الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علي الوردي والطبيعة البشرية

ابراهيم الحيدري

2017 / 11 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع




للجاحظ رأي خطير يقول فيه: "ان الله لا يعاقب الكافرين على كفرهم إلا من كان منهم معاندا حقا فيؤثر الكفر بدافع من مصلحته الشخصية". ففي رأي الجاحظ ان آراء الانسان وعقائده ليست ارادية، بل هي مفروضة عليه نتيجة تكوين عقله وما يعرض عليه من آراء. فمن عُرض عليه دين فلم يستحسنه عقله فهو مضطر الى عدم استحسانه. وهو إذن ليس مسؤولا عن اعتقاده إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فمن أصيب بعمى الألوان فرأى الأحمر أسودا فلا لوم عليه في ذلك وكذلك الشأن في المقولات.
ان هذا الرأي يتناقض مع المنطق القديم المبني على أساس ان الانسان يعتنق عقيدته بإرادته وانه يصل اليها عن طريق التفكير والرؤية، ومن الظلم ان نعاقب الناس على عقائدهم التي لقنّوا بها في نشأتهم الاجتماعية. والواقع ان الانسان يؤمن بعقيدته التي ورثها عن آبائه أولا ثم يبدأ بالتفكير فيها أخيرا. وغالبا ما يصل تفكيره الى تأييد تلك العقيدة. ومن النادر ان نجد شخصا يبدل عقيدته من جراء تفكيره المجرد وحده. فلابد ان يكون هناك عوامل أخرى تدفعه الى ذلك. وكثير من الناس يعتقدون أنهم وحدهم أصحاب الحق وغيرهم على باطل.
هذه الأفكار الحساسة عالجها عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين الذي صدر في بغداد عام 1954 وطرح فيه أفكار مثيرة وصريحة وجريئة حول طبيعة الانسان ووجه فيه انتقادات لاذعة الى وعاظ السلاطين الذين يعمدون في كتاباتهم وخطبهم ومواعظهم التي تقوم على منطق الوعظ والإرشاد الافلاطوني القديم، الذي هو منطق المترفين. فالطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد لوحده، ولا يمكن التأثير على الانسان قبل دراسة ما جبل عليه من صفات وسلوك. وكان القدماء يتصورون بان الانسان عاقل وحر ويسير في الطريق الذي يختاره في ضوء المنطق القديم والتفكير المجرد، ولهذا أكثروا من الوعظ والإرشاد اعتقادا منهم بأنهم يستطيعون بذلك تغيير طبيعة الانسان وتحسين أخلاقه. وقد دأب الناس على ذلك منذ مئات السنين ولم يتأثروا بالموعظة إلا حين تلقى عليهم، فنراهم يتباكون في مجالس الوعظ، فإذا خرجوا منها نسوا ما سمعوه من موعظة.
وقد ظل وعاظ السلاطين طوال التاريخ في الإسلام يمطرون الناس بمواعظهم وخطبهم الرنانة فلم ينتفعوا منها بشيء. إنهم دأبوا على وعظ المظلومين وتركوا الظالمين، ولهذا اتخذهم الطغاة آلات في أيديهم لينذروا الناس بعذاب الآخرة وينسوهم بذلك ما حل بهم في هذه الدنيا من عذاب.
ان وعاظ السلاطين هم مثل شعراء السلاطين والمداحين وبعض خطباء المنابر الذين يريدون تغيير طبيعة الناس واخلاقهم بالخطب والمواعظ الرنانة، ولم يدركوا بأنهم يطلبون المستحيل، لأنهم سوف لن يجدوا أذناً صاغية لمواعظهم. ويأتي الوردي بعدد من الأمثلة على ذلك. فبعض الوعاظ يطلبون من الناس ان ينظفوا أنفسهم من الحقد والحسد والأنانية والنفاق، وهم أنفسهم أكثر أنانية وحسداً ونفاقاً. كما ان تغيير هذه الصفات من الناحية الاجتماعية لا يتم إلا بتغيير الظروف الاجتماعية التي سببتها وكذلك الدوافع التي دفعت اليها، وعلى وعاظ السلاطين ان يغيروا أنفسهم قبل ان يطلبوا من الآخرين ذلك.
ان وعاظ السلاطين ما زالوا يفكرون ويكتبون ويخطبون على نمط ما كان عليه الفلاسفة القدماء، فاذا رأوا ظاهرة اجتماعية أو نفسية غير إيجابية أخذوا يمطرون الناس بالخطب والمواعظ الرنانة ويعتقدون بأنهم يستطيعون اصلاحهم بذلك، في حين ان علماء الاجتماع يحاولون التعرف على الظروف الاجتماعية والعوامل النفسية والدوافع التي تؤثر في تفكير الناس وفي سلوكهم ومواقفهم من الآخرين، وبعد ذلك يحاولون اصلاحهم.
من هذا المنطلق وجه علي الوردي نقدا لاذعا الى وعاظ السلاطين الذين يستخدمون المنطق الشكلي القديم في تبرير آرائهم واعتبره منطق السلاطين والمترفين. وهو بهذا انتقد التحالف الثلاثي بين الحكام الطغاة والمترفين ووعاظ السلاطين، لأنهم من نوع واحد. هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم وأولئك يظلمون الناس بأقوالهم.
يرجع بعض رجال الدين سبب عدم الاهتمام بالدين ما نعاني من تفسخ خلقي واجتماعي الى سوء الأخلاق واعتبروا الإصلاح الاجتماعي أمراً سهلاً وميسوراً. فبمجرد أن يصلح المرء الاخلاق، تغسل من القلوب أدران الحسد والأنانية ويتحول الناس، بين ليلة وضحاها، الى سعداء. ويعود خطل مثل هذا الرأي الى أن النفس البشرية يمكن غسلها بالماء والصابون ليزول عنها كل ما علق بها، وما علموا انه مهما حاول الناس ورفعوا أصواتهم لتهذيب أخلاق الناس، فإنهم لن يؤثروا بمنطقهم هذا، لأن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ والإرشاد المجرد لوحده، قبل دراسة ما جبل عليه المرء من صفات وما أثر فيه من ظروف. فقد اعتاد الناس" ان يسمعوا المواعظ من غير ان يعيروا لها اذناً صاغية ".
ويلاحظ المرء ان الوردي لم ينتقد الدين، وإنما انتقد أولئك الذين لبسوا لباس الدين واستخدموا الدين كسلاح لتحقيق مصالحهم ومصالح الطبقات العليا. وكان هدف الوردي من ذلك هو لفت الأنظار الى خطر مثل هذا النوع من وعاظ السلاطين الذين تربوا في أحضان الطغاة وعلى فضلات موائدهم. كما أشار الى أن من أهم نتائج الوعظ هو خلق صراع نفسي بين ما يسمعه الفرد، وبين ما هو موجود في الواقع. ان مشكلة الوعاظ أنهم يريدون تقويم السلوك البشري بمجرد قولهم للإنسان: كن أو لا تكون!، وهم يعتقدون بأن الانسان مجبول من طين ويستطيعون تكييفه كم يشاؤون.
والمفارقة، هي "ان كل ما علمونا ووعظونا به قد يؤدي الى نتائج معاكسة"، فقد تعودنا مثلاً على سماع المثل المعروف “من جد وجد" وان "كل من سار على الرب وصل". مثل هذه النصائح والمواعظ تلقى لتحريض الناس على الجد والمثابرة والاجتهاد والتي من الممكن ان تكون مفيدة، ولكنها قد تؤدي ايضاً الى نتائج عكسية، حيث " تجري الريح بما لا تشتهي السفن.
من هذا المنطلق التنويري دعا الوردي الى ضرورة تغيير اساليب تفكيرنا وعملنا وسلوكنا
وكذلك المنطق الارسطي القديم وان لا نفكر على نمط ما كان يفكر به اجدادنا القدماء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا خصّ الرئيس السنغالي موريتانيا بأول زيارة خارجية له؟


.. الجزائر تقدم 15 مليون دولار مساهمة استثنائية للأونروا




.. تونس: كيف كان رد فعل الصحفي محمد بوغلاّب على الحكم بسجنه ؟


.. تونس: إفراج وشيك عن الموقوفين في قضية التآمر على أمن الدولة؟




.. ما هي العقوبات الأميركية المفروضة على إيران؟ وكيف يمكن فرض ا