لكن الشيء المؤكد هو أن جزءا كبيرا من هذه النفقات التقديرية لن تستطيع الإيرادات المحدودة تغطيتها الأمر الذي يعني اتساع الفجوة المالية المستمرة منذ عام 2014. وإذا كانت الأرقام المعلنة داخليا لا تجيب على التساؤلات الكثيرة عن وضع العراق المالي، فإن رئيس الوزراء حيدر العبادي كشف في خطاب النوايا الذي وجهه إلى صندوق النقد الدولي في 23 تموز/يوليو 2017 عن وجود تحديات كبيرة لا تزال تعترض الاقتصاد العراقي، من بينها العجز المالي الذي يهدد بأن يصبح ظاهرة "عادية". تتوقع الحكومة العراقية بموجب خطاب النوايا أن يصل العجز في نهاية هذا العام إلى 11,4 ترليون دينار (ما يقارب 10 مليارات دولار). ومقارنة بحجم الميزانية البالغ 93,4 ترليون دينار فإن نسبة العجز تزيد عن 12%. وهو رقم كبير بكل المقاييس ويعبر عن اختلال هيكلي في النظام المالي للبلاد. صحيح أن العجز المتوقع لعام 2017 لا يزيد عن نصف العجز المخطط في مشروع موازنة 2017، ولكن هذا التحسن النسبي جاء بالدرجة الأولى بفضل ارتفاع أسعار النفط وإنتاجه، وليس لنجاح السياسة الاقتصادية للحكومة. وتتضح الأبعاد الخطيرة للمشكلة عندما نأخذ بنظر الاعتبار الفجوة المالية المتراكمة من السنوات السابقة والمتوقعة في المستقبل.
لسد هذا العجز ليس أمام الحكومة سوى الاقتراض داخليا وخارجيا واستنزاف احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي. ومن الواضح أن حكومة العبادي تستخدم هذه الإمكانيات الثلاثة بـ"سخاء" كبير. وحجتها في ذلك الأوضاع الاستثنائية التي مرت بها البلاد نتيجة اجتياح تنظيم داعش لمساحات شاسعة من العراق والذي تزامن مع انهيار أسعار النفط في منتصف عام 2014. أما الآن وبعد نجاح القوات الأمنية في إلحاق هزائم متتالية بالتنظيم الإرهابي واستعادة السيطرة على معظم مناطق العراق، فإن الحكومة ومعها أيضا البنك المركزي العراقي مطالبان بالوقوف وقفة جادة لاحتواء ظاهرة تفاقم المديونية المحلية والأجنبية قبل أن تستفحل وتتحول إلى أزمة مزمنة تلقي بأعبائها على آفاق نمو الاقتصاد العراقي وفرص الأجيال القادمة.
حتى الآن حازت حكومة العبادي على ثقة ممولين خارجيين من العيار الثقيل الذين لم "يبخلوا" في السنتين الماضيتين في منح العراق قروضا ضخمة بمليارات الدولارات وبشروط تعتبر ميسرة. ولا يقتصر هذا الدعم على قروض البنك الدولي (1,5 مليار) وصندوق النقد الدولي (5,4 مليار) والبنك الإسلامي (0,8 مليار)، وإنما شمل أيضا أهم الدول الصناعية وفي مقدمتها الولايات المتحدة (2,7 مليار) وبريطانيا ( 12 مليارا) واليابان (1,5 مليار) وألمانيا (0,6 مليار) والسويد (0,5 مليار) وفرنسا (0,5 مليار) ومبالغ أخرى كبيرة نسبيا من الصين وإيطاليا وغيرها. ومع أن معظم هذه القروض وُقعت من الناحية المبدئية وتسري لعدة سنوات ولم تُدفع فورا، إلاّ أنه يجب القول بوضوح بإنه لولا هذه القروض لأعلن العراق إفلاسه رسميا ولوقع في مأزق يصعب الخروج منه. كما دفعت هذه الثقة الخارجية بحكومة العبادي وكالة (ستاندرد آند بورز) مؤخرا لتأكيد تصنيفها الائتماني للعراق عند B/-B مع منحه نظرة مستقبلية مستقرة الأمر الذي يعتبر شهادة حسن سلوك للحكومة ودعما غير مباشر لها.
لكن هذا "السخاء" من الممولين الأجانب يعود بالدرجة الأولى إلى اعتبارات سياسية تهدف للحيلولة دون انهيار العراق اقتصاديا وسياسيا ولمساعدته في تحمل أعباء محاربة الإرهاب العالمي. الآن وبعد تغير ميزان القوى وتلاشي نفوذ داعش فإنه من المتوقع أن تنتقل هذه الجهات بالتدريج إلى تشديد شروطها. وينطبق ذلك بشكل خاص على صندوق النقد الدولي الذي سيبدأ قريبا بمطالبة الحكومة بتنفيذ المزيد من الإصلاحات والإجراءات الضرورية والتي سيكون بعضها "مؤلما" من الناحية الاجتماعية، ومنها إعادة هيكلة القطاع العام ومعالجة التشوهات السعرية وإحراز نجاحات ملموسة في مكافحة الفساد وغيرها. كما أن العراق لا يزال يستفيد في مجال الاقتراض الخارجي من استمرار بقاء معدلات الفوائد السائدة في الأسواق النقدية العالمية عند أدنى مستوياتها. ولكن ذلك سيتغير بالتدريج في ظل الرفع التدريجي لأسعار الفائدة من قبل المجلس الاحتياطي الأمريكي الأمر الذي يُنذر بتصاعد أعباء خدمة الديون الخارجية العراقية في السنوات القادمة.
وفي الوقت الذي حذر فيه خبراء اقتصاديون معروفون، ومن بينهم النائب الراحل ووزير التخطيط السابق مهدي الحافظ من مخاطر الوقوع في فخ الديون، تحاول الحكومة العراقية التهوين من ذلك. في هذا السياق يشير المستشار المالي لرئيس الوزراء د. صالح بحق إلى محاولات البعض تضخيم حجم المديونية، ولكنه يقلل في نفس الوقت من شأن مخاطر المديونية الخارجية من خلال تركيزه على الديون التي تعود لعهد النظام السابق، في حين أن من الواضح أن القروض الجديدة مرشحة قريبا لتبلغ عشرات المليارات من الدولارات. كما أن د. صالح لا يرى مشكلة في أن "68 % من الدين العام هي ديون داخلية"، وكأنها قضية تُحل داخل "العائلة الواحدة" وليست التزامات مالية تترتب عليها أعباء وفوائد على المديين المتوسط والطويل.
لقد سجل الدين المحلي بالفعل قفزات كبيرة للغاية في العامين الماضيين تُنذر بتحوله إلى مصدر لاختلالات عميقة ستؤثر على أداء الاقتصاد العراقي. وفقا لبيانات البنك المركزي العراقي تضاعف الدين أكثر من سبعة مرات خلال فترة زمنية قصيرة جدا عندما قفز من 6,2 ترليون دينار في شهر حزيران/يونيو 2014 إلى 47,4 ترليون دينار في نهاية عام 2016. ومع أنه حافظ على مستواه تقريبا خلال عام 2017، إلاّ أنه من المتوقع أن يسجل طفرة جديدة في نهاية العام الحالي ولأسباب إحصائية بحتة كما توحي بذلك بيانات البنك المركزي في السنوات الماضية. ولا يستبعد أن يتجاوز الدين المحلي قريبا حاجز الخمسين ترليون بكثير.
لا يمكن التعامل بلامبالاة مع هذه المؤشر الخطير الذي يمكن أن يزعزع الاستقرار المالي والنقدي للبلاد. صحيح أن الحكومة تحاول التقليل من الضغوط التضخمية المباشرة من خلال تمويل العجز عبر طرح السندات والاقتراض من البنوك المحلية وكذلك الاستعانة بالبنك المركزي العراقي، ولكن التبعات ستبقى مؤثرة.
من الواضح أن البنك المركزي يميل حاليا "للتساهل" في المشاركة في تمويل عجز موازنة الدولة رغم أن قانونه التأسيسي يمنع ذلك بشكل قاطع. وإذا كانت الظروف الاستثنائية للبلاد حتى الآن تبرر ذلك إلى حد ما، فإن تحول هذا الواقع إلى سياسة دائمة يهدد بالتفريط باستقلالية البنك المركزي وتحوله إلى أداة طيعة بيد الحكومة، كما هو الحال في الأنظمة الشمولية.
من جهة أخرى يقف عجز الموازنة وراء تراجع احتياطيات النقد الأجنبي التي تهاوت بحسب خطاب النوايا إلى صندوق النقد الدولي إلى 45,2 مليار دولار في نهاية 2016. ومن المؤكد أن هذا الرقم واصل الانخفاض في عام 2017.
إن المؤشرات المتاحة حول تطور المديونية في العراق تدعو الحكومة إلى معالجة الأسباب الحقيقية للعجز المالي، حتى لو تطلب ذلك إجراءات صارمة في مجال السياسات المالية والنقدية. ويمكن لتخفيض سعر صرف الدينار أمام الدولار بطريقة مدروسة أن يساهم في تخفيف الضغوط عن كاهل الميزان التجاري وميزان المدفوعات وفي رفد الميزانية بموارد إضافية. كما أن تنويع مصادر الدخل وحشد الإيرادات غير النفطية لن يتحقق تلقائيا بتكرار هذا الشعار من قبل المسؤولين والخبراء الاقتصاديين، وإنما يتطلب بالدرجة الأولى تفعيل النظام الضريبي ومحاربة التهرب الضريبي وفرض رقابة صارمة على المنافذ الحدودية ومكافحة التجاوز على شبكة الكهرباء، وقبل كل شيء توفير الظروف العامة لتطوير القطاع الخاص لكي يتولى الدور المطلوب منه في عملية التنمية.
وفي كل الأحوال فإن تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الضرورية يشترط وجود دولة "قوية"، دولة قادرة على فرض القانون في جميع أنحاء البلاد والضرب بقوة على يد الفاسدين. وعسى أن تشكل إنجازات الجيش العراقي في القضاء على داعش وتجاوز أزمة استفتاء استقلال كردستان خطوة هامة على هذا الطريق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يعتزم تجميد الأصول الروسية في البنوك الأمريكية.. ما ال


.. توفر 45% من احتياجات السودان النفطية.. تعرف على قدرات مصفاة




.. تراجع الذهب وعيار 21 يسجل 3160 جنيها للجرام


.. كلمة أخيرة - لأول مرة.. مجلس الذهب العالمي يشارك في مؤتمر با




.. كلمة أخيرة - 60 طن ذهب..رئيس-أيفولف-: مصر الأولى عربيا والثا