الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة أعلى مراحل الديموقراطية

هشام غصيب

2017 / 10 / 24
مواضيع وابحاث سياسية



يميل الكثيرون إلى الحكم على الحدث التاريخي من منظور مآله، لا من منظور بنيته الداخلية في السياق التاريخي، وكأن الحدث التاريخي كل قائم في ذاته يتطور ويتمفصل بفعل تناقضاته الداخلية صوب مآله، وكأنه فضاء مغلق أو عقل هيغلي مغلق منبت عن سياقاته وظروفه وشروطه وبيئته. هكذا ينظرون مثلاً إلى ثورة أكتوبر وكأن ما يسمى انهيار الاتحاد السوفييتي مكتوب هيغلياً في قلب الحدث، وكأنه كان محكوماً على ثورة أكتوبر، بفعل بنيتها الداخلية، أن تؤول إلى مهزلة غورباتشوف ويلتسن ويناييف.
ويعمد أصحاب هذه الرؤية إلى إغفال عيانية اللحظة التاريخية التي وقع فيها الحدث والى إغفال القضايا الملحة التي استدعت الحدث وعيانية القوى التي صنعته ومغزاه التاريخي "النقدي". أقول "النقدي" لأن حدثاً تاريخياً مجلجلاً مزلزلاً كثورة أكتوبر هو حدث نقدي بامتياز يحمل في طياته نقداً للواقع شاملاً ذا بعد نظري وآخر عملي لا يمكن تجاهله بصرف النظر عن المآلات، نقدا يضع الواقع التاريخي برمته في دائرة الشك الحارق والتساؤل العميق. وبصفة خاصة، فإن المضمون النقدي لثورة أكتوبر يضع علامة استفهام كبيرة حول مفهوم الديموقراطية الليبرالية وقدرتها على حل المشكلات الوجودية للمجتمعات الخاضعة للنظام الرأسمالي العالمي والآيلة للانهيار بفعل ما تحتويه الرأسمالية في باطنها من أزمات اقتصادية وحروب مدمرة. فلننظر إذاً إلى هذا الحدث الكبير بدلالة مضمونه النقدي وما طرحه من أسئلة وجودية على الشعوب الخاضعة للنظام الرأسمالي العالمي.
في مطلع عام 1917، كانت الإمبراطورية الروسية تغرق في وحل مذبحة إمبريالية كبرى أخذت تعرف لاحقاً بالحرب العالمية الأولى، دفعت فيها القيصرية الإقطاعية الآسيوية بملايين الفقراء من فلاحين وعمال صوب رعب بلا حدود، حيث حصدتهم حصدا آلة الحرب الألمانية المتطورة، من اجل تحقيق أحلام القيصر المريضة وخدمة للرأسمال البريطاني والفرنسي ومطامعه الشيطانية. فأدخل ذلك روسيا في مآزق عسكرية وسياسية واقتصادية أخذت تنذر بانهيار المجتمع الروسي وتذريته وتفتته. كان ذلك ظرفا جديدا استلزم حلولا خلاقة جديدة تتعدى جميع الطروحات التقليدية، اليمينية منها واليسارية. لم تكن المهمة الرئيسية المطروحة على القوى السياسية الروسية هي الاشتراكية أو الرأسمالية الليبرالية بقدر ما كانت تتمثل في إنقاذ المجتمع الروسي من الانهيار والتفتت وخلاص الجماهير الشعبية من جحيم لا يطاق. وهذا ما استلزم بصورة ملحة فعلاً نقدياً راديكالياً يتخطى القوالب والأطر الجاهزة جميعاً. فكانت ثورة أكتوبر بمحتواها النقدي المتميز غير المسبوق في التاريخ.
وقد تمثل هذا المحتوى، نظرياً وعملياً، أكثر ما تمثل في لينين تحديداً، زعيم الحزب البلشفي ومؤسسه. وبالطبع، لم يقتصر هذا التمثيل على لحظة أكتوبر، وإنما اشتمل على مسيرة لينين الثورية برمتها، منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى أكتوبر 1917.
فما هي المعالم الرئيسية لهذا المحتوى كما تبلر في فكر لينين وممارساته:
تخطى ثوار روسيا بقيادة لينين الشكل السياسي صوب المضمون الطبقي. إذ أدركوا أن جوهر المهمة السياسية لم يكمن في الديموقراطية الليبرالية في حد ذاتها، وإنما في حكم الطبقة التي رفعت رايتها. فالديموقراطية الليبرالية، في ظروف روسيا آنذاك، لم تكن، من حيث هي شكل سياسي معين، نظام الحرية والحريات السياسية والمدنية والحقوق الإنسانية الأساسية، أي لم تكن (وليست) نهاية التاريخ بأي شكل من الأشكال، وإنما هي شكل حكم طبقة محددة، هي الطبقة البرجوازية الروسية آنذاك. فالشكل هنا فارغ لا يعني شيئاً بمعزل عن المضمون الطبقي. لكنهم أدركوا أيضاً أن عليهم أن ينظروا إلى الطبقة في عيانيتها التاريخية، وليس تجريديا. فالطبقة موضوع نظرهم ليست صورة أفلاطونية أزلية، وإنما جسم اجتماعي عياني تشكل تاريخياً تحت ظروف تاريخية محددة وفريدة من نوعها إلى حد ما. إن الطبقة البرجوازية الروسية آنذاك ليست البرجوازية الفرنسية التي قادت الثورة الفرنسية عام 1789. ومن العبث التعامل معها ودعمها كما لو كانت كذلك، كما كان المناشفة وبعض البلاشفة يظنون، وإنما كان على ثوار روسيا أن يفهموا علائقها الداخلية والخارجية وتاريخ نشوئها ودورها الفعلي العياني في الثورة الروسية.
وكان السؤال النقدي الجوهري الذي طرحه لينين، والذي حدد موقفه من هذه الطبقة وغيرها من الطبقات، هو: ما هي المهمات الملحة للثورة الروسية؟ وما هي المهمات التاريخية المطروحة على العمال والفلاحين، وعبرهم على التشكيلة الاجتماعية الروسية برمتها؟
في ذهن لينين الجدلي الثاقب، لم يكن السؤال المطروح هو: رأسمالية أم اشتراكية. أدرك لينين أن هذا الطرح المنشفي كان طرحاً ساذجاً مثالياً أفلاطونيا لا يمت بصلة إلى الجدل المادي. إذ أدرك أن المهمات العيانية المطروحة، التي تعكس نبض الجماهير ومطالبها الملحة، هي:
1. إيقاف المذبحة المسماة الحرب العالمية الأولى. فلم يعد الجنود الروس، ومن ثم الفلاحون الروس، يطيقون الاستمرار في هذه المذبحة من اجل تحقيق المطامع الاستعمارية للقيصر وحلفائه الإنغليز والفرنسيين. فمن وجهة الجنود الروس، كانت حرباً ميئوساً منها تماماً، أقرب إلى الإبادة الجمعية منها إلى الصراع. فكل الكلام عن الدفاع عن الوطن وعن عزة الأمة الروسية كان مجرد ذر للرماد في العيون. وكما عبر عنها لينين: لقد صوت الجنود ضد الحرب بأقدامهم.
2. الخبز: كان هناك نقص حاد في المواد التموينية الأمر الذي عرض جماهير العمال والفلاحين إلى خطر المجاعة. وقد أدرك لينين أنه ما لم تنفذ هذه المهمة فوراً، فقدت المهمات الأخرى معناها.
3. الأرض: وكان هذا المطلب يخص الفلاحين بالطبع. ففي ظل سيطرة الإقطاعيين وكبار الرأسماليين على الأرض، حرم كثير من الفلاحين من مصدر رزقهم، الأمر الذي فاقم من وضعهم المتردي. وكان لينين يدرك أهمية دور الفلاحين في الثورة الروسية، وضرورة تحالفهم مع الطبقة العاملة، وضرورة أن تقودهم الطبقة العاملة. لذلك تبنى مطلبهم الرئيسي وعده ملحاً ومباشراً.
4. الحيلولة دون تمزق المجتمع الروسي: عام 1917، كان المجتمع الروسي مهدداً بالتفتت والانهيار، بفعل الحرب والأزمة الاقتصادية. وفي ضوء انهيار السلطة القيصرية، التي اعتاد عليها الروس لمئات السنين والفراغ السياسي الذي نجم عن ذلك. باتت مسألة خلق سلطة بديلة قادرة على توحيد المجتمع وإعادة بنائه مسألة ملحة جداً لا بد من مجابهتها. ومع أن لينين لم يذكر هذه المهمة جلياً، إلا أنها كانت ضمنا موجودة في كل تحليلاته.
5. المهمات الديموقراطية: وكان في مقدمتها تصفية الإقطاع ودولة الاستبداد الشرقي وإطلاق الحريات الديموقراطية وبناء المؤسسات الديموقراطية.
لم يكن مطروحاً في تلك المرحلة مسألة تحقيق الاشتراكية في روسيا، وإنما تحقيق مهمات ملحة لا مفر منها لبقاء المجتمع الروسي وتحديثه. ولم تبرز مسألة الاشتراكية إلا في ضوء سؤال السلطة الآتي: هل تترك السلطة للبرجوازية الروسية على اعتبار أن هذه هي مرحلتها التاريخية؟
طبعاً، فإن مجرد طرح هذا السؤال انطوى على عيانية جدلية متميزة كانت شبه غائبة في الأوساط اليسارية الروسية والأوروبية. لكن السؤال الأخطر الذي تجرأ لينين على طرحه كان الآتي: هل هذه البرجوازية قادرة ومؤهلة لتحقيق هذه المهمات الملحة؟ فالمبرر الوحيد لدعم استلام البرجوازية الروسية السلطة السياسية هو قدرتها على تحقيق المهمات اللازمة، وليس تجريدات أفلاطونية فارغة بأن هذه هي مرحلة البرجوازية في روسيا.
وكان جواب لينين واضحاً: إن هذه البرجوازية، وبحكم ظروف نشوئها وارتباطها العضوي بالإقطاع والإمبريالية الغربية وخوفها من الطبقة العاملة، رجعية وهزيلة في بنيتها الداخلية، والمهمة الوحيدة المنسجمة مع طبيعتها هي الإبقاء على الوضع الروسي، داخلياً وخارجياً، كما هو من حيث الجوهر، مع بعض التزويقات المساحيقية. فهي غير قادرة على إيقاف الحرب وغير راغبة في ذلك بفضل مطامعها الاستعمارية وارتباطها العضوي بالرأسمال الغربي. كما إنها غير معنية بقوت الجماهير، أو على الأقل، ليس ذلك ضمن أولوياتها. ولما كانت الملكية الخاصة مقدسة لديها، فلم يكن في بالها الصدام مع الإقطاعيين وكبار الرأسماليين من أجل توزيع الأرض على الفلاحين التواقين إليها. كذلك، فلربما كانت مستعدة للتضحية بتماسك المجتمع الروسي من أجل الاستمرار في الحرب.

أما المهمات الديموقراطية، فكانت شعاراً لدى البرجوازية الروسية لا أكثر. كانت شعاراً شكليا من دون مضمون، لأنها كانت تشعر بضعفها وبحاجتها إلى مخلفات الأقطاع والاستبداد الشرقي في مجابهة العمال والفلاحين. وأكبر دليل على ضعفها آنذاك كان لجوءها إلى أحزاب البرجوازية الصغيرة "الاشتراكية"، كالمناشفة والثوريين الاشتراكيين، من اجل إدارة الدولة وإجهاض الثورة. فلم تكن إذاً، بحكم طبيعتها وعلائقها، قادرة على تحقيق أي من المهمات الملحة. فلم تكن مشكلتها أصلا مع مخلفات الإقطاع والقيصرية، وإنما كانت أصلاً مع البروليتاريا المنظمة.
من ذلك، أدرك لينين أن الطبقة الوحيدة القادرة على تحقيق المهمات الملحة هي البروليتاريا الروسية المدعومة من الفلاحين. فقد كانت أكثر الطبقات تنظيماً (السوفييتات) وأرفعها وعيا مطابقا للواقع (الحزب البلشفي). ومن جهة أخرى، فقد سيطرت هذه الطبقة منذ ثورة فبراير على المرافق العامة ووسائل النقل والاتصال والمصانع والطرقات وسكك الحديد وغيرها، في العاصمة (بتروغراد). ولم يكن ينقصها سوى السلطة السياسية. كان القرار الاقتصادي والحياتي في يدها. لذلك كله طرح لينين مقولته الشهيرة: كل السلطة للسوفييتات.
أدرك لينين أن لا أمل في إنقاذ المجتمع الروسي والجماهير الروسية سوى باستلام السوفييتات بقيادة البلاشفة السلطة السياسية في روسيا. وأدرك أنه لا بد من اغتنام الفرصة المواتية لذلك، وإلا تبددت. كما أدرك أن البديل لم يكن فقط إبقاء الأمور المتردية على حالها، مع ما يصاحب ذلك من كوارث قومية وعالمية، وإنما كان أيضاً تصفية الثورة بتصفية السوفييتات والحزب البلشفي وربما بعض الأحزاب الأخرى، كيسار " الثوريين الاشتراكيين والأناركيين. وكان عليه إقناع البلاشفة والسوفييتات بذلك، فحقق هذه المهمة العسيرة، وكان ما كان (ثورة أكتوبر الاشتراكية).
لكن لينين أدرك أيضاً أن استلام العمال السلطة السياسية يحر وراءه مزيداً من المهمات، التي قد تكون أكبر. فالطبقة العاملة، وبحكم طبيعتها التاريخية، لا يمكن أن تقف عند المهمات الديموقراطية، وإنما لا بد أن تتخطاها صوب المهمات الاشتراكية. فهي لا يمكن أن تقبل بالاستغلال الرأسمالي، لأنها هي ضحيته الأولى. من ثم توصل لينين إلى مقولة في غاية الخطورة وهي: إن الثورة الاشتراكية في المجتمعات هي شرط ضروري لتحقيق الثورة الديموقراطية. فلا سبيل إلى تحقيق المهمات الملحة والديموقراطية إلا بالسعي إلى تحقيق الاشتراكية، حتى لو كان تحقيق الاشتراكية عسيراً جداً في ضوء تخلف المجتمع وفشل الثورة الاشتراكية إقليمياً أو عالمياً. أي تقدم في المجتمعات المتخلفة مرهون بتغيير الجوهر الطبقي للحكم. أما التغييرات الشكلية من دون المساس بهذا الجوهر، فنتيجته الحتمية أن الثورة تظل تراوح مكانها وتعجز عن تحقيق أي من المهمات الملحة والديموقراطية. فلا سبيل إلى تحقيق أي منها في ظل حكم البرجوازية التابعة الطفيلية، سواء أخذت طابعاً دينياً أو عسكرياً أو ليبرالياً. وهذا بالضبط ما حصل في الثورات العربية التي ما زالت تراوح مكانها برغم حركة الجماهير بملايينها وعشرات ملايينها. وهذا يعني أن على الطبقة العاملة في البلدان المتخلفة ألا تراهن على الشكليات وألا تتبنى الآيديولوجيا البرجوازية، بحجة أن المرحلة تتطلب ذلك وأنه لا يجوز حرق المراحل، وألا تكتفي بدعم هذا الجناح من البرجوازية أو ذاك، وإنما أن تحافظ على استقلالها التنظيمي والسياسي والفكري، وأن تهيئ نفسها لاستلام السلطة والثورة الاشتراكية من اجل تحقيق المهمات الملحة والديموقراطية. هذا هو درس أكتوبر الذي اتبع في روسيا والصين والهند الصينية وكوبا. أما الثورات التي لم تتبعه، فظلت تراوح مكانها وتردت أحوال الأقطار التي قامت بها.
ويبقى السؤال المهم: هل كانت ثورة أكتوبر مغامرة غير محسوبة سابقة لأوانها؟ والجواب هو أنها كانت بالفعل كذلك من المنظور المنشفي الأفلاطوني المتكلس. أما من المنظور المادي التاريخي العياني، فقد كانت ضرورة تاريخية لأن الكيان الروسي برمته كان معرضاً لخطر الانهيار والتفكك. وبالطبع، فإن كل فعل ثوري هو مغامرة بصورة من الصور. لكن ثورة أكتوبر كانت مغامرة مبررة ومحسوبة، بل وضرورية. فبديلها كان المراوحة والانهيار. وهذا ما بينته بإسهاب في شرحي لتحليل لينين العياني للمهمات الملحة والديموقراطية. طبعاً ترتب على هذا الخيار لاحقاً صراعات مرة صعبة، كالحرب الأهلية. لكن الحرب الأهلية كانت أهون على الطبقة العاملة، برغم دمويتها الرهيبة، مما كانت البرجوازية وفلول الإقطاع تخبئه لها من تصفية إبادية لو تسنى لها أن تحافظ على سلطتها السياسية.
وخلاصة القول إن درس أكتوبر ما زال حياً وملحاً أمام ما شهده ويشهده العالم من كوارث وانهيارات وحروب تهدد هذه المرة البشرية برمتها. إن الثورة، لا الديموقراطية الليبرالية، هي أعلى مراحل الديموقراطية. كما إنها شرط التغيير الحقيقي الذي لا غنى عنه البتة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤال
عماد ( 2017 / 10 / 24 - 11:36 )
ما رأي الدكتور هشام غصيب بالصراع الستاليني-التروتسكي? وكيف يقيم دوريهما في ثورة اكتوبر و
و بعدها?
و شكرا.

اخر الافلام

.. ما هو بنك الأهداف الإيرانية التي قد تستهدفها إسرائيل في ردها


.. السيول تجتاح مطار دبي الدولي




.. قائد القوات البرية الإيرانية: نحن في ذروة الاستعداد وقد فرضن


.. قبل قضية حبيبة الشماع.. تفاصيل تعرض إعلامية مصرية للاختطاف ع




.. -العربية- ترصد شهادات عائلات تحاول التأقلم في ظل النزوح القس