الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجوانب المظلمة لأزمة الكهرباء في العراق

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2017 / 12 / 3
مواضيع وابحاث سياسية



تصاعد التوتر في الشارع العراقي على خلفية احتدام الجدل حول موضوع الكهرباء على الرغم من أن هذه الفترة التي تسود فيها درجات حرارة منخفضة، تشهد عادة نوعا من الاستقرار في إمدادت الطاقة. تتجلى هذه الخلافات الحادة حتى في التسميات والشعارات. ما تصفه الحكومة بمشروع "الخدمة والجباية"، يراه آلاف المحتجين في شوارع بغداد الناصرية والبصرة والحلة وغيرها محاولة في الظلام لتمرير "الخصخصة" التي يعتبرها البعض شرا مستطيرا. ففي الوقت الذي وصف فيه النائب عن دولة القانون منصور البعيجي خصخصة الكهرباء "يوما أسود" في تاريخ الحكومة الحالية، دخلت مجالس بعض المحافظات على الخط وأعلنت وقوفها ضد قرارات الحكومة المركزية وهددت بإلغائها. ويبدو أن بعض السياسيين لا يرى ضيرا في المزايدة في هذا الموضوع طالما أنها لا تكلفهم شيئا ويمكن أن تفيد في الانتخابات القادمة. من جهة أخرى تكاد هذه الضجة أن تسرق الأضواء من حملة مكافحة الفساد حتى قبل أن تبدأ هذه الحملة عمليا وقبل أن يُماط اللثام عن قائمة يُقال إنها تضم كبار الفاسدين.
من دون شك جاء تحرك الشارع نتيجة مخاوف من ارتفاع التسعيرة الحكومية، ومن أن تزيد فاتورة الكهرباء من أعباء المستهلكين، وعلى وجه الخصوص ذوو الدخل المحدود منهم. لكن من الغريب حقا أن ترفع المظاهرات شعار معاداة "الخصخصة"، وذلك لسبب بسيط جدا هو أن الخصخصة دخلت فعلا قطاع الكهرباء منذ عام 2003 نتيجة فشل الحكومة في حل الأزمة. هناك مئات الآلاف من المنازل والعوائل العراقية تعتمد فعليا على المولدات الخاصة في تغطية جزء من حاجاتها. ومن المؤكد من بين المحتجين كثيرون يدفعون شهريا "بطيبة خاطر" الفواتير الباهظة لأصحاب المولدات الخاصة. مع ذلك لا تندد الاحتجاجات بهذا الشكل المتخلف للخصخصة وبآثاره الاقتصادية والبيئية السلبية، وإنما بخطط الحكومة لإحالة جباية الكهرباء إلى شركات خاصة تتولى بيع الطاقة واستحصال فواتير استهلاكها من المواطنين مباشرة مقابل رسوم معينة.
لم تأتِ هذه الخطط الحكومية من فراغ وهي ليست محاولة للمساس بحقوق الفقراء كما يصورها البعض، وإنما نتيجة لتحول الكهرباء إلى ثقب أسود هائل يمتص المال العام ويلحق أضرارا فادحة بجميع العراقيين بغض النظر عن مستوى دخلهم. يمكن تلخيص أزمة الكهرباء بثلاثة عناوين رئيسية مترابطة فيما بينها هي : الفساد والتجاوز والتبذير. من هنا يمكن القول بإن الأزمة هي ليست أزمة توليد وإنتاج بالدرجة الأولى وإنما أزمة توزيع واستهلاك.
حتى الآن بقيت الأبعاد الحقيقية للفشل الحكومي في مجال الكهرباء بعيدة نسبيا عن الأضواء بسبب التركيز على المظاهر فقط. صحيح أن المواطنين أول من يعاني من انقطاع التيار الكهرباء في عز الصيف، وعبروا عن غضبهم في مناسبات عديدة، إلا أن الخسائر المالية الجسيمة في هذا القطاع بقيت خارج اهتمام الرأي العام. بيد أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ألقى مؤخرا - ربما تحت ضغط دولي - الضوء على الجوانب القاتمة في قطاع الطاقة، وذلك في خطاب النوايا الذي أرسله إلى صندوق النقد الدولي قبل بضعة أشهر والذي تضمن أيضا جدولا لخص الواقع المزري لقطاع الكهرباء.
بحسب بيانات هذا الجدول تُنفق الحكومة على الكهرباء في السنة ما يزيد عن 13 ترليون دينار (ما يقارب 11 مليار دولار)، بينما تبلغ الإيرادات المحصلة من المستهلكين 1,5 ترليون دينار فقط (قرابة 1,3 مليار دولار). وهذا يعني أن العجز الإجمالي يبلغ 11,7 مليار دولار ويتجاوز لوحده 5% من النائج المحلي الإجمالي للبلاد. وهو عجز كبير بكل المقاييس ويعبر عن خلل هيكلي يؤثر سلبا على أداء الاقتصاد الوطني ككل ويُثقل كاهل ميزانية الدولة بأعباء لا مثيل لها في بقية بلدان العالم. تتوزع هذه النفقات الهائلة على الأجور والمرتبات والغاز والوقود والصيانة وغيرها من المصروفات الجارية، إضافة إلى النفقات الاستثمارية لبناء محطات جديدة وكذلك كلفة استيراد الكهرباء من إيران على وجه الخصوص. ونتيجة لهذا الوضع الشاذ فإن الدولة لا تستعيد من خلال بيع الكهرباء سوى 11,5 % فقط من الأموال التي تنفقها في توليده وتوزيعه. في المقابل تصل الفجوة المالية إلى 88,5 % والتي تمثل دعما مباشرا وغير مباشر لتعريفة الكهرباء. غير أن هذا "الدعم" لا يصل عمليا إلى المستحقين وإنما يذهب في الغالب هباءً نتيجة الفساد والتجاوز على الشبكة ومظاهر الضياع والهدر. من جانب آخر يُلقي وضع القطاع المزري بظلاله على ميزان المدفوعات حيث تزيد قيمة الغاز والوقود والكهرباء المستوردة من إيران عن مليار دولار سنويا الأمر الذي يعني بأن المنتجين الإيرانيين يستفيدون أيضا من الدعم العراقي.
إزاء هذا الوضع غير الطبيعي لا بد من إعطاء الأولوية لإصلاح قطاع الكهرباء عبر اتخاذ إجراءات جذرية في مجال الانتاج والتوزيع والاستهلاك . ومن البديهي ان ذلك لن يتحقق بالدعوات الطيبة لترشيد الاستهلاك وشعارات مناهضة الفساد، وإنما يتطلب البدء دون إبطاء بتعديل الآليات الاقتصادية التي يقوم عليها القطاع لكي يعمل بالحد الأدنى من الكفاءة. صحيح أن وزارة الكهرباء مطالبة بتفعيل الإجراءات اللازمة لخفض التكلفة، ولكن الخلل الرئيسي يكمن في مشاكل التوزيع والاستهلاك. وهذا ما تثبته بيانات وزارة الكهرباء نفسها والتي تشير إلى أن نسبة الضائعات (أي الفارق بين الطاقة المستلمة في المحافظات والطاقة المباعة) تبلغ 52 % ، أي أن أكثر من نصف الطاقة يذهب كفاقد دون مردود. ومن الملفت للنظر هنا هو التباين الشاسع بين المحافظات. ففي حين تبلغ نسبة الضائع في بابل 26 % (وهي نسبة عالية أيضا) يصل هذا الرقم في مدينة الصدر ببغداد إلى 66 % وفي صلاح الدين إلى 87 % وفي الرمادي 100 %!!. وإذا كانت هذه النسبة تتأثر بقدم المحولات ومعدات النقل والتوزيع وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وأعمال التخريب، فإنه من الواضح أيضا أن جزءا كبيرا من الفاقد يعود إلى التجاوز على الشبكة والذي تحول في السنوات الماضية وبسبب تدهور هيبة الدولة إلى ما يشبه الرياضية الشعبية في العراق.
تُقدر بيانات وزارة الكهرباء نسبة المتجاوزين بـ 9 % من إجمالي عدد المستهلكين. ولا يستبعد أن يكون العدد أكبر لأن أشكال التجاوز كثيرة ومتنوعة. وبما أن هؤلاء المتجاوزين لا يدفعون شيئا أو أنهم دفعوا مبلغا زهيدا كرشوة مقابل غض النظر عن فعلتهم، فإنه من البديهي أن آخر ما يفكرون به هو ترشيد الاستهلاك، وإنما يلجأون عادة لاستعمال كل ما لديهم من أجهزة كهربائية الأمر الذي يشكل عاملا إضافيا لزيادة الضغط على الشبكة. ولا تقتصر الأضرار نتيجة هذا السلوك على الخسائر المالية فحسب، وإنما يجب أيضا مراعاة معايير العدالة الاجتماعية. فالسكوت على هذا الشكل المنتشر من الفساد يعني أيضا عقابا بحق المستهلكين النزيهين الذين يدفعون ثمن هذا التجاوز الذي يتجسد في انقطاع الشبكة الوطنية وهدر المال العام . ونتيجة للترهل الإداري السائد في القطاع العام العراقي يصعب التصور بأن وزارة الكهرباء ستكون قادرة على القضاء على مشكلة التجاوز أو متابعة المتخلفين عن سداد فواتير الكهرباء.
في ظل هذه الظروف يبدو أن إحالة جباية الكهرباء إلى شركات خاصة خطوة بديهية ويمكن أن تحقق نتائج مرضية على المدى القصير. فمن الطبيعي أن يكون القطاع الخاص حريصا على مطالبة المستهلكين بدفع ما بذمتهم من مستحقات مالية، لأن التهاون في ذلك سيعني نهايته المحتمة، بعكس القطاع العام الذي يعيش في كثير من الأحيان عالة على ميزانية الدولة. وعندما يكون هناك تقارب زمني بين الاستهلاك ودفع ثمنه فإن الدافع الذاتي للترشيد سيكون أقوى. كما يساهم هذا النظام في القضاء على البيروقراطية وظاهرة التلكؤ في مد التيار الكهربائي نظرا لأن أرباح الشركات الخاصة ستتوقف على قدرتها على إيصال خدماتها إلى المستهلكين . وفي كل الأحول فإن مشروع "الخدمة والجباية" لن يعني زيادة في تعريفة الكهرباء التي ستبقى ضمن الصلاحيات العائدة للدولة.
إن مشكلة الكهرباء مشكلة اقتصادية بالدرجة الأولى وبالتالي لا يمكن حلها بأوامر إدارية أو بعضات أخلاقية، وإنما بطرق اقتصادية عبر مراعاة آلية السوق التي أثبتت جدواها على مدى آلاف السنين ولا يمكن وضعها بجرة قلم على الرف بالنسبة لسلعة هامة كالكهرباء كما يتوهم البعض. مثل هذه الخدمة تدخل في انتاج معظم السلع والخدمات، وبالتالي فإن العشوائية في تحديد سعرها تترتب عليه آثار وتشوهات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق يصعب التحكم بها. وهذا ما تؤكده ليس فقط تجربة الدول المتقدمة، وإنما أيضا دول نفطية أكثر ثراءً من العراق، مثل السعودية والكويت والتي لجأت أيضا في السنوات الأخيرة إلى إجراء تعديلات جذرية في نظام أسعار الطاقة. وبدون ذلك سيبقى الظلام يُخيم على المدن العراقية بين الحين والآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت