الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آليات السرد فى مونودراما -معكم انتصفت أزمنتى- للكاتب العراقى -قاسم مطرود-

ابراهيم حجاج

2017 / 11 / 17
الادب والفن


د. ابراهيم حجاج : استاذ النقد والدراما المساعد بقسم الدراسات المسرحية - كلية الاداب- جامعة الاسكندرية.
تتكون كلمة مونودراما Monodrama وفقا للمصطلح اليونانى من شقين (مونو Mono) بمعنى واحد، و(دراما Drama) بمعنى الفعل" ، لتصبح دلالة الكلمة المركبة هى (الفعل الواحد). ولا يغنى هذا التعريف اللفظى عن التعريف الإجرائى؛ حيث جاء تعريف المونودراما فى معجم أكسفورد (Oxford) على أنها : "مقطوعة قصيرة فردية لممثل واحد أو لممثلة واحدة مستندة بشخوص صامتة "
أما "لويس كارتون Lewis Cartoon" فقد عرف المونودراما فى كتابه "قوة الشخص الواحد" على أنها "دراما الشخصية الواحدة"د
ومن خلال التعريفين السابقين، وقع المصطلح فى إشكالية حول ماهية هذه الشخصية، ومن الذى يقوم بالفعل، هل هو الشخصية المسرحية الفاعلة التى تتأزم، أم الشخصية المؤدية للفعل (الممثل)، وانقسم النقاد والباحثون إلى فئتين: فمنهم من يعرف المونودراما على أنها "دراما الشخصية الواحدة"، ومنهم من يعرفها على أنها "دراما الممثل الواحد"، لكن الباحث يتفق مع التعريف الأخير؛ حيث لا يختلف أحد على أن المونودراما هى نوع من الدراما، والدراما فى عرف "أرسطو" Aristotle (384-322ق.م)، "محاكاة لأفعال، والشخصية المسرحية – فى حد ذاتها – عاجزة عن الفعل إلا من خلال الممثل"، هذا فضلًا عن أن المونودراما تتضمن شخصيات افتراضية عديدة، تقوم الشخصية الرئيسة باستدعائها من الماضى ومن هنا تخرج المونودراما من دائرة الشخصية الواحدة لتصبح دراما الممثل الواحد الذى يؤدى أدوارًا متعددة، وهو ما يؤكده "إبراهيم حمادة" ، حيث يعرف المونودراما على أنها "المسرحية المتكاملة فى ذاتها" التى تتطلب ممثلًا واحدًا – أو ممثلة – كى يؤديها كلها فوق الخشبة أمام المتفرجين".
ويرى الباحث أن التعريف السابق لم يحدد بشكل واضح ملامح هذا النوع الذى يمتلك خصائص، ومقومات متفردة، تميزه عن بقية الفنون الأخرى، ويتفق الباحث وتعريف الكاتبة السعودية "ملحة عبد الله" للمونودراما حيث عرفت هذا النوع من الدراما على أنه "محاكاة لفعل درامى محدد له طول معين لشخصية واحدة يقدمها ممثل واحد مستعرضًا أزمة الشخصية تجاه نفسها، أو تجاه الآخرين من خلال المناجاة والجاذبية والحوار مع شخصيات افتراضية، ومشفوعًا بألوان التزين الفنى."
ويرى الباحث أن تعريف الكاتبة "ملحة عبد الله"، قد تضمن إطارًا جامعًا مانعًا، لهذا النوع الفنى، واضعًا فى اعتباره نظرية "أرسطو" القديمة فى تعريف الدراما، ونظريات السرد الحديثة؛ حيث يتعرض لماهية المونودراما، ومضمونها ، وأهم مقوماتها الفنية والجمالية؛ فيؤكد على طابعها الفردى، ومضمونها النفسى المتأصل، فهى تعكس معاناة شخصية درامية وحيدة تعانى أزمة، واغترابا نفسيا أو اجتماعيا على أن تجسد تلك الأزمة من خلال صوت أحادى منفرد فى شكل مناجاة. أو حوار درامى مع شخصيات افتراضية تستحضرها الشخصية الرئيسة من خلال فعلى التخيل والاستدعاء.
كما يشير التعريف السابق، إلى ضرورة توظيف المقومات الفنية الجمالية - والتى هى موضوع البحث- باعتبارها محسنات للعمل الفنى، لإثراء قيمته وزيادة تأثيره، ويفرق الكاتب المونودرامى "أمين بكير" بين المونودراما والمونولوج فيقول "إن هناك خطأ شائعًا يقع فيه من يتعرضون لكتابة هذا الجنس الأدبى من المسرح فهم يتصورون أنه بالإمكان كتابة مونولوج أو كما أسماه المسرحيون القدماء حوار طويل جانبى هو فى الواقع جزء من عمل مسرحى، وإطلاق مسمى مونودراما أو حتى مشروع للمونودراما عليه، فالحق أن هذا الاجتزاء لا يشبع عرضًا مسرحيًا، ولا يمكن له أن يكون دراما مستقلة."، والصحيح أن المونولوج والمناجاة والجانبية هى تركيبة باتحادها تشكل بنية المونودراما على المستوى الحوارى.
"ورغم أن المونودراما لم تظهر بشكلها المكتمل إلا إبان الحركة الرومانسية التى بدأت تجتاح أوروبا منذ النصف الثانى من القرن الثامن عشر، فإن بذورها وجدت منذ بدايات الدراما الأولى"؛ حيث يمكن رصد أقدم عروضها فى المسرح اليونانى القديم" عند "ثيسبس" صاحب العربة وأول ممثل فى تاريخ المسرح الإغريقى – الذى عاش فى القرن السادس ق.م – وقدم عروضًا منفردة أمام جمهور أثينا فى الاحتفالات بمواسم الحصاد، لاسيما وأنه بدأ راويًا، ثم قائدًا لمجموعة من المنشدين تصاحبهم موسيقى."
وهو ما يؤكده "أحمد زكى" بقوله "كانت العروض الأولى للمسرح فى عهد الإغريق، تحتوى على ممثل واحد وكان فى الغالب هو الشاعر نفسه، وكانت تعاونه مجموعة عرفت بالكورس، ودورها فى الأداء ينحصر فى ترديد فقرات خاصة من النص المسرحى فى ترتيل منغم والصوت جماعى وعن طريق الرقص أحيانا. أما الممثل الواحد، الكاتب الممثل، فيستطيع أن يجسد شخصيات عدة عن طريق قناع مصنوع من الكتان."
واستمرت صور التمثيل الفردى فى المسرح الرومانى، والتراجيديات الأوروبية فى عصر النهضة، "فنجد أبطال تلك التراجيديات يحتكرون المسرح فترات طويلة ليلقوا على مسامع الجمهور الخطب العصماء التى تحوى المواعظ الأخلاقية." وإذا عدنا لمسرحيات شكسبير Shakespeare (1564 – 1616 م)، "كهاملت" أو "الملك لير"، فسنجد العديد من المقاطع التى تمثل مونودرامات صغيرة.
وعندما اجتاح أوروبا، التيار الرومانسى- الذى نادى بالثورة على التقاليد والأنظمة الموروثة، وقدس فردية الفرد- تبلور الشكل الناضج للعروض المسرحية المونودرامية "وليس أدل على دور المونودراما باعتبارها شكلًا فنيًا بالفكر الرومانسى الذى يدعو إلى التفرد من مسرحية مونودرامية بعنوان "بيجماليون" كتبها الفيلسوف الفرنسى "جان جاك روسو"، عام 1760م." وربما كانت هذه المسرحية هى البداية الحقيقية للمونودراما، باعتبارها شكلًا أدبيًا دراميًا.
وما إن بدأ القرن التاسع عشر، حتى انسحبت المونودراما بعيدًا عن المسرح، وترجع "نهاد صليحة" ذلك إلى "اصطدام المد الثورى التحريرى الذى حوته الحركة الرومانسية، بالنزعة الفردية فيها فاتجه دعاة الثورة الاجتماعية تدريجيًا إلى العمل الجماعى، بينما انزوى دعاة تقديس الفردية فى ظل عوالم غيبية رمزية منفصلة عن الواقع، وانعكس هذا الانقسام الفكرى فى المسرح فنشأ المسرح الواقعى والرمزى جنبًا إلى جنب، وانسحبت المونودراما بطابعها الفردى بعيدًا عن عالم المسرح؛ لتجد متنفسًا لها فى مجال الشعر".
ومع بداية القرن العشرين، بدأت المونودراما، تعود إلى المسرح؛ حيث بعثت بجهود رواد عالميين مثل تشيكوف Chekhov (1860-1904) الذى كتب نصًا مونودراميًا بعنوان "مضار التبغ"، الذى يعتبره "إبراهيم حمادة" من أحسن النماذج فى هذا المجال"
كما ظهرت فى القرن العشرين، تجارب كثيرة، تعتمد على الممثل الواحد، مثل مسرحية "الأقوى" للكاتب السويدى أوجست سترندبرج" August Strindberg (1849-1912)، ومسرحية "قبل الإفطار" للكاتب الأمريكى "يوجين أونيل" Eugene O’Neil (1888-1953)، ومسرحية "نوبة صحيان" للكاتب الإيطالى "داريوفو" Dario Fo (1926م).
وقد انتقل هذا النوع من الدراما إلى مسرحنا العربى عن طريق "الاحتكاك الثقافى بالغرب، وفعل الترجمة، والاطلاع على الكتابات والعروض المونودرامية الغربية، وكذلك عن طريق الدراسة فى معاهد الغرب وجامعاته، مع تطوير التجارب الفردية النظرية التى توجد فى موروثنا العربى القديم" مثل مسرح الحكواتى، وقد انتشرت المسرحيات المونودرامية، فى مساحة مسرحنا المصرى خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، سواء على مستوى مسرح المحترفين، أو مسرح الهواة.
وعلى الرغم من شيوع هذا النوع من الدراما، وإنفراده بمساحة من الاهتمام من قبل كتاب المسرح، فإنه يواجه إشكالية حقيقية، وهى إشكالية التلقى، حيث تعد المونودراما من أصعب الأجناس الأدبية على مستوى الكتابة، لأنها تعتمد على شخصية وحيدة، هى الحامل الرئيس لكل ما يدور من أحداث وأفعال، فى إطار السياق الدرامى للنص، فضلًا عن غياب الحوار التقليدى، الذى ظل وسيلة الكاتب المسرحى، فى تقديم الشخصيات ، وتطوير الأحداث، والاستعاضة عنه بالسرد، مما يؤدى إلى سقوط النص فى هاوية الملل والرتابة، وهو ما دفع الباحث إلى دراسة هذه الإشكالية، والبحث فى مدى قدرة كاتب المونودراما، على فضها من خلال بحثه عن أشكال وتقنيات جديدة تمكنه من ضبط الترهل الذى يمكن أن ينتج عن الحوار السردى الطويل، الذى يجعل من النص عبئًا ثقيلًا على المتلقى، الذى لا يجد ما يشده فيه فيرفضه.
ويخالف الباحث رأى بعض النقاد الذين يرون أن ظهور المونودراما – فى عالمنا العربى– قد جاء "بظروف اقتصادية، حيث إن ميزانيات المسارح ضعيفة، ومن البدهى أن المسرحيات التى يمثلها فرد واحد تتطلب إمكانات مادية أقل من المسرحيات العادية، وتمثل عامل توفير اقتصادى." ( )
ويرى أن المونودراما تمثل طريقة فنية فى التعبير والتشخيص الدرامى، باعثها الرئيس، شعور المبدع المسرحى باليأس والإحباط، جراء خوضه تجربة مريرة، أو إحساسه بالتهميش والقمع، فى ظل حالة الاستبداد، وتردى الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانبطاح الإنسان العربى وجوديًا وقيميًا. ويؤدى كل من الشعورين إلى حالة من الانطواء على الذات، مع شعور مناقض بالرغبة فى تخطى الظرف الخانق بالبوح والإفضاء من خلال قالب فنى يصور صراعه الداخلى ويستجلى بواطنه النفسية، ويكشف تمزقه الذهنى والوجدانى فى صراعه المرير مع الذات والواقع المعيش.
لذا وقع اختيار الباحث على الكاتب المسرحى العراقى "قاسم مطرود" الذى يعد من الكتاب المسرحيين العراقيين الذين عانوا عقودًا طويلة من حكم حزب البعث الديكتاتورى، وفى ظل سياسة العنف والقمع والاستبداد لم يجدوا أمامهم مغادرة الوطن إلى المنفى، لتبدأ رحلة الغربة من أجل البحث عن شمس الحرية.
ويعد "مطرود" واحدًا من الرموز المسرحية فى المسرح العراقى التى استطاعت ترسيخ حضورها فى المشهد الثقافى باعتباره كاتبًا وناقدًا ومخرجًا مسرحيًا أيضًا ، وقد كتب العديد من النصوص المونودرامية التى حلقت فى فضاءات متخيلة تجمع بين الذكريات الذاتية، ومرارة الواقع الموضوعى.
وقد صاحبت ثيمة (الغربة والاغتراب) () ، الكاتب العراقى قاسم مطرود فى كثير من هذه النصوص بخاصة نص "معكم انتصفت أزمنتى" – موضع الدراسة – ويرجع ذلك إلى معاناة الكاتب نفسه، حيث التف حبل الاغتراب حول عنقه داخل وطنه، فآثر الارتحال والانسحاب فى صمت أمام الدمار الحادث فى العراق، ليعكس أوجاع ذاته وهموم وطنه من أرض الغربة فى هولندا.
وسيحاول الباحث من خلال القراءة التحليلية لهذا النص كشف حركة السرد فى المسرحية المونودرامية، عن طريق استكشاف الآليات والتقنيات الفنية والجمالية التى استند إليها الكاتب، والتى ساعدت على كسر أحادية الصوت، وإعطاء السرد فى النص المسرحى المونودرامى زخمًا دراميًا، ساهم فى تعميق الفكرة وإثرائها.
ويقصد الباحث بالآليات "الوسائل والحيل الفنية التى توجد فى متناول المبدع أو التى يتوافر عليها، ليكشف بها عن نواياه الخاصة ويؤثر فى الجمهور بحسب رغباته."
ولما كانت المونودراما، جنسًا من الأجناس الأدبية المميزة بخصائص متفردة عن بقية الأجناس الأدبية المألوفة فى الأدب تقوم على تجميع الأصوات المتحاورة فى صوت واحد، مع تراجع الحوارية الدرامية بشكل بارز، فلابد من تضمنها لوسائل وحيل، يمرر خلالها المضمون الفكرى للكاتب إلى المتلقى فى صورة فنية وجمالية ممتعة، بغية كسر روتين الاسترسال والانسياب المملين.
ينطلق الكاتب "قاسم مطرود"، فى نصه "معكم انتصفت أزمنتى" من ثيمة إنسانية عامة، وهى ثيمة الغربة، ثم يجسدها تجسيدًا دراميًا ليسجل احتجاجًا صارخًا، على معاناة الإنسان، عندما تضيق به فضاءات وطنه، ويشعر بالاغتراب داخله، فيقرر الهروب لتبدأ رحلة أخرى من المعاناة.
تدور أحداث المسرحية حول شخصية موغلة فى الضياع، شخصية ممزقة بين نيران الغربة والاغتراب، إنها شخصية رجل فر من قسوة الظروف باحثًا عن متنفس خارج وطنه. وبعد أن بلغ من الغربة عتيًا اكتشف أن القسوة ذاتها فى كل مكان، فيقرر العودة إلى وطنه، وفى منتصف الطريق، تتعطل سيارته، ليضيع بين الـ (هنا) والـ (هناك) فى انتظار المخلص دون جدوى، وفى محاولة من الرجل للتأقلم مع مناخ الانتظار، يبدأ فى تصفح إحدى الجرائد، ويستوقفه خبر عن سيارات الإسعاف التى بدلًا من أن تنقذ المرضى – فى مدينة لودز البولندية - تعجل بموتهم من أجل بيع جثثهم، فيزداد خوفه وتوتره، خاصة عند سماع أصوات سيارات الإسعاف بين الحين والآخر.
ولكسر حاجز الصمت والسكون لا يجد الرجل أمامه سوى استجلاء مكنونه النفسى، وإشعال جمرة الماضى فى صدره، من خلال تأمله لصور الأهل والأصدقاء وقراءة بعض رسائلهم القديمة، والولوج فى مناجاة مملوءة بالدلالات والإيحاءات، يتأكد الرجل فى نهايتها بأن الضياع هو قدره ومصيره، فيلتقط حقيبته ويهيم على وجهه نحو المجهول.
وقد اشتمل النص على وحدة مكانية ثابتة "(من وسط المسرح نسمع صوت محرك سيارة معطل، يحاول الرجل تشغيل السيارة، بقعة ضوء على وجهه الذى يبدو عليه التعب والضجر، يحاول ثانية وثالثة تشغيل سيارته الواقفة فى الطريق عام، حيث يتم الكشف عنها، وعن الكرفان الذى تجره خلفها وفيه العديد من النوافذ والستائر الشفافة، وهى متوقفة على شارع طويل وخلفه مجموعة من الأشجار الكثيفة على طول الطريق تشغل الجزيرة الوسطي بين الشارعين ومن خلف الأشجار نلمح شارعًا آخر خاليًا إلا من أعمدة الإضاءة الخافتة)"
يساهم المكان فى خلق المعنى داخل النص، ولا يكون دائما تابعًا أو سلبيًا "بل يمكن للكاتب أحيانًا تحويله إلى أداة للتعبير عن ظواهر اجتماعية أو نفسية".
وقد صور "مطرود" المكان فى هذا النص – من خلال الإرشادات المسرحية – باعتباره حاملًا لمعنى ولحقيقة أبعد من حقيقته الملموسة، فالشارع باعتباره مكانًا رحبًا فسيحًا، خاليًا من أية خواص معمارية يعطى الإحساس بالاغتراب والضياع والوحدة والمجهول، وكلها مشاعر كامنة داخل شخصية البطل.
وتعد السيارة المعطلة من العلامات المكانية الفارقة فى النص، والمشكلة لأحدى دلالاته النفسية، بوصفها دلالة تعكس رفض اللاشعور للعودة إلى الوطن.
"الرجل: سيارتك معطلة وقرارك فى الذهاب إلى الوطن تعطل هو الآخر وبات من المستحيل عودتك من حيث أتيت ...... سيارتك مصيرك، إنها اختارت لك ما لم تستطع اختياره."
كما احتشد الوصف المكانى بالعديد من الرموز والمدلولات التى ستستمر ممتدة بعد ذلك فى نسيج النص حتى نهايته، فهناك الكرفان ذو النوافذ والستائر الشفافة، والذى يمثل مخزن الذكريات، حيث يطل منه الرجل على ماضيه من خلال صندوق الصور والرسائل التى تشكل هى الأخرى دلالة الشاهد الحقيقى على هروب الزمن وعدم الإمساك باللحظة. كما تعكس مجموعة الأشجار الكثيفة التى تفصل بين شارعين، حالة الانقسام النفسى داخل الرجل بين نار الاغتراب داخل وطنه ولهيب الغربة خارجه، فضلًا عن أعمدة الإضاءة الخافتة، التى توحى بضبابية الحدث واقتراب النهاية.
إن إسقاط الحالة النفسية للبطل على المحيط الذى يوجد فيه يجعل للمكان دلالة تفوق دوره المألوف كديكور، أو وسيط يؤطر الحدث محررًا نفسه من أغلال الوصف.
وقد ارتكن الكاتب فى نصه إلى آلية السرد، بوصفه أحد المرتكزات الفنية الرئيسة للنص المونودرامى ـ مرتكزًا على مجموعة من الآليات والمقومات الفنية والجمالية التى تحفظ للسرد توتره وعدم استقراره على حال معين، منها التعدد والتنوع فى استخدام الضمائر (الغائب – المتكلم – المخاطب)، والحركة السريعة من ضمير إلى آخر.
وبالرغم من ميل الكتابة السردية إلى التعامل مع ضمير الغائب بوصفه أقرب الضمائر، وأنسبها لطبيعتها البنائية، "حتى أن بعض البلاغيين أسموه (ضمير الحكاية)"، فإن القالب السردى فى هذا النص مال – بشكل كبير – إلى استخدام ضمير المتكلم، خاصةً عندما يسعى النص إلى مواجهة الشخصية داخليًا.
"الرجل: قبل أكثر من عشرين عامًا، بكيت كثيرًا بعد أن احتضنت أخوتى وأمى، وحقيبة سفرى معلقة على ظهرى ....... احتضنتك يا أمى وقد سقطت حقيبتى بعد ارتعاشى وتجهشى بالبكاء وقلت حينها: سأهاجر يا أمى، مكانى ليس هنا وروحى هائمة، سأبحث عن طريقى فى أمكنة أجهلها تمامًا."
تستولى "الأنا" فى الحديث السابق على زمام الحكى ليخرج عن مساره الأفقى ليتخذ مسارًا رأسيًا، نظرًا لانتقاله من الخارج إلى الداخل، للنظر فى أعماق الشخصية، والكشف عن مكنونها النفسى، نظرًا لحاجة الشخصية الساردة إلى البوح والإفضاء، حيث تحاول استعادة اللحظات الهاربة من ذاكرتها المجروحة ومشاعرها المهترئة لحظة الوداع.
وتجدر الإشارة إلى أن اعتماد السرد على ضمير المتكلم لا ينفى تدخل ضمير المخاطب فى توجيه هذا السرد إلى شخصية بعينها فكل خطاب للأنا هو خطاب موجه للأنت؛ حيث إن السرد فى حقيقته فعل تواصلى يستلزم طرفين: سارد/مرسل، ومسرود له/مستقبل: وهو ما لاحظه الباحث فى حديث الرجل الموجه إلى أمه وإخوته.
"الرجل: وها أنا يا أمى الحبيبة ويا إخوتى قررت العودة إليكم ومعى ما يكفى لفتح مشروع كبير سيلمنا جميعًا "برهة" ولكن السيارة متوقفة وترفض العودة إلى الوطن والليل يخيم على ويثنى قرارى، - برهة – ترى كيف أنت الآن .. تركتك وبعض الشيب قد اندس فى شعر رأسك الأسود وابتسامتك التى كانت معى طوال كل تلك السنين، أمى... لكن السيارة متوقفة والليل طال والظلمة تزداد والرؤية تنعدم – فترة صمت قصيرة – لم انقطع عنكم ابدًا وأنا أجوب المدن والغربة تنخر روحى."
لقد تعمد الكاتب زرع ضمير المخاطب فى كل رفقة سردية ذاتية ليحافظ على خصوصية النص الدرامى الحوارية ومقاومة السردية التى قد توقعه فى شرك الملل والرتابة.
وهو ما يحيلنا إلى واحدة من أهم الآليات التى ساهمت فى خلق حالة من التوتر الدرامى وتعميقها، فضلًا عن تنامى الصراع النفسى الداخلى لبطل النص، وهى آلية استدعاء (الأنت)، المتمثل فى شخصيات افتراضية صامتة ليس لها وجود مادى على خشبة المسرح، يستدعيها الرجل من خياله ويقيم معها حوارًا من طرف واحد، كمحفز جاء به الكاتب لدفع بطله إلى البوح بعذابات نفسه، ومكنونات صدره.
كما تردد ضمير الغائب فى بعض المساحات السردية، بوصفه أداة تتيح للسارد منطقة علوية، يطل منها على أوجاع الماضى القريب فيتذكر ولده الوحيد ثمرة غربته الذى اكتوى هو الآخر بنارها.
"الرجل: قد أبدل ولدى الوحيد لغته بلغة أخرى وصار يتحدث غير لغتنا ويفكر ويحلم باللغة الجديدة، إنها معادلة صعبة، لكن هكذا تشكلت الحياة."
إن ضمير الغائب – كما يقول السرديون – "يتيح للسارد معرفة بشخوصه تشبه معرفة الآلة بالبشر"، وقد تأكدت هذه المقولة من خلال التردد المكثف لهذا الضمير عند تذكر الرجل لرفقاء رحلة اغترابه داخل وطنه.
"الرجل: هذه الرسالة من صديقى ..... كان مشروع كاتب ناجح، إلا أن هموم الحياة حولته إلى بائع صحف فى الإشارة الضوئية .... (يخرج صورة) هذه صورة عائلتى الكبيرة، هذه أختى الكبرى، التى قضت عمرها كله تنازع المرض إلا أنها تتحدى دائما، وهذه الصغرى والتى كنت أعاملها معاملة خاصة، وهذا أخى الأصغر الذى لم يحالفه الحظ أبدًا."
وقد تأرجح السرد فى مناطق أخرى بين الضمائر الثلاثة (المتكلم – الغائب – المخاطب)، بشكل يحفظ للسرد توتره، وعدم استقراره على حال معين، ويسرع من إيقاعه، مما يساهم فى تفعيل درامية النص.
"الرجل: هناك دون عمل تموت ومع العمل تموت أيضا، لا بقاء لك إن لم تدفع بلائك بنقودك، لذا كان على العمل طوال اليوم، وأعود إلى بيتى جسدًا عاشقًا للفراش والنوم العميق، ويومًا بعد آخر تبلدت روحى وصرت أتوافق مع منبه الساعة التى ترن فى الخامسة صباح كل يوم، كم كنت أكرهها، لكنى وفى نهاية الأمر استجيب لها، وانهض ملبيُا نداءها، وبعد أقل من نصف ساعة أتحول إلى إنسان آلى يعمل ليكسب المال فى نهاية اليوم."
إن الانتقال السريع والخاطف من ضمير المخاطب إلى المتكلم إلى الغائب، يدل على الذات المبعثرة وغير المترابطة للسارد، ففى ظل الحاجة الاقتصادية، يتحول الإنسان إلى مجرد ترس فى آلة تستلب ذاته وتنفيها.
وليس من الضرورى من وجهة نظر الشكلانية والبنائية – أن يتطابق تتابع الأحداث فى المونودراما مع الترتيب الطبيعى لأحداثها، كما جرت بالفعل، حيث يفرق الشكلانى الروسى "توماتشفسكى" Tomachevski هنا بين مصطلحين أساسيين، هما المتن الحكائى، المبنى الحكائى.
المتن الحكائى هو "مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها والتى تعرض بطريقة عملية، حسب النظام الطبيعى، بمعنى النظام الوقتى والسببى للأحداث وباستقلال عن الطريقة التى نظمت بها تلك الأحداث لو أدخلت فى العمل، وفى مقابل المتن الحكائى يوجد المبنى الحكائى الذى يتألف من نفس الأحداث، بيد أنه يراعى نظام ظهورها فى العمل، كما يراعى ما يتبعها من معلومات تعنيها لنا."
ومن هنا تكون للمتلقى وظيفة ذهنية، عندما يقوم بتجريد هذا المبنى إلى متن حكائى، بإعادة تسلسل الزمن الدرامى إلى زمن حقيقى موضوعى، أى الزمن الذى يسلسل الأحداث تسلسلًا طبيعيًا من الماضى إلى الحاضر، ومن ثم فالمونودراما تعد إعادة للماضى وفق الحاضر والمستقبل، ويعنى هذا أن زمن السرد يظل مترددًا بين الماضى المعيش والمستقبل المشوش غير المرئى، وهو ما يؤكده الناقد البنيوى "جيرار جنيت" Gerard Genette حيث يرى أن "زمن السرد لا يتقيد بالتتابع المنطقى للأحداث الذى يخضع له بالضرورة زمن القصة، حيث إن حادثة ما يمكنها أن تقودنا إلى الماضى أو تنطلق بنا إلى المستقبل، وقد تكون على مسافة قريبة أو بعيدة من لحظة الحاضر، "وتسمى هذه المسافة بالمفارقة ويقصد بها أشكال التنافر بين ترتيب القصة وترتيب الحكاية." التى تعد واحدة من أهم آليات زمن السرد، وتتحقق من خلال الاسترجاع (الارتداد إلى الماضى)، أو استشراف المستقبل.
وقد اعتمد نص "معكم انتصفت أزمنتى" على آلية الاسترجاع، حيث تمرد "مطرود" على القوانين المحفوظة للدراما، فأهمل عنصر التسلسل الزمنى، وحلق بالشخصية فى أجواء ماضيها لتستدعى ذكريات واقعها المتأزم الذى قادها إلى الشعور بالاغتراب ومن ثم إيثار الهروب والارتحال بعيدًا عن الأهل والوطن.
"الرجل: لم أعد احتمل وجودهم وتحقيقاتهم معى، كل يوم على الذهاب هناك لمشاهدة وجوههم التى كانت اسمًا للموت، كل يوم على أن أمضى على ورقة وأؤكد لهم وجودى، وأنى مازلت فى المدينة ولم أغادر حدودها، ولست بعيدًا عن عيونهم .. كانوا يخافون منى وأخاف منهم ولا يربطنا ببعضنا سوى ذلك الخوف الذى الذى فاحت رائحته، وحول أيامى إلى بؤس مدقع."
لقد أتخذ الزمن فى نص "مطرود" بعدًا ملحميًا بتعدد مستوياته خلال عملية التداعيات الفكرية حيث بتركب الزمن المسرحى من مستويين:
الأول: زمن اللحظة الحاضرة والفعل الآتى.
الثاني: زمن الفعل الماضى المستحضر، ويقصد به "الزمن الذاتى النفسى البعيد عن الزمن المنطقى التعاقبى"
ومن خلال التداخل المستمر بين الزمنين تتشكل البنية الدائرية للنص، حيث تكثر الانحرافات الزمنية، أو ما يسمى بالمونتاج الزمنى، الذى يلعب دورًا كبيرًا فى تدفق الأحداث، وتوترها.
كما ساهم تمرد "مطرود" على الترتيب المنطقى للأحداث فى ظهور بعض الفجوات فى المساحات السردية، فعلى سبيل المثال بدا السرد السابق، ناقصًا ومغلفًا باللبس والغموض؛ فهو لا يكشف لنا عن هوية الرجل، ولا يكشف عن هوية الذين يحققون معه، ولا يبين تفصيلات هذا التحقيق، أسبابه، أو دوافع ذلك الخوف الذى يربطه بهم، وهى فجوات مقصودة – من قبل الكاتب – لربط المتلقى بالسرد وحثه على الاحتفاظ بذاكرة نابضة لتتبع خيوط الحكاية فى أجزائها المتفرقة، لملء فراغات تلك الفجوات.
لقد توافقت آليات كتابة هذا النص، والنظريات الحديثة فى التلقى، "التى تمنح القارئ المكانة المتميزة، وتعطيه الحق فى أن يملأ الفجوات والتجاويف." ( ) حيث إن توجه السرد إلى تغيب قطاع من الحدث يتيح للمتلقى إعمال آلية خياله لإكمال النص.
يطالعنا السرد فى هذا النص بكثير من هذه الفجوات، التى كان يسمح "مطرود" للنص ذاته بملئها فى بعض الأحيان حيث يعمل السرد اللاحق على ملئ بعض فجوات السرد السابق.
وهو ما أطلق عليه "جيرار جينيت" اسم "استرجاعات تكميلية أو إحالات تضم المقاطع الاستعادية التى تأتى لتسد- بعد فوات الأوان- فجوة سابقة فى الحكاية وهكذا تنظم الحكاية عن طريق إسقاطات مؤقتة وتعويضات متأخرة قليلًا أو كثيرًا وفقًا لمنطق سردى مستقل جزئيًا عن مضى الزمن"( )
"الرجل: هجرت وطنى هربًا من تعسف السلطات باحثًا عن ذاتى ومستقرًا لروحى الهائمة, إلا أنى (بحزن) لم أعثر على ما أردت, تصورت بأنى سأقبض على ما فلت من يدى وأنا فى الوطن, إلا أنى لم أمسك على ريشة من جناح ذلك الطائر الذى هو أنا, فى بلدى ضعت وفى المنفى، اختفت آخر ملامح لى مع أسراب الطيور, وقررت العودة إليك وإلى الشوارع التى ودعت"

لقد أزاح السرد السابق بعض الغموض عن الأحداث, وكشف عن الواقع المتأزم الذى قاد الرجل إلى شعوره بالاغتراب داخل وطنه, نتيجة إحساسه بالانفصال عن النظام السياسى السائد بكل ما يحمله من قهر واستبداد, مما دفعه إلى الهروب, والعيش بعيدًا عن وطنه لتبدأ رحلة غربته, التى لم تقل بؤسًا وشقاءً عن رحلة اغترابه، وبذلك ساهمت الفجوات السردية فى توالد السرد وتدفقه.
أما الاستشراف باعتباره آلية من آليات زمن السرد, فنجده فى كلمات الرجل, التى يتنبأ من خلالها بمصيره المظلم المحتوم.

"الرجل:هنا سيطول بقاؤك والليالى السود أنيسك"

ويرى "جيرار جنيت" "ضرورة تنوع الإيقاع الزمنى من خلال الآليات السردية التالية (الخلاصة- القطع- الاستراحة- المشهد)"، بحيث تهدف الخلاصة والقطع إلى تسريع إيقاع السرد على عكس الاستراحة والمشهد, اللتين تلعبان دورًا مهمًا فى تبطيئ الزمن السردى، حيث إن:
"الخلاصة": تعتمد على سرد أحداث يفترض أنها جرت فى سنوات أو أشهر أو ساعات واختزالها فى أسطر أو كلمات قليلة، دون التعرض للتفاصيل.
أما القطع: فيعنى تجاوز بعض المراحل الزمنية من القصة دون الإشارة إليها بشيء, ويكتفى عادة بالقول (ومرت السنون- وانقضى زمن طويل ....الخ)."
وقد أعتمد الكاتب على هاتين الآليتين – بخاصة الخلاصة – بشكل يسمح بتكثيف الأحداث, وسرعة إيقاعها, وإلغاء التفاصيل الجزئية التى قد تسبب نوعًا من الملل والرتابة, هذا من جهة, ومن جهة أخرى, لاشك فى أن تغييب قطاع من الحدث يتيح للمتلقى إعمال آلية خياله لإكمال النص.
"الرجل: عشرون عامًا وأنا أبنى عالمى الجديد, أسرة صغيرة، معهم تشكلت روحى وسحنتى, وأخذ كل يشق طريقه فى الحياة".
¬
وفى موضع آخر يقول:
"الرجل: وبعد عشرين عاماً ضاقت بى الأرض أيضًا ودورانها بات يزعجنى وصرت أشم رائحتكم عن بعد وأفكر بكم كل ليلة"

أما الاستراحة فيقصد بها" التوقفات التى يحدثها الكاتب فى مسار السرد بسبب لجوئه إلى الوصف الذى يقتضى عادة انقطاع السيرورة الزمنية, وتعطيل حركتها". وقد لجأ الكاتب إلى هذه الآلية عند وصفه لفضاء المشهد المسرحى أو هيئة الشخصية, أو ما يدور داخلها.

"(يصمت الرجل بعد أن يتملكه الخوف ويكمل قراءته بصوت شبه مكتوم – يشرب فنجان القهوة بصورة سريعة – يتأمل – بحزن – يستمر بلصق الصور التى تتساقط ويعاود لصقها مع استمراره بالصراخ...... الخ)"

أما" المشهد ومعناه "المقطع الحوارى الذى يشكل اللحظة التى يكاد يتطابق فيها زمن السرد بزمن القصة من حيث مدة الاستغراق"، فلم يكن له وجود فى نص "مطرود", حيث خلا النص من أية حوارات ثنائية بين الشخصية والشخصيات المستدعاة.
ولم يكتف السرد بفتح دائرة الزمن, بل اتجه إلى فتح الحدث صوتيًا, معتمدًا على الصوت الخارجى الذى يعد من أبرز الوسائل الثانوية التى وظفها الكاتب للمساهمة فى خرق أحادية الصوت, وجاء ذلك عبر مصدرين:

أولهما: صوت سيارة الإسعاف:-
(- يأتى من بعيد صوت سيارة إسعاف- صوت سيارة إسعاف قادمة من بعيد)"
ثانيهما: صوت الشاحنات المارة على الطريق:-
(- يسمع صوت شاحنة على الطريق- يسمع من بعيد صوت شاحنة أخرى قادمة.)"
وقد ساعدت الأصوات الخارجية على خلق نوع من التوتر الدرامى؛ حيث شكلت مصدر قلق للشخصية, كما ساهمت فى تنامى الصراع النفسى داخلها؛ فصوت سيارة الإسعاف مثلًا, جاء محفزًا لشعور الخوف والهلع داخل الشخصية, خاصة بعد أن قرأ الرجل خبر تعجيل فرق الإسعاف بموت المرضى لبيع جثثهم.
كما كان لصوت الشاحنة الخارجى أثر فعال فى جعل السرد ذا طابع درامى, حيث شرعت الشخصية فى مخاطبة هذا الصوت وكأنه شخص ثان أمامها.

-"الرجل: هه هه لحظة أريد مساعدة (يعود إلى مكانه وهو فى كامل حزنه) الحزن يقتحمنى والأمل يفر منى.
-الرجل: (يصرخ طالباً للنجاة) أيها السائق توقف بالله عليك أحتاج مساعدة .. توقف (لكن الشاحنة تمضى دون أن تتوقف)"

يرى الناقد الإيطالى"امبرتو ايكو" Umberto Eco أن التناص من أهم آليات الكتابة السردية، ويؤكد "ضرورة أن يشتمل النص المونودرامى على الكثير من الإحالات على نصوص أخرى"
وقد اكتسبت الشاحنة فى نص "مطرود" من خلال صوتها الخارجى – وظيفة دلالية، بكونها رمزًا للخلاص الذى لن يأتى أبدا، مما يحيلنا إلى ثيمة الانتظار غير المجدى للخلاص فى المسرحية العبثية "فى انتظار جودو" للكاتب الإيرلندى "صمويل بيكيت" Samuel Becket” (1906-1989م) خاصة مع تكرار سماع الرجل لصوت الشاحنة أكثر من مرة، عبر رحلة النص المونودرامى دون استجابة لاستغاثاته.
ولأن الخلاص الخارجى غير متاح, أو غير مسموح به, فالخلاص الداخلى, هو الملجأ الوحيد للشخصية, وهو ما انتهى إليه النص فى دفقته الأخيرة؛ حيث عاقبت الشخصية نفسها, على ذنب لم تقترفه, وانسحبت إلى خارج المسرح, بعيدًا عن مستودع الذكريات (الصور-الرسائل), التى تساقطت على الأرض واحدة تلو الأخرى, مع سماع صوت سيارة إسعاف قادمة من بعيد, وشيئًا فشيئًا يملأ الصوت الخشبة كلها إيذانًا باستقبال شخص جديد فى طريقه للموت والتشيؤ.
ومن أهم الآليات التى ساهمت فى خرق أحادية الصوت المتفرد, والتى أعطت للسرد زخمًا دراميًا مميزًا, تحميل السرد على أكثر من صوت من خلال توظيف فعل القراءة.

"الرجل: (يخرج رسالة-يقرأ) صديقى العزيز (يتوقف عن القراءة) هذه رسالة من صديقى, الأصدقاء قلة وهذا واحد منهم توطدت العلاقات كثيرًا بعد أن غادرت الوطن (يقرأ) أراك حلمًا يضاف إلى أحلامى.... ولكنى أتمنى أن تنتبه إلى نفسك وتنشغل بهمومك, وأعلم أن وجودك هناك يساعدنا كثيرًا لأننا نشعر أننا قريبون من الموت دائمًا ومسحة الحزن والتشاؤم هى صفتنا الغالبة, بك نتغلب على خسارتنا ونشعر أننا لم نخلق عبثًا (يتوقف عن القراءة) لماذا جاءتني رسالتك هذه فى الوقت الذى عزمت على الوصول إليكم.... كلماتك أيها الصديق تخيفنى وتهزنى وسط هذا الفراغ." ( )

تعتبر الرسائل "أحد الفوائد التقنية فى الكتابة السردية، فهى على نقيض السرد تستخدم صيغة المضارع, محدثة فى القراء بناءً على ذلك إحساسًا بالتنوع الزمنى"
وبالرغم من استحواذ الرجل على فعل السرد, فإن هذا الاستحواذ لم يكن كاملًا, ففى السرد السابق, توقف ملفوظ السارد (الرجل) لترك مساحة من التعبير لملفوظ شخصية أخرى (الصديق) عبر قراءة رسالة منه. ونلاحظ أن الرجل, يحاول السعى لاستعادة استحواذه على السرد, بقطع فعل القراءة، والتعليق على ما جاء فى الرسالة، مما ساعد على خلق حالة من التوتر الدرامى, ساهمت فى إعادة تقييمه لقرار العودة إلى الوطن, حيث هزته الكلمات, وهو يعيد قراءتها وسط حالة الضياع التى تحاصره.

وقد تكررت هذه الآلية مع قراءة رسالة الأخ الأكبر مما يتيح تقديم السرد بتلوينات صوتية متنوعة.
"الرجل: ( يخرج رسالة أخرى- يقرأ) أخى الحبيب (يتوقف عن القراءة) هذه الرسالة من أخى الأكبر, أحفظ له الكثير من الرسائل لأنه لم ينقطع عن مراسلتى (يقرأ) أخى الحبيب ولأنك طلبت منى أن أكون واضحًا وصريحًا معك, فسأخبرك بجزء من الحقيقة (يتوقف عن القراءة) دائمًا كانت رسائله تربكنى, ولكنى أطالعها مرارًا (يقرأ) الكثير من الأمور قد تغيرت أيها الأخ الصديق , بعد رحيلك كبر الصغار وشاخ الكبار والقسوة عرفت طريقها إلى القلوب."
وقد شكلت اللغة فى نص "قاسم مطرود", نسقًا فكريًا وجماليًا من خلال ملامسة شفافية المعنى, وإيقاعه ووضعه فى قالب حوارى يعتمد على التداعيات الشعورية واللاشعورية.

وقد تشكلت الصياغة اللغوية لبنية الحوار من ثنائيات متضادة عدة, عكست حالة الانقسام النفسى داخل ذات الشخصية مثل (الغربة والاغتراب), (الانتظار والرحيل)، (الموت والحياة)، (الأمل واليأس), (الأمان والخوف), وغيرها من الثنائيات التى فاض بها النص ليعبر عن الصراع الداخلى للشخصية مع ذاتها استبطانًا وتأملًا وبوحًا واعترافًا وهذيانًا وتساميًا وذلك من خلال حالات مبعثرة من البوح الذاتى, يبكى خلالها البطل عجزه وهمومه واغترابه من خلال ذاته عن ذاته, وعن ذات هذا العالم.

"الرجل: بقيت ثلاثة أيام تائهًا في البحر والزورق الذى حملنا أغمض عينيه عن الطريق والأمواج العاتية تأخذنا حيثما تشاء, نمت على الأرصفة والبرد يثقب جسدى, أتعبنى الجوع والحر والبرد والحسرات."

كما تؤكد كثرة الإشارات المفعمة بالتفاصيل على أن هذا النص كتب تحت هاجس العرض."
لذا نرى الكاتب يركن إلى آلية كسر الحائط الرابع- من خلال المنظور البريختى- عن طريق الخطاب المباشر الموجه إلى الجمهور, ليحقق تواصلًا حميميًا, وإيجابيًا مع المتلقى.

"الرجل : (ينظر إلى الجمهور لنصف دقيقة ويقول بصوت خفيض) يالخيبتى..... أنتظر المساعدة فى هذه القفرة."
وفى موضع آخر يتوجه إلى الجمهور قائلًا:
"الرجل:أريد الجلوس إلى جانبكم وأحكى لكم قصتى التى لا تنتهى (برهة) ولكن لماذا أتعبكم بقصتى وترحلاتى."

لقد أراد "مطرود" أن يشرك المتلقى بأن يجعله معنيًا بمعاناة بطله؛ حيث إن التوجه بالحديث إلى الجمهور يحطم كل الحواجز المصطنعة بين الخشبة والمتفرج, ويدعوه للتفكير فيما يقدم إليه, ليتمكن من استنتاج حلول مناسبة لمشكلات الحياة."
كما تميز أسلوب "مطرود" بلغة الكشف, وتعرية الواقع, بعيدًا عن أسلوب النزعة الخطابية, والتحريض المباشر, وغيرها من الأساليب التى تفقد المتلقى إحساسه بقيمة الخطاب الموجه.
كما استطاع الكاتب أن يوظف مفرداته بشكل جيد يتناسب والطبيعة النفسية للشخصية, بتعامله مع اللغة باعتبارها كائنًا ينمو ويتطور ليمنح التركيبات اللغوية زخمًا دلاليًا يفوق بكثير معناها المعجمى الضيق, حيث اعتمد "مطرود" فى نصه على مجموعة من الصور البلاغية مما جعل هذا النص يتخذ منحى رمزيًا وذهنيًا ثريًا, يدفع المتلقى إلى استخدام مخيلته التأويلية لقراءة الشفرة بدقة محكمة, منها:

(تحجرت القلوب- أعود إلى بيتى جسدا عاشقا للفراش- لم أمسك على ريشة من جناح ذلك الطائر الذى هو أنا- اختفت آخر ملامح لى مع أسراب الطيور -تكسرت الأحلام على حافة الترحال- هناك زحف التصحر إلى النفوس والشوارع والأزقة وأنا الحالم بالنسيم..... الخ)

لقد نجح الكاتب من خلال توظيفه للتشبيه والاستعارة والكناية من رسم لوحة سمعية تموج بالصور والخيالات, تسمح بقراءة النص سيميولوجيًا والولوج إلى متعرجاته, محاولًا اختراق حدوده, لا للقبض على المعنى الأوحد فيه, بل لتحقيق إزاحات دلالية يتحملها النص.

من المعروف أن لغة الخطاب المسرحى كثيرًا ما تتضمن صيغة السؤال والجواب لإدارة الحوار بين الشخصيات المسرحية, لكننا نلاحظ فى هذا النص أن السؤال قد وظف لإدارة السرد, ومن ثم كان له وظائف متعددة, فتكرار صيغة السؤال, أكثر من مرة عبر رحلة النص, دون حضور إجابة على نحو من الأنحاء, يعكس حالة الحيرة والقلق والتخبط التى تعايشها الشخصية.

 هل يوجد قلب بهذه القسوة؟
 لماذا لا أستوعب العالم على حقيقته؟
 لماذا لا يستوعبنى مكان؟
 أمى ترى كيف أنت الآن؟
 إلى أين ذاهب أنت أيها الرجل؟ ...... إلخ)"
قد يتيح هذا التوظيف للملتقى أن يشارك فى إنتاج الحدث ويتدخل ذهنيًا بطرح الإجابة أحيانًا.
كما كان للسؤال وظيفة أخرى باعتباره آلية من آليات الكتابة السردية وبوصفه أداة فاعلة لتنمية السرد, حيث تتوالد من خلاله مزيدًا من التفصيلات والأحداث بتعدد الأسئلة المحفزة.

"الرجل: هل مازال زقاقنا كما هو؟ الناس تحب بعضها البعض؟ هنا تحجرت القلوب، والكل يركض ليل نهار جريًا وراء وهم الحياة, لقد تعبت من الركض ومن حساب كل شيء."

كما يعتبر الصمت لغة لها خصائصها التعبيرية على مستوى الأدب فى جميع أجناسه, وربما يتفوق الصمت على الحوار الكلامى فى بعض المواقف التى يكون الصمت فيها هو الطريقة الوحيدة لنقل حالة التأزم الدرامى الحرجة التى تقع فيها الشخصية المسرحية, فالصمت فى كثير من الأحيان"هو الذى يضفى القيمة على الكلمات"

ومن خلال القراءة الكمية للنص سنلاحظ الكثافة الترددية للإشارة المسرحية "برهة", "فترة صمت قصيرة", حيث ترددت الأولى على امتداد النص نحو إحدى وعشرين مرة, بينما تكررت الثانية سبع مرات, وهو ما يؤكد اعتماد الكاتب على لغة الصمت باعتبارها علامة بنائية من عناصر البناء اللغوى التعبيرى, حيث وظف الكاتب الصمت فى هذا النص, ليزيد من ترقب المتلقى للأحداث, وتحفيزه لمواجهة التحولات النفسية للشخصية, كما كان عاملًا مهمًا لتجسيد صدمة الشخصية ودهشتها, وكان فى أحيان أخرى دلالة على خيبة الأمل والانكسار, وهو فى كل صوره تعبير صادق عن صمت الحياة وتوقف الزمن.

كما عمد السرد فى نص "مطرود" إلى آلية المزج بين اللفظية والحركية من خلال الجمع بين لغة ذاتية وانفعالية مشحونة بالتأزم والاضطراب النفسى, ولغة حركية بصرية لتجسيد هذا التأزم النفسى والانفعالى, حيث "يمثل وصف جسد الممثل ووضعه على خشبة المسرح وشكل الحركة المميزة له جزءًا مهمًا فى التعبير الدرامى"

"الرجل: (يخرج من سيارته, يركلها برجله) يا لهذا الحظ النحس وأنت الأخرى فقدت الأمل بك (برهة) ماذا افعل الآن (يأخذ المسرح ذهابًا وإيابًا دون أن ينطق بكلمة لكنه يتوقف بين الحين والآخر وينظر إلى الجمهور ثم إلى يمينه وشماله, وينظر إلى الجمهور ثم إلى يمينه وشماله, وينظر إلى داخل الكرفان, يتقدم ثم يتراجع)"

نستشعر فى كلمات الشخصية بنبرة البطل الإشكالى الذى يعرف أن القدر يعانده, نبرة اليأس والاعتراف بالعجز والحيرة والتخبط, وقد توافقت الحركة مع هذه الحالة الشعورية, وعبرت عن حجم المشكلة التى تواجه الشخصية, فقد تعطلت سيارة الرجل ومعها تعطل قراره فى الذهاب إلى وطنه, أو العودة من حيث أتى.
وقد بلغ التوافق بين اللغة والحركة مداه فى نهاية النص حين يأس الرجل من انتظاره غير المجدى, فيقرر الرحيل إلى المجهول بحثا عن الخلاص.

"الرجل: علق صور الأهل والأحبة عسى أن تسعف ذاكرتك وتنسيك بعض مما أنت فيه (يقوم بسرعة بلصق الصور على الكرفان بصورة عشوائية) هنا ألصق هنا... ابدأ من هنا... وأبحث عن متنفس جديد (يستمر بلصق الصور التى تتساقط ويعاود لصقها مع استمراره بالصراخ وبترديد كلمة هنا) هنا هنا هنا, كى تكون شاهدا على رحلتك التى لم تكتمل بعد, ألصق صورك واترك رسائلك, عسى أن يأتى أحد المارة ويتعرف عليك (ينتهى من لصق الصور, يتوقف فى وسط المسرح وهو يلفظ أنفاسه بصعوبة) على أن أسير على أقدامى بحثا عن مخلص من رحلة عمر مرة". ( )

وقد أضفى الكتاب طابع الشمولية على نصه, فالنص خال من كل تحديد دلالى للمكان والزمان؛ فهناك فقط الخلفية التى تتحول بإشارات توحى بامتداد الآفاق فى المطلق.
كما أعفى "مطرود" الشخصية من أى وصف, فلم يمنحها اسمًا ولا وصفًا ولا وطنًا, ليطلق العنان لخيال المتلقى لتجسيد الصورة الموافقة لفهمه، كما أن غيبة الاسم العلم تعني بالضرورة بأن (الرجل), قد أصبح العلم الذى يمكن أن يلتصق بكل مواطن عربى, شعر بالاغتراب داخل وطنه, فهرب من حضنه الدامى, أملًا فى البحث عن متنفس خارجه, فكان الضياع قدره ومصيره.

ويرى الباحث أن الكاتب "قاسم مطرود" قد برع فى توظيف الآليات والوسائل الفنية التى ساعدت على كسر أحادية الصوت وحافظت على بناء السرد بشكل جعل المتلقى ينشد إليه, وينفعل به، ولم يسيطر عليه الملل.
وعلى الرغم من تعدد المشاهد والمواقف داخل المونودراما فقد امتاز النص بالوحدة الفنية والموضوعية, ضمن تجربة فنية تتسم بالترابط العضوى, ويتحقق فيها التماسك الدلالى والشعورى والنفسى, حيث يمتد خيط اليأس والاغتراب والعزلة من بداية النص حتي نهايته.

وقد توصل الباحث فى نهاية البحث إلى مجموعة من النتائج يمكن تلخيصها فيما يأتى:
1. حمل النص ثيمة من أهم الثيمات التى اهتمت بها المونودراما وهى ثيمة الغربة والاغتراب, باعتبارها ثيمة تتوافق مع هم الكاتب الذاتى والموضوعى وتكشف عن تمزقه الذهنى والوجدانى فى صراعه المرير مع الذات والواقع الخارجي مما منح النص قدرًا من المصداقية.

2. أثبت الباحث نجاح الكاتب "قاسم مطرود" فى توظيف مجموعة من الآليات والتقنيات الفنية والجمالية التى ساهمت فى كسر أحادية الصوت وتدفق إيقاع الأحداث مثل:
 آلية الاسترجاع (الفلاش باك), واستشراف المستقبل, حيث لم تنتظم مكونات السرد زمنيًا, ولكنها تحركت حركة ترددية بين الماضى والحاضر والمستقبل, دون قيود.
 آلية استدعاء شخصيات افتراضية صامتة من الماضى، ساهمت فى تعميق الصوت الدرامى الأحادى للشخصية المونودرامية.
 أثبت الباحث أن النمط البنائى الترددى لم يدفع السرد إلى مسار عشوائى رغم تداخل الأحداث والأزمنة بفضل الوحدة العضوية للنص ككل.
 لاحظ الباحث أن النص قد امتاز بالإيقاع السريع المتدفق للأحداث؛ حيث استحالت خطوط السرد إلى شبكة مركبة تتحرك خيوطها طولًا وعرضًا وعمقًا لتلاحق الأحداث فى أطرها الزمانية والمكانية والإضافة إلى توظيف الكاتب لآليتى القطع والخلاصة التى ساهمت فى تكثيف الأحداث.
 أثبت الباحث أن نجاح الكاتب فى توظيف الضمائر الثلاثة (المتكلم-المخاطب-الغائب) كان من أهم الأسباب التى أدت إلى سرعة إيقاع الحدث, حيث الحركة السريعة من ضمير إلى ضمير, كما لاحظ الباحث أن ضمير المتكلم قد استولى على زمام الحكى عندما أراد الكاتب الكشف عن مكنون الشخصية الداخلى أما ضمير المخاطب فقد زرعه الكاتب عند توظيفه لآلية الاستدعاء ليوجد نوعًا من الأبنية الحوارية تقاوم طبيعة النص السردية, كما وظف الكاتب ضمير الغائب ليتيح للسارد منطقة علوية يطل منها على ماضيه بأحداثه وشخوصه.
 أوضح الباحث أن الصوت الخارجى من أهم الآليات التى وظفها الكاتب فى هذا النص والتى ساهمت فى كسر أحادية الصوت المنفرد, وذلك من خلال (صوت سيارة الإسعاف- صوت الشاحنات) التى صاحبت الأحداث طوال النص وخلقت نوع من التوتر الدرامى للشخصية والمتلقى على السواء.
 لاحظ الباحث اعتماد الكاتب على آلية المزج بين لغة سمعية ذاتية انفعالية مشحونة بالتوتر والاضطراب النفسى, ولغة حركية بصرية لتجسيد هذا التوتر, مما ساهم فى حالة التجسيد التصويرى للموقف الدرامى.
 وظف الكاتب الصمت باعتباره واسطة تتمظهر من خلالها الحالات النفسية للشخصية الدرامية, وتزيد من حالة الترقب لدى المتلقى.
 قام النص فى أحد أجزائه على آلية التناص مع نصوص سابقة لمبدعين آخرين فأحالنا إلى النص العبثى "فى انتظار جودو" للكاتب الإيرلندى "صمويل بيكيت" لتوطيد الفكرة وتأكيدها فى خيال المتلقى.
 لاحظ الباحث توظيف الكاتب للأسئلة والمحسنات البديعية فى اللغة مما أعطى للنص ثقلًا بلاغيًا وتعبيريًا. كما ابتعدت لغة "مطرود" عن أسلوب الخطابة والنزعة الوعظية والتحريض المباشر.
 أوضح الباحث محاولة الكاتب لاستنبات التقنيات الملحمية عن طريق اللجوء إلى الخطاب المباشر الموجه للجمهور – فى بعض الأحيان – ليحقق انزياحًا وخروجًا عن المسرح التقليدى السائد, ويحقق تواصلًا حميميًا وايجابيًا مع المتفرج الذى يقف موقف الناقد, يرى ويفكر, فيرفض ويغير.
 لاحظ الباحث تضمن السرد لبعض الفجوات, وتغييب جزء من الحدث ليمنح المتلقى الحق فى ملئه بإعمال خياله متوافقًا فى ذلك مع النظريات الحديثة فى التلقى, لكنه –أحيانًا وبعد فترة زمنية ليست بعيدة- كان يقدم سردًا آخر يملأ الفجوة فى السرد السابق, ليضمن ربط المتلقى بالسرد وحثه علي الاحتفاظ بذاكرة نابضة لتتبع خيوط الحكاية.

3. لاحظ الباحث كثرة الإرشادات المسرحية للكاتب المفعمة بالتفاصيل والملاحظات الإخراجية ويرجع الباحث ذلك لحسه الإخراجي, بوصفه مخرجًا مسرحيًا, حيث قدم إرشادات حول كيفية تشكيل الديكور, الإضاءة, والتعبير الحركى للشخصية (حركة جسد-إيماءة-انتقال فوق خشبة المسرح), وتجولاتها الشعورية وأسلوب الأداء الصوتى, مما يؤكد على أن النص قد كتب تحت ضغط هاجس العرض.

4. أثبت الباحث نجاح الكاتب فى توظيف المكان, وقطع الديكور, باعتبارها علامات سيميولوجية تعكس الحالة النفسية للشخصية؛ حيث ارتكز النص على مستوى المكان على عدة نقاط احتضنها المنظر المسرحى مثل(السيارة المعطلة –الكارفان –أعمدة الإنارة الخافتة- الأشجار العالية....إلخ), وقد لعبت هذه المرتكزات دورًا مهمًا فى عكس حالة الانقسام والضياع والحيرة واليأس التى تعانيها الشخصية.
5. لاحظ الباحث تعمد الكاتب خلق حالة من العمومية والشمولية على قضاياه المطروحة فى النص, مما يؤكد على انفتاح النص المونودرامى على الخاص والعام.







المصادر والمراجع:
1- إبراهيم حمادة: معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، دار المعارف، القاهرة، 1985.
2- إبراهيم سكر: الدراما الإغريقية، المكتبة الثقافية، ع (203)، دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، القاهرة، 1968.
3- أحمد صبرة: متعة السرد، مؤسسة حورس الدولية للنشر والتوزيع، إسكندرية، 2011.
4- أحمد صقر: المونودراما ظاهرة المسرح الفردى بين القبول والرفض http://www.ahewar.org
5- إمبرتو إيكو: آليات الكتابة السردية (نصوص حول تجربة خاصة) ترجمة سعيد بنكراد, دار الحوار للنشر والتوزيع, سوريا, 2009.
6- توماشفسكى: "نظرية الأغراض" فى نظرية المنهج الشكلى، ترجمة: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1982.
7- جميل حمداوى: المونودراما فرجة شاملة بصيغة المفرد http://www.almothqaf.com.
8- جيرار جينيت: خطاب الحكاية، بحث فى المنهج، ترجمة: عبد العزيز شبيل، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997.
9- حميد لحمدانى: بنية النص السردى من منظور النقد الأدبى, المركز الثقافى العربى للطباعة والنشر, ط1 بيروت, 1991.
10- رانيا فتح الله: دور المخرج فى مسرح المونودراما فى مصر، النشأة والأداء، مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، فرع دمنهور، العدد 34، يونيو 2010.
11- رشا ناصر العلى: الأنساق الثقافية فى مسرح سعد الله ونوس. المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة, 2008.
12- روربرت هولب: نظرية التلقى، مقدمة نقدية، ترجمة، عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2000.
13- سيزا قاسم: القارئ والنص، العلامة والدلالة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2014.
14- عصام الدين أبو العلا: آليات التلقى فى دراما توفيق الحكيم, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, 2007.
15- قاسم مطرود: معكم انتصفت أزمنتى.
16- كمال يونس: المونودراما (عرض الممثل الواحد)، بحث منشور فى كتيب المهرجان الرابع للمونودراما الذى نظمته الجمعية المصرية لهواة المسرح فى الفترة (18-26) يونيو، القاهرة 2009.
17- محمد حمدى إبراهيم: نظرية الدراما الإغريقية، مكتبة لبنان، 1994.
18- محمد عبد المطلب: بلاغة السرد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2001.
19- محمود رجب: الاغتراب، سيرة مصطلح، دار المعارف، القاهرة، 1968.
20- ملحة عبد الله: المونودراما وأزمة المصطلح، (جريدة مسرحنا)، العدد 237، لعدد 246 فى أبريل 2012.
21- نهاد صليحة: أمسيات مسرحية: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987.
22- والاس مارتن: نظريات السرد الحديثة, ترجمة: حياة جاسم محمد, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة, 1998.
23- ينجاى ألواران: فى مجال الصمت, ترجمة: كاظم سعد الدين, دار الحكمة, بغداد, 2009, ص41.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة